الفصــــــل الأول
3-البطل الاسطوري:
4-البطل التراجيدي
3-البطل الاسطوري:
ان ما نقلته الرسوم المكتشفة على جدران الكهوف هو جزء من محاولات الانسان في السيطرة على موجودات الطبيعة وظواهرها التي شكلت صور القوى الغيبية واخذت موقعها الخارق في عالمه الاسطوري على هيئة الهة للخصب والنماء والهة للخير في مقابل الهة الشر والدمار التي كانت تهدد حياته فكانت هذه الرسوم تشكل فكرة مبكرة وغريزية تلقائية للانسان للتمظهر اللاارادي بشكل البطل.
فكان لابد للتجربة الانسانية وهي في بواكيرها الاولى ان تشق الطريق في تامل الظواهر الكونية، وكانت الاسطورة حيث…كان الانسان من خلالها يصور الالهة في صراعهم مع بعضهم في الاساطير الاولى بوصفها المصدر الاول للظواهر الكونية والمنظمة لها، فهو عندما فكر بكل هذه الظواهر الكونية من حولها ربطها بقوى غيبية بعيدة تسيطر عليها وتحكمها وهي تتصارع فيما بينها لخلق حالة من التوازن بين الخير والشر، فالاسطورة هي الوسيلة التي حاول الانسان من خلالها ان يضفي على تجربته طابعا الوهيا فكريا.([1])
لذا فقد كان من الضروري ان يكون لهذه الاسطورة بطلها الموضوعي الذي تكمن اهمية وجوده في تشكيل قوى الصراع.
فالبطل الاسطوري بوصفه رمزا مثاليا اعلى هو رمز يتناسب وكون الاسطورة بحد ذاتها نموذجا مثاليا اعلى وعليه فان هذه الصورة المثالية المكونة للبطل من شانها ان تحقق ثقلا يمكن ان يقابل ثقل السحر في طاقته المثالية او حتى تقابل الدين في صورة العالم العلوي.
ويبدو ان اراء (يونج) في الانطلاق من الوعي الجمعي واراء (فريزر) في مدرسته التطويرية كلها نحت هذا المنحى في دراسة شخصية البطل عبر ارتباطه بالطبيعة وموقفه منها، لذلك فقد ارتبط هذا التطور في دورة حياة البطل في الاسطورة بالدورة الشمسية او دورة فصول السنة حينما يرمز الفجر الى ميلاد البطل او الغروب الذي تدور حوله اساطير الموت والهبوط من العالم العلوي (الجنة) الى الارض والظلام والشتاء وعلاقتهما بانهزام البطل.([2])
فالاسطورة في مفهومها الاولي هي حكاية تُحكى وهي ليست محاكاة فعل كما هو في التراجيديا، وانما هي الفعل الذي يمتد من الماضي الى المستقبل و”الاسطورة هي قطعة من حياة الروح، تفكير الشعب الحلمي مثلما ان الحلم اسطورة الفرد”([3]). فأن البطل هو الاسطورة الحلمية للشعب.
غير ان الشرط الذي يحدد سمات البطل في الاسطورة يبدو اكثر ارتباطا بالصفة الالهية حيث تؤكد بعض المفاهيم هذه الصفة، بوصفها تحديدا لصفاء النوع الاسطوري حيث “يذكر (فونك) من معجمه..انه لابد ان يكون للاسطورة خلفية تاريخية بمعنى ان تكون شخوصها الرئيسة من الالهة. فاذا لم يظهر في الحكاية الهة او انصاف الهة فان هذه الحكاية تندرج تحت صنف قصص شعبي اخر”([4]).
ولعل هذا الشرط قدر اقترانه بضرورة الخلفية التاريخية فانه يعطي (اوديب) مثلا مشروعية الاقتران بالاسطورية ويعزز ذلك الاصل التاريخي لحكاية اوديب وتواترها عبر الاجيال.
وان هذا الشرط في البطل الالهي لهو اقرب الى شرط اقتران الاسطورة بالطقوس الدينية حيث “العلاقة الوثيقة بين الدين والاساطير في المجتمعات البدائية او البسيطة قد اثارت اهتمام بعض الباحثين وفي مقدمتهم فوندت، ودوركايم، وهيوبرت وغيرهم حيث لاحظ هؤلاء الارتباط القائم بين الاسطورة والطقوس الدينية وبين العرف المقدس والبناء الاجتماعي للتوصل الى نظرية سوسيولوجية علمية عن طبيعة ودور الاساطير في المجتمع”([5]).
وبالتالي يمكن تعرف المكونات الاجتماعية للبطل الاسطوري ويرى (جيمس فريزر)* رائد (المدرسة التطويرية) ان الجنس البشري قد مر بمراحل ثلاثة هي مرحلة السحر ومرحلة الدين ومرحلة العلم، وان الاسطورة على وفق ذلك ترتبط بالسحر الذي يرتبط بالبدائية والهمجية ويعارض جماعة (المدرسة الوظيفية)**ورائدها (مالينوفسكي) هذا الراي حيث ترى هذه المدرسة ان السحر لا يرتبط بمرحلة حضارية تتسم بالبدائية كما وصفها (فريزر) وانما السحر متداخل مع الانشطة الروحية والفكرية الاخرى وهي الدين والعلم، فالسحر عند جماعة (مالينوفسكي) له وظيفته ويلبي حاجات نفسية عند الانسان بقدر ما للدين من وظيفة في الحياة الحضارية وكذلك فان الاسطورة مرتبطة بالانشطة والمكونات الفكرية والاجتماعية للحياة التي تؤثر في صياغة شكل البطل الاسطوري. حيث يضيف الى مكونات الخصائص الاسطورية جماعة (المدرسة البنائية الانثروبولوجية)*** ما اشار اليه ليفي شتراوس حول الاسطورة والتشاكل، في ان الاساطير يمكن اعتبارها جسدا واحدا وان الروابط الداخلية بين الاساطير ذات اهمية كبيرة على الرغم من انها تنتمي الى انساق اسطورية عديدة.
في حين تتوسع (الموسوعة البريطانية) في توضيح الاسطورة وسمات البطل الاسطوري بوصفها “رؤيات خاصة تتضمن ظروفا واحداثا خارقة تقوم بها الالهة او ابطال خرافيين من البشر تختلف تماما عن الظروف والاحداث التي يقوم بها الانسان العادي، وكل اسطورة تتمتع بقوة خاصة، وغالبا ما تقدم نفسها على انها تفسير وتوضيح للحقائق دون الاهتمام باختلافاتها تماما عن الحقائق الطبيعية”([6]). وان هذا المفهوم ينطلق من خارقيه الاسطورة وميتافيزيقيتها من خلال اتصالها ببعض الابطال الخرافيون من البشر وهنا يمكن ان ينشأ تداخل ما بين الاسطورة والخرافة كما يمكن ان يؤشر (بطلا خرافيا) في مجاور (البطل الاسطوري) وكذلك الحال مع (البطل في الحكايات الشعبية) اذا ما عرفنا “ان الحكايات الشعبية باسرها ومثلها الحكايات الخرافية والاساطير هي بكل تاكيد بقايا المعتقدات الشعبية، كما انها تاملات الشعب الحسية وبقايا قواه وخبراته”([7]). ومهما يكن من امر فان سمة الخارقية قد ظلت ملازمة لهؤلاء الابطال الذين اختلفوا شرطا عن الانسان الاعتيادي واتصلوا بسمات الانسان البدائي عبر (بطل تاريخي) يشكل مجمل السمات المتقدمة اذا ما اخذنا بنظر الاعتبار ان الفكر الاسطوري الفلسفي هو امتداد الماضي في الحاضر واتصال بالمستقبل وهو احتواء عميق لمضامين اخلاقية مثالية ذات بعد رمزي وفلسفي في المجتمعات البدائية.
اذ ان… السمات التي نسجها الفكر البدائي للانسان الامثل هي التواضع الروحي وحسن القصد في الاعمال حيث لا مكان للغطرسة في هذه الجماعات البدائية.
وان السمة الاخرى تتمثل في قوة الشخصية وحكمتها، بوصفها اسمى الفضائل وهي المرتكز للشخصية في المنظور الفكري والايديولوجي السائد والذي يعني فيما يعنيه الاستقامة والصدق والشجاعة.
ومن السمات التي قدمها التصور الفكري للاسطورة ايضا، الاعتراف بحدود الممكن في واقع الحياة نتيجة قيود العوامل الطبيعية في مواجهة الانسان واستيعابها امكانياته وقدراته في ضوء هذه الحدود وكذلك فيما يتسم به من الواجبات الملقات على عاتق الزعماء للجماعة من توازن مزاجي وحلم وعادات عقلانية.
هذه كلها جعلت من الانسان البدائي الذي يشكل المكون الفني والفكري الاساس للبطل الاسطوري مصدرا مهما في دراسة الشخصية الاسطورية التي تعددت وتنوعت فيما بعد في المجتمعات الحضارية عبر تنوع الاساطير ذاتها.([8])
وتعرض لنا الدراسات والمؤلفات في هذا الخصوص عددا من انواع الاسطورة* يهمنا منها نوع (اسطورة البطل الاله) قدر تعلق الامر بالبحث حيث..مهمة البطل هي الوصول الى مصاف الالهة، ولكن صفاته الانسانية تشده دائما الى العالم الارضي.. حيث تضيف (د. نبيلة ابراهيم) ان الاله البطل ليس هو البطل النصف الاله، كما ان البطل الذي يحتوي تكوينه قدرا من الالوهية وقدرا من الانسانية ليس هو الانسانية في الاساطير المتاخرة، ويكفي ان تتطور صورة البطل في الاساطير حتى نتاكد من ان الانسان كان يسعى للوصول الى المزيد من التحديد في المفاهيم الانسانية والكونية.([9])
البطل الاسطوري.. بطلا موضوعيا
ان التفسير التكويني للبطل الفرد في مفهوم الانثروبولوجية يقوم على اساس تحديدهم اعمال الفرد في اطار علاقتها بالطقوس وارتباطها بكل العادات والتقاليد التي تمارسها الجماعة، حتى صار البطل في ظل ذلك تعبيرا عن هذه الوظيفة المتمثلة في تجسيد ارادة الجماعة.
واذا كان البطل في التراجيديا بطلا ذاتيا في تجسيد قدراته الفردية وذاتيا في تكوينه الفني الفكري عبر تحريكه للفعل الدرامي ودوره الفاعل في تصعيد عوامل الصراع المتوازن بينه وبين القوى التي تقابله، فان البطل الاسطوري قد ارتبط منذ البداية بالالهة وبالقوى الغيبية واستمر على هذا النحو في تعامله مع الكائنات الغريبة التي هي مزيج بين الانسانية والالوهية في وقت واحد، ويتعامل مع قوى الطبيعة الخارقة ويصورها تصويراً حيويا بوصفها ليست اشكالا من المادة بل ارواحا لها وان هذه الارواح هي على الارجح ما سميت بالالهة.. البحار.. الانهار.. الشمس وغيرها.
واذا كان البطل الاسطوري لا يشعر بحدود فاصلة بينه وبين الماضي والحاضر في هذا العالم فاننا لا يمكن ان نسميه بطلا ذاتيا كما هو الحال بالنسبة للبطل التراجيدي.
ان موضوعية البطل الاسطوري تشبه الى حد ما مفهوم الموضوعية من حيث ارتباطها بالعلم. اذ يعتبر (فريزر)..عصر الانسان البدائي، عصر الاسطورة شبيه بعصر العلم حيث كلاهما يقوم على الايمان بنظام دقيق في التعامل مع الظواهر الطبيعية فضلا عن ان الموضوعية الاسطورية تشترك مع الموضوعية العلمية في ان كلتيهما تقوم على تصور للقوى الخارجة عن الانسان، وليس المهم تصور الانسان البدائي لهذه القوى هو تصور خاطيء بل المهم هو ان البطل الموضوعي في الحالين لا يصور ذات الانسان كانها محور الكون، بل يجعلها صدى وانعكاساً وامتداداً لشيء من خارجها([10]). وعليه فان المكون الفني والفكري للبطل الاسطوري هو مكون موضوعي.
البطل الاسطوري الحديث
لقد عكست الاساطير البدائية والاساطير الاغريقية نموذجا للبطل اضخم بكثير من الحقيقة التي تحيط به من خلال وصفه الالهي او شبه الالهي الذي تقدم ذكره، وهذا ما جعل البطل الاسطوري الذي يبدو في هيئة انسان مثل (اوديب) موضع تحليل وتساؤل من قبل الكثير من كتاب ومنظري العصر الحديث، مما اثار الجدل حول مكوناته الاسطورية، اذا ما نوقشت هذه المكونات بوعي الحاضر وبفرضية مغايرة لواقع العلاقة بين البطل وواقعه او بين البطل والقوى التي تحكمه او تحكم قبضتها عليه ومن خلال تحكم الحضارة الحديثة العلمية والنظريات التي اثبتت ان حياة الانسان العقلية لا تقوم على (العقل) وحده كما هي عند فرويد حيث اثبت ان الجانب غير المعقول فيها اكبر بكثير من الجانب المعقول وصار على الانسان ان يتجاوز الواقع ليعبر عن مكنونات عقله الباطن بطريقة تشبه الاحلام، فضلا عن اثر معطيات الحضارة والمكتشفات الحديثة التي ساهمت كلها في ان تفرض ان يكون الانسان اكثر وعيا من القوى التي تؤثر فيه.
وها هو الكاتب الكبير ارثر ميللر يقول: “لو كان اوديب مثلا، اكثر وعيا وادراكا من القوى التي تؤثر فيه لقال انه لا يلام على معاشرة امه ما دام لا يعرف، ولا احد غيره يعرف انها كانت امه، والا لقرر تركها والنهوض باعباء اطفالها ويعتزم التحري عن حقيقة زوجته المقبلة وبذلك يحرمنا من مسرحية لطيفة جدا، ولكنه لا يكون واعيا الا عند النقطة التي يبدو فيها الاثم، ولا عزاء له الا ان يفقأ عينيه. (ويسائل ميللر) فما الماساة في هذا، ولماذا لا يكون مضحكا؟ كيف نحترم رجلا يتطرف بهذا الشكل بسبب شيء لم يكن في يده حيله في تعزيزه او درئه”([11]).
وهو هنا يريد ان الاجدر بالاحترام ليس الرجل وانما القانون الذي ينتهكه عن جهل عندما يكون القانون هو المقياس لحياة الجماعة والمنظم لافعالها.
ان المراحل الاولى من القرن العشرين قد اشرت ضيق دائرة النشاط الانساني الفردي بعد ان ظهر ان الرومانسية صائرة الى الزوال وكذلك الواقعية في خلال الاتجاه الى الحياة الجماعية ونبذ الروح الفردية التي نادت بها الرومانسية او المعقولية الصرفة التي نادت بها الواقعية، وهذا ما ادى بالتالي في تقدير الباحث الى شعور الكتاب او بعضهم من المحدثين بانهيار ركني العقل والفردية التي قامت عليها ثقافة العصر.
لذا فقد وجد بعض الكتاب والشعراء ان يتجهوا صوب الشكل الاسطوري بثوبه الحديث وذلك “كما يقول (اليوت): لاحداث توازن مستمر بين العالم القديم والعالم الجديد للسيطرة على تلك الصورة العريضة من العقم والفوضى التي تكون تاريخنا المعاصر”([12]).
ويضيف (شكري عياد) على ذلك بان هناك…من الكتاب من خلق لنا هو نفسه اسطورة العصر الحديث فصور لنا بطلا كالبطل الاسطوري الذي يعيش داخل حقيقة اضخم منه، لذا فقد انسحب منطق ارادته الخاصة، الى منطق الحقيقة الضخمة، التي كانت في السابق تساند البطل الاسطوري الاول. اما الحقيقة الضخمة في الاسطورة الحديثة فانها تضطهد البطل وتحاصره الى ان تقتله لا كملك كما حدث لاوديب وانما (ككلب) وهذا ما فعله (كافكا) في المحاكمة.([13])
وهنا يتضح فرق المكونات بين الاسطورة القديمة والاسطورة الحديثة من حيث وضع البطل فيها، اذ ان القوى الخارجية في الاسطورة الحديثة هي الظاهرة في معاداتها للبطل في حين تصورها الكلاسيكية على انها مناصرة له ومساندة له اضف الى ما تقدم ان هناك بعض الكتاب من قام بمحاولات للتمرد على الاسطورة القديمة التي يتعامل معها سواء بالمغايرة او التصرف بالمضامين الاسطورية لخلق اشارات جديدة تتناسب وروح العصر ومن امثلة ذلك (سارتر) وهو المبشر بالوجودية الثورية قد حاول ان يسبغ القناع الاسطوري على مسرحيته (الذباب) عندما وظف اسطورة (اورست) البطل الاغريقي “من اجل خداع الرقيب* على الرغم من زعم سارتر انه كان قد عقد عزمه على تزييف الاسطورة بالتمرد عليها”([14]). لذلك فقد تقنع بقناع الاسطورة ظنا منه انه لو كان قد اخترع بطل مسرحيته اختراعا لباءت بالفشل ولابتلي بسوء الفهم فما كان منه عند ذاك الا ان يلجأ الى شخصية جاهزة دراميا، ان هذا التقنع في صياغة شكل البطل في اطاره الاسطوري الحديث هو ما اسماه (فراي) بـ(استبدال الادوت الفنية).([15])
وهذا ما فعله المثلث الفرنسي المؤلف من (جان جيرودو) في (الكترا) و(الاله الجهنمية) و(انتجون) لـ(جان كوكتو) و(ميديا) لـ(جان انوي) وغيرها من الاعمال التي كانت تنحو في بناءها الى التعامل مع (الاقصاء التاريخي)**او مغايرة ومغادرة الحقيقة الواقعية في ضرب من ضروب التحدي الابداعي.
حيث قدم (جان كوكتو) ببراعة (انتيغون) في استخدام خلاق للاسطورة، واذا كان (جان انوي) قد قدمها بثلاثة فصول فقد استطاع (كوكتو) ان يخلع عليها ثوبا عصريا جديدا غاية في الحداثة وفي فصل واحد استطاع ان يحمل فيه الاسطورة شحنات تجعل منها مثلا اعلى لتحدي القدر وكل القوى الاخرى التي تقف في موقف العداء من الانسان فقد عمل على مغايرة (الاقصاء التاريخي) وذلك بان سحب الاسطورة سحبا الى تاريخيا المعاصر على خلاف ما اوردناه عن مسرحية (الذباب) و(كوكتو) رغم اختلافه هذا كان يدرك ان (الممر نفس الممر) والنتيجة واحدة هي الربط بين العراقة القديمة والحداثة، وهذا ما نجده في الاله الجهنمية حيث (اوديب) يتحدى القدر من خلال صفته الانسانية بوصفه بطلا ينطلق من مكونه الذاتي الذي نصره (ابا الهول) بمعرفته السر الذي كان مصير المدينة كلها مرتبطا بحل لغزه.
وفي نموذجه الثاني (انتيغون) فقد صار المكون الفكري اهتماما مركزا عندما جعل للبطلة موقفا يخجل كل الرجال ويكون مثلا لهيمون ابن كيون الذي يمثل عبر سلطته السيف المسلط على رقاب البشر.
ان الاستخدام الحديث للاسطورة في الادب بشكل عام والمسرحية بشكل خاص لم يقف عند حدود (الاقصاء التاريخي) وانما اعاد بعض الكتاب صياغة الاسطورة بمفردات حديثة اقترنت بتكوين البطل الاسطوري الحديث-مثل استخدام الرموز الدينية في ديانات مختلفة بدءا من (سيزيف) وحتى (الصليب) ومرورا بالعديد من الرموز والاشارات الدينية وغير الدينية وبمختلف مدلولاتها القديمة والحديثة لتخلق فيما بعد مكونات جديدة للبطل تبعا لهذه المتغيرات فضلا عما حققته التكوينات الجديدة من علاقة بالمكون الموضوعي من خلال الشعور بوحدة الوجود والعلاقة بين الانسان والكون احساسا منه بقدسية الروابط الروحية والنفسية بينه وبين الحياة التي يحياها في الوجود الكلي.
ومن خلال خلق المزيد من الاساطير صار الكاتب يعي ان كل اسطورة انما تنمي تكوينه الادراكي والشعوري عبر ما تتعامل معه من صور فنية ورموز اسطورية و(جان انوي) مثلا في (انتيغون) او (ميديا) يحاول تاكيد الصفة المثالية في ابطاله رغم انه يحاول مثل كل الوجوديين ان يقرب بين ابطاله وبين الانسان العادي وبينهم وبين طبيعة الحياة المعاصرة فهو يرفض جاهزية السعادة الزائفة ويتمرد على الامل من خلال جعل الحرية شرطا للوجود الانساني وان يجعل من البنية الفكرية لبطله هي السلوك العام وان تكون له فلسفته الشخصية، فالشخصيات التي يقدمها تعيد علينا ما نعرفه ويعرفه من قبلنا حتى الاغريق انفسهم الا انه يقنعنا بانسانية ومعاصرة شخصياته وهذا ما يحدث في (انتيغون) حيث تدافع عن قيم مطلقة امام النظام السياسي، وهذه الاحالة الفكرية وحدها يمكن ان تعطي (انتيغون) المعنى البطولي المعاصر والكبير فضلا عما تنطوي عليه المسرحية ومنذ (سوفوكليس)، من تناول لموضوع الحرب والموت والدفاع عن القيم النبيلة للانسان.
وهذا ما لم يفعله (جان انوي) وحده او(جان كوكتو) وحده وانما كان ديدن الكثير من الكتاب المعاصرين في صياغاتهم لانواع البنى التكوينية فنيا وفكريا لابطالهم الاسطوريين.
4-البطل التراجيدي
لما كان الحديث عن التراجيديا امرا يستدعي منا استحضار الكثير من التفاصيل والمفردات المكونة لهذا المفهوم، الذي هو من السعة بمكان بحيث لا يمكن ان يلم به بحث واحد، فان هذا البحث يحاول ان يضطلع بمهمة تسليط الضوء على واحد من المكونات الاساسية في التراجيديا وتحليله الى عوامله ومكوناته الاولية وصولا الى فهم المظاهر التي تبدو عليها هذه المكونات في موضوع محدد الا وهو موضوع البطل التراجيدي.
ففي الوقت الذي تكون فيه الشخصية عنصرا مهما وربما اهم عناصر الدراما، فان موضوع البطولة يكون قد اكتسب من الاهمية ما يجعله جديرا بالدراسة والتحليل، واذا كان هذا الموضوع قد اخذ حصته من البحث في مجال البحوث التاريخية والدراسات الادبية عبر القصة والشعر وكانت هذه الدراسات قد تمخضت عنها نتائج فيما يخص التحليل النفسي والدراسات الانثروبولوجية لمفهوم البطولة، فان هذه الدراسات الادبية قد ركزت على فكرة الذات والموضوع بوصفهما المفهوم الاساس في نظرية المعرفة.
ومن هنا تبدو فكرة دراسة المكونات الفنية والفكرية للبطل في الدراما فكرة مقبولة لانها ستنطلق من زاوية تحددها الطبيعة الذاتية للبطل في التراجيديا بوصفه: “الشخصية الارتكازية في القطعة المسرحية ولاهميتها في بناء الاحداث فهي دائما محط اهتمام المتفرج ومثار عواطفه او قد يكون البطل- أي الشخصية التي تحرك الاحداث متمثلا في انسان او في مكان او فكرة معنوية ان العبرة بالبطولة هنا هو العمود الاساس الذي تدور حوله رحى الوقائع”([16]).
ولعل ما يهمنا هنا في دراسة النص المسرحي هو تقديم قراءة للمكونين الفني والفكري للبطل بوصفه قيمة انسانية تؤثر وتتاثر بما حولها من احداث بالشكل الذي يجعلها محورا لهذه الاحداث، وهذا يستدعي التاكيد على المكون الذاتي لهذه الشخصية (البطل) الذي يضطلع بالمهمة الاساسية في التاثير المسرحي حيث ان المسرح “يركز احساس البشرية بنفسها في صورة ابطال وعملية التركيز هذه هي اخطر ما يواجه الفنان المسرحي واذا لم ينجح فيها فان جميع وسائل التكنيك تبدو مفتعلة”([17]).
لذا فان ابراز الشخصية الرئيسة في هيئة البطل تعد واحدة من المهام الجسام في عمل الكاتب المسرحي.
ويذكر (Sam Smiley) في كتابه (Play Writing): ان الكاتب متى ما شكل مسرحية ووصفها في حوار، فانه لا يتعامل مع مجموعة من الشخصيات المتفردة التي لا علاقة فيما بينها- وانما بصورة جمعية، فكل شخص يرسم مصيره الخاص بصلة مباشرة مع قوى الكل الجماعية ومع الشخصيات الاخرى ومع الافكار البارزة.
وتميل الصفات ذات العلاقة لجميع الشخصيات لان تغمر كل فرد في المسرحية وتنسجم، لذلك فان الكاتب المسرحي يجاهد ليصنع شخصية او اثنتين او عددا صغيرا من الشخصيات المهيمنة في المسرحية، والحق فان معظم المسرحيات تركز اساسا على شخصية واحدة.
ان مشكلة البؤرة في الدراما تمثل حقا احدى مشاكل التحدي في القرن العشرين ولعله يشير هنا الى مظاهر التراجيديا الحديثة بعد موت التراجيديا القديمة فهو يرى ان جماعية الانسان في المجتمع الجماهيري المعاصر تنظر للفرد بدرجة اقل وتسعى الى اذابة شخصية الفرد في الجماعة فهو اذا ما بدى اكثر بروزا من المجتمع نفسه فهذا معناه تجسيد قيمة الفرد وكبرياءه ومثل هذا التجسيد يقترب في اكثر الاحوال من العصب المركزي للدراما.
وان معظم الجماعات الانسانية في الدراما تبدو اكثر وضوحا اذا ما حاولنا ان نسلط الضوء على شخصية واحدة منها في (بؤرة) محددة- ومثل هذه الشخصية هي الشخصية الرئيسة (Protagonist) ويفضل بعض الكتاب مصطلح اخر، مثل البطل والشخصية المركزية، الشخصية الموءرة وان هذه الشخصية تبدو اكثر وضوحا في الميلودراما من خلال دورها القيادي.
اما بالنسبة للاغريق القدماء كان المصطلح يعني على اكثر الاحتمال الممثل الاول* او الرئيس وبالنسبة لمنظري الدراما الحديثة فانه يعني الشخصية التي تجتذب بالانتباه الاكثر من قبل المؤلف من الشخصيات الاخرى وربما من الجمهور، والشخصية الرئيسة هي الفرد الذي بكل ارادة واختيار يجعل الاحداث تحدث والفعل يجري. وان مشكلة هذه الشخصية الـ(protagonist) اكثر من أي شخصية اخرى، هي مركزية بالنسبة لتنظيم المسرحية الكلي وهي المفتاح للنص، وبموجب هذا الاعتبار فانه الوسيط الرئيسي لاعادة تاسيس التوازن. فهو اعتياديا يكون فردا واحدا ولكن من الممكن ان يكون مجموعة**، وهي ضرورية اكثر من ذلك لانها تقوم بالاكتشاف والقرارات الاساسية في المسرحية وان هذه الشخصية (Protagonist) هو عادة يقوم بالقاء معظم الحوار على المسرح ويرتبط بمعظم الفعاليات او على الاقل اكثر الامور التي تقع عليه.
وفي التراجيديا غالبا ما تكون هذه الشخصية خيره اكثر مما هي شريرة او على الاقل من امثال ذلك (اوديب هملت ونلانش دي بوا) وهي نماذج للبطل معروفة جداً اما في الكوميديا فانه غالبا ما يكون اما قائدا للناس العاديين في المسرحية والذي يسقط ضحية لمواقف غير اعتيادية او شخصية مركزية غير اعتيادية، شخص يخلق الموقف الكوميدي ويعمل كاضحوكة ومثال النوع الاول (بلنشيلي) في (الاسلحة والرجال) ومثال النوع الثاني (ليستراتا) و(خرباغون).
وفي الميلودراما فانه في العادة بطل خير يواجه المعاناة طوال المسرحية ليربح اخيرا وفي الميلودراما الامريكية تظهر شخصية (بو) في (موقف) لوليم انغ وشخصية (جوني) في (زوجة المطر) لميشيل غازر بوصفها مثالين نموذجين للبطل، في حين تظهر في الميلدراما الانجليزية شخصية (جيمي بورتر) لجون ازبورن في (انظر الى الوراء بغضب) لتعبر عن نموذج للتمرد البرجوازي الصغير، القادر بما يصنعه من صخب وما يطلقه عقله من انفعال في افكاره المثالية في معارضه الواقع ان يتيح لتمرده عمرا اطول من عمر شخصيته، ثم يؤكد موقفا فكريا انفردت به الشخصية عن مجموعة الشخوص التي حولها ولو ان حجم البطولة الذي اكتسبه (جيمي) وهذه المجموعة من الشخوص في بداية وجودهم كان له بريقه الاكثر اذا ما نظرنا اليهم في سياق اللحظة التاريخية التي تختلف حتما عن وقتنا الحالي.
وفي احيان تلعب الشخصية الشريرة دور الـ(Protagonist) في الميلودراما المليئة بالشخصيات الشريرة ومثال ذلك (فرجينا) في (الثعالب الصغيرة) و(ليليان هيلمان) و(مارثا) في (من يخاف فرجينيا ولف) لادورد البي.
وفي الدراما التعليمية فان الـ(Protagonist) اما ان يكون مثالا مرغوبا او مثالا حقيرا فهو اما ان يكون سلبياً او ان يكون ايجابيا ومثال ذلك (سن تي) في (الانسان الطيب في سيتزوان) لبريخت او في ان يكون مثل (سول لميتزبريج) في قصة ناجحة لجون هواردلسون.([18])
وفي الدرامات الاخرى نجد ان الابطال مجموعة مثل (النساجون) لهويثمان و(الاعماق السفلى) لغوركي و(انتظار اليسار) للكينورد اوديت وهي مواصفات للبطل النموذجي..ومن امثلة البطل المتنوعة كثيرة منها (ميديا) (سيرانو) (عطيل) (الام كوراج) وغيرهم.
البطل والشخصية الضد-الخصم (Antagonist)
لما كان الصراع هو العنصر الاساس الذي تقوم عليه بنية الدراما وان الشخصية (البطل) هي محور هذا الصراع فانه بالضرورة لابد ان تكون هناك قوة تقابل قوة البطل في الميلودراما كما هو قوة مقابل قوة مهما يكن نوع القوى المتصارعة في الدراما التقليدية.
وان هذه القوة التي تماثل البطل في تشكيل عناصر الصراع الميلودرامي او جانبي الصراع يمكن ان يطلق عليها اسماء منها الشخصية –الضد للبطل- او الخصم للبطل.
ويعرف ابراهيم حمادة الخصم:”هو الشخصية الرئيسية المعارضة، او المنافسة للبطل المسرحي وقد يوصف الخصيم بالشر فيسمى “بالشخصية الشريرة”… ويكون الخصم في العادة شخصيا قويا وهذه القوة هي التي تؤهله لمنازلة الشخصية المحورية ومناضلتها”([19]).
وهو الشخص التالي من حيث الاهمية في تنظيم المسرحية عندما يكون الصراع بين شخصين، ويمكن ان تكون المسرحية في بعض الاحيان بدونها عندما يكون الصراع ذاتيا، وان هذه الشخصية (Antagonist) ان وجدت فهي تمنح الوضوح والقوة للبنية الدرامية، والمهمة الاساسية للخصم في الدراما هي معارضة (البطل).
والخصم عادة يمثل المعوقات لذا فان ارادته واختباره تقريبا هي نفسها كما في ارادة واختيار البطل او اكبر، ولكي تحقق الازمة الناتجة والتعقيدات فهي ينبغي ان تكون اكثر ديناميكية ويمكن ان تصل الى المتلقي بسهولة وباقناع لذا فان الكاتب ينبغي ان يراعي جانب التكافؤ في هذه الشخصية لكي يحقق توازنا معقولا للصراع.
والخصم غالبا ما يكون مسؤولا عن التهيئة لمشكلة المسرحية العصبية واحيانا ما يكون الخصم قائدا لمجموعة تقف بالضد من البطل. والخصم ايضا يمكن ان يواجه قرارات اخلاقية مناسبة ويكون دائما الثاني على المسرح من حيث مساحة حواره وزمن تواجده في المسرحية ودرجة نشاطه.
ومن المصطلحات الشائع استخدامها له- وغد-لئيم- معارض-معوق رئيسي. ومن الصيغ المتنوعة للخصوم هناك في التراجيديا منهم من يكون شريرا اكثر مما هو خير مثل (ياغو) الذي يعد من اشهر الخصوم واكثر شهرة في الشر. ثم (كريون) في (انتيغون) و(كلوديوس) في (هملت) و(ستانللي كوالانسكي) في (عربة اسمها اللذة).
وفي الكوميديا فهو يتراوح بين خير بالضرورة او شرير- اعتيادي او غير اعتيادي بل هو الشخصية الذي يوقع البطل في مصيدة الضحك او الذي يصارعه ومن نماذج الضد- الخصم ايضا (كلبانت) في (البخيل) و(كاترين) في (ترويض النمرة).
ومعظم الخصوم في الميلودراما شريرين ويمكن القول عنهم انذال ويستحقون العقاب الذي يصدر بحقهم.
وفي الدرامات التعليمية فانه ياخذ الموقف الضد من البطل من حيث الفكر والسلوك والانتماء وهو يشابهه في الميلودراما حيث يكون شريرا اذا كان البطل خيّراً والعكس بالعكس. ومن الخصوم البارزين في الدراما التعليمية (هوانغ تي) في (سور الصين) لماكس فريش و(يانغ سولي) في (الانسان الطيب من ستزوان) لبريخت.
ولما كان هذا البحث يركز على البطل ومكوناته في جميع مفرداته فلا يجد الكاتب ضيراً من الاسترسال في الكتابة عن الشخصية الضد بوصفها العامل المساعد والمهم على اذكاء نار الصراع الدرامي الذي يفرضه البطل والعمل على تقويته كلما اتسمت شخصية الخصم بالقوة لذا فقد عني الكثير من الكتاب في تكوين هذه الخصية الخصم وركز بعضهم جهده في صياغة شكل الشر الذي تمثله حتى صارت نماذج جديرة بالدراسة والتحليل، فقد ركز شكسبير مثلا جهدا كبيرا من عبقريته الفذة في صياغة هذا النمط من الشخصيات حيث صور لنا على سبيل المثال (بروتس) في شخصية الرجل الذي ينبض ويفيض بالحرص والامانة رجل يمثل كل التزمت والالتزامات الاخلاقية التي تصل به الى حد مطالبة الناس ومطالبة نفسه اكثر مما يطيق البشر. ومع ذلك فان شكسبير في الوقت عينه صورة في صورة (قاتل). يغتال رجلا سياسيا لم يكن مغاليا في استبداده ولا طاغية مسرفا في فساده..صور بروتس في صورة المقنع فخلع عليه من الذكاء وقوة الحجة والاقناع ما يندر ان يحققه كاتب في وصفه الحسن لصور القاتل الجاحد وناكر الجميل. وذلك ما يمكن ان نجده في (المشهد الاول-الفصل الثاني) من مسرحية (يوليوس قيصر). حيث نجد المناجاة التي صور لنا فيها (بروتس) في صراعه الداخلي ومن خلال حوار يفيض بالحكمة والدهاء المتداخلين مع المكر والرياء حتى لا ينفك القاريء من قراءتها حتى ينظر بعين العطف على هذا القاتل او ن تجد له من امره مخرجا في قوله.
-فاني لا اجد سببا يدفعني الى كراهيته او الزراية به
الا الصالح العام. انه قد يلبس التاج
وهذا يقتضي الحذر في كل خطوة (نضع التاج فوق ناصيته)؟
ان تم يكون كانما جعلنا له حمة
يلحق بها الاذى متى شاء
لان شر السلطان يتجلى حينما يتخلى صاحبه
عن الرحمة ومشاعر الحنان وان كنت واقولها صادقا
في قيصر- ما عهدته قد غلبت اهواؤه على عقله.([20])
ومن النماذج الاخرى للخصم والتي برع شكسبير في صياغة تكوينها الفني والفكري نموذج (ياكَو) الذي يعد فعلا اشهر الشخصيات المنافقة في تاريخ الادب المسرحي لما انطوت عليه من صياغة مركبة تركيبا نفسياً واخلاقياً فريدين من نوعهما.
حيث ان تحليل شخصية ياكو جعل منها من اصعب الشخصيات تصويرا اذا ما قورنت المسرحية كلون ادبي بالقصة والرواية اللتين تتيحان للكاتب فرصة في الوصف للشخصية كيفما يشاء.
الا ان براعة شكسبير هنا في كيفية تحرك هذه الشخصية بالفعل الدرامي وليس من خلال الوصف. فقد جسد شخصية المنافق في (ياكو) بشكل مثير للدهشة ومثير للاعجاب من الناحية الفنية لشدة ما تضج به هذه الشخصية من دهاء وقدرة على المراوغة فقد قدمه في صورة (وغد) و(منافق) لا يخلو من الذكاء والحيلة. ذاك لان عطيلا لم يكن مجرد مخلوق غرر به بحيث امكن (ياكو) ان يبذر في نفسه بذور الشك في زوجته البريئة-فعطيل الزوج الطيب والقائد المحنك في صياغته الفنية جعل من شكسبير يؤسس ما حوله بعناية ليصل به الى ما انتهت اليه الماساة.
حيث قدم لنا (ياكو) بوصفه مخلوقاً ابداعيا مقبولاً ومعقولاً في ظاهرة بدرجة مرعبة، اذ ان شكسبير جعل منه ناجحا في ظن (عطيل) وجعل منه الصديق الامين والصريح ايضا فضلا عما جعله فيه من صفات الرجل الخبير الذي حنكته التجارب وهو يردد على مسامع (عطيل) الحقائق المؤلمة، ونحن نتلقى منه هذا الطابع فعلا. على ان (ياكو) لو كان قد بدا على هذا النحو دائما لانخدعنا نحن انفسنا به ولاعتقدنا ان الماساة كلها انما تقوم على غلطة مؤسفة وانها خالية من الشخصية الشريرة ولبقية المسرحية في حدود سوء الظن الذي يمكن ان يورثه الكاتب من الغيرة في نفس عطيل، ولبقية المسرحية في حدود محاولة لكاتب هاو وليس عبقريا مثل شكسبير.
لذا فقد رسم ملامح شخصية (ياكَو) ورسم بدقة دوافع تضادها مع (البطل) لكي يشحن الصراع بقوة ديناميكية. حيث اكد عوامل سوء النية المبيتة في دخيلة ياكو بشكل محكم مثلما يؤكد عوامل القوة في شخصية البطل وبعناية فائقة-وهذا يتضح من خلال حوارات (ياكو) في اكثر من موقع من النص ويمنحه دوافعه احيانا).
- اني اكره المغربي..والناس يظنون انه في مضجعي..قد قام بدوري ولست ادري ان كان هذا صحيحا…………….
- انه يضع ثقته في وهذا ما يساعد على تحقيق اغراضي…………….
- كاسيو رجل ملائم فهلم الان لا حل محله في منصبه ولا حقق ارادتي بضربة يشحذها الخبث المزدوج…………………..
- كما ان المغربي ذو طبيعة صريحة وطبع حر يظن في الناس
ونلاحظ هنا بعضا من عناصر التكوين التي وضعها شكسبير في الخصم ففي (1) تجد الكراهية تحمل معها دوافعها جعلت من (ياكو) يحاذر من السقوط في شخصية الفظ المنافق، فوجد لنفسه مبررا فيما يفعله وفي (2) ارضية العلاقة التي شكلت المناخ الخصب الذي يمكن ان يتحرك فيه (ياكو) بحرية. و(3) اختياره لكاسيو دون غيره لما هو عليه من مؤهلات ترشيحه للشك فيه بوصفه قائدا ويمكن ان يكون مناظرا دون غيره اولا ولطمع (ياكو) في الاستحواذ على منصبه ثانيا اما في (4) فان شكسبير قد عمد الى الاستفادة من التقاطع الحضاري المتمثل بشخصية عطيل المغربي الاصل مفيدا الشخصية الضد (ياكو) من هذه الشخصية لاستثمارها كارضية لمؤامرة النفاق التي شيدها شكسبير واعطى زمام قيادتها بيد (ياكو).
ومن خلال النموذجين الذين مر ذكرهما نكون قد وفينا موضوع الشخصية الضد حقها لكي لا تعود اليها ثانية في هذا البحث بعد ان صار لدينا تصور واضح عنها وعن اهميتها للبطل الذي هو موضوع البحث.
تكوين البطل التراجيدي
ان دراسة تكوين البطل تستدعي اضافة الى كل ما تقدم دراسة في وسائل التكنيك الادبي للنص المسرحي في صياغة مظاهر البطولة المسرحية من خلال “الحوار والحدث، سواء كان حدثا مركبا او بسيطا، والترابط بين الشخصيات ومستويات الصراع الدائرة وحريات الارادة في ارتكاب الافعال، والتحول في حياة الابطال والنهايات المترتبة على المقدمات”([21]).
واذا ما حاولنا تقصي ذلك فان دراسة البطل التراجيدي لا يمكن ان تبتعد مقدما عن التنظير الاساسي الذي اوجده ارسطو في مفهوم البطل عنده والمقترن بمفهوم (التطهير) حيث وصف الابطال، اشخاص تتم بواسطتهم او بواسطة فعلهم هذه المحاكاة (الماساة) وذلك بقوله “وهذه المحاكاة تتم بواسطة اشخاص يفعلون لا بواسطة الحكاية وتثير الرحمة والخوف فتؤدي الى التطهير من الانفعالات”([22]).
وبهذا يكون البطل قادرا على ان يربطنا بمصيره وان يعكس تجربتنا الذاتية فيثير فينا الخوف والشفقة في نفس الوقت، وهذا يتفق مع قول (احمد العشري) في ان المسرح يركز احساس البشرية بنفسها.
ويتسم الحدث عند ارسطو بسمة اساسية هي سمة التحول في اقدار البطل وان هذا التحول هو الذي يثير هذا التفاعل الذي يربطنا بالمصير الماساوي الذي ينتهي اليه البطل، ولذلك لا نجد ان البطل الفاضل بشكله المطلق، او الشرير بشكله المطلق يثيران فينا هذه الانفعالات، لان البطل الذي بمقدوره ان يحقق ذلك هو الذي يسمو على مستوى الفرد العادي ولكنه ليس فاضلا تماما بسبب نقطة ضعف فيه والبطل هذا يكون مسخرا لتنفيذ ارادة قدرية معينة هي التي تسوقه حتى من قبل ميلاده الى مصيره المفجع والمثير في الوقت نفسه. هذا يعني ان ارسطو قد اسلم بطله بيد القدر وان سمة البطولة كامنة عنده في الصراع مع معطيات الاحداث التي يرسمها القدر لذلك البطل. واذا كان الصراع قد تحدد عند ارسطو مع قوة خارجية هي قوة القدر وقوة الالهة فان التراجيديا الشكسبيرية قد نقلت مواضع الصراع هذه الى دواخل الشخصية بل الى داخل عقل البطل ورغم ان شكسبير قد التزم القاعدة الارسطية في ان البطل التراجيدي افضل من الفرد العادي الا انه قد وضعه في صراع مع انسانيته وليس مع القوى الخارقة والقوى الخارجة عنه.
واستكمالا لملامح البطولة في شخصية البطل الارسطي، فان هذا البطل الذي من شانه ان يثير فينا عوامل التطهير ينبغي ان يمر بالمصاعب ليخرج منها بنتيجة لكي يحقق لنا تاثيرا معينا فهو عندما يتحول من حالة السعادة الى الشقاء يزعجنا ويحزننا وهو اذن بقي متوسط بين الفضيلة والشر وهذا هو المحور الذي تتمحور عنده نظرية ارسطو في البطل التراجيدي اذ ليس معنى التوسط ان يكون بطلا عاديا لا في خلقه ولا في منزلته اذ ان ارسطو يحدد في الشرط الاول للتراجيديا ان تكون (محاكاة لفعل نبيل) وان الشاعر يجب ن يجعل اشخاصه اجمل من الواقع وان كانوا شبيهين بالواقع، واذا كان فيهم عيب مثل سرعة الغضب او بلادة الحسن فينبغي ان يصورهم كذلك على ان يجعلهم احسن مما هم.([23])
ولمناسبة نقطة الضعف الذي يذكرها ارسطو في البطل انما هي نتيجة لما وجده في نماذجه التي عدها من ارقى النماذج والتي تناولها بالتحليل والتنظير فعند (سوفوكليس) يجد ارسطو نقطة ضعف (اوديب) في تسرعه الذي يتشكل من خلاله الخطأ الماساوي بعد قتله لابيه.
ويبدو هذا الخطا او نقطة الضعف بشكل اخر في ملحمة هوميروس الخالدة (الالياذة) عند (أخيل) الذي كان نقطة الضعف في جسده كله (كعب قدمه) ذاك لان امه عندما رزقت بابنها اخذته الى نهر (ستيكس) المقدس الذي يكسب ماؤه كل جسم يبلله مناعة ابدية ضد الموت..وهناك امسكت (ثيتيس) الام بابنها (اخيل) من (كعب) قدمه والقت به تحت الماء فاكسبت جسمه المناعة والقوة ضد جميع قوى الفناء ولم يبقى للموت منفذ اليه الا عن طريق عقب قدمه الذي لم يبلله الماء.*
وكذلك فقد استفاد شكسبير من هذه العيوب التي قدمها النموذج التراجيدي الاسطوري في ان جعل في هملت تردده عيبا يمكن ان يحسب على الشخصية منطلقا في ترسيخ هذا العيب من عوامل نفسية ذات صلة بكل مكونات الشخصية المسرحية.
السقطة التراجيدية (الهامارثيا)
اذا كان ثمة محورا مهما في احداث التحول والانقلاب في شخصية البطل فهو ذلك المحور الذي اكتفى ارسطو بالاشارة اليه وهو (الهارماثيا) او السقطة التراجيدية.
وتعرف الهامارثيا بانها: (السقطة Hamartia) كلمة اغريقية الاصل عن عدة تعريفات منها (السقطة التراجيدية) او (الخطأ) او (التردد) او (الضعف) وفي كثير من المسرحيات تعرف بانها (السقطة) وفي مسرحيات اخرى هي مجرد خطوة في غير موضعها مثل الاختيار الذي ينقلب الى ضده سلبا حيث ليس للبطل خيار فيه.([24])
وتكمن السقطة في خطأ يرتكبه البطل، وهو خطأ معين في الحكم يؤدي به الى مصيره المحتوم.
ولعل المثل الذي ساقه الينا ارسطو عن قتل (اوديب) لابيه في تراجيديا سوفوكليس على ان القتل كان لحظة اندفاع عاطفي جعله يتردى في سلسلة من الاخطاء المترتبة على هذا الاندفاع دون ان يكون له اختيار في التوقف.
فالبطل التراجيدي وعبر هذا الموجز للاسطورة يتضح ان لابد له في ارتكاب هذه السقطة وانما هو مصيره المحتوم وقدره الذي خطته له الالهة، وكان لابد للبطل ان يسقط فيه.
واننا اذا وضعنا في اعتبارنا ان ارسطو يعتبر نموذج سوفوكليس هذا هو النموذج الامثل للتراجيديا نجد انه قد رتب مفهومه هذا على النحو التالي.
ان اوديب كان مكتوباً عليه طبقا لنبوءة العراف ان يقتل اباه ويتزوج امه قبل ان يولد وعندما ولد سلمه ابوه لاحد الرعاة لكي يتركه في العراء حتى يموت..يشفق الراعي على الطفل ويسلمه الى زميل له يحمله الى (كورنثه) فيتبناه ملكها حتى يكبر ويسمع بهذه النبوءة ..يهاجر اوديب من كورنثه بارادته لكي يتورط في هذه الفعلة الشنعاء..يتجه الى طيبة وفي الطريق تنشب مشادة بينه وبين ابيه الحقيقي (لايوس) ملك طيبة، فيقتله في فورة انفعاله ثم يتوجه الى (طيبة) التي كانت قد ابتليت بالوحش الذي يطرح عليه لغزه، فيقتله وينقذ المدينة وينصبه اهلها ملكا عليهم ويزوجونه زوجة الملك المقتول- وبذلك تتحقق نبوءة العراف..فيقتل اوديب اباه ويتزوج امه.
رغم ان ارسطو قد عقد الاهمية في حدوث (السقطة) للخطأ الذي وقع فيه (اوديب) عند تسرعه في قتل ابيه وترديه في اخطاء اخرى فانه يبدو من الضروري ان نلاحظ ان الخطا لم يبدا من هذه اللحظة فقط بالنسبة لجذور القضية وانما منذ العصيان الاول للنبوءة في انجاب الطفل…اي قبل ان يوجد البطل وقبل ان يقع في الخطأ. ان عصيان اوامر (ابولون) الاله هي سقطة ذات بعد مؤسس تاريخيا كانت من نتائجها التردي في كل الاخطاء التي تبعتها وهذا الخطا ارادته الطبيعة القدرية.
ان ترتيب مشيئتها من خلاله في حين يبقى خطا اوديب في قتله ابيه في حدود الخطأ الانساني وهو ما يتعلق بالاخلاق والانفعال الانساني الذي يقود الى المهالك في سلسلة الاخطاء التي تترتب عليه.
ومهما يكن من امر فان التراجيديا القديمة لم تخرج بطلها من دائرة القدر الذي حكمته فيه وجعلت منه مسخرا لتنفيذ الارادة التي تسوقه الى قدره المحتوم كما اسلفنا رغم ما يذهب اليه بعض الباحثين.* والمتأملين في تحليل السقطة التراجيدية في (اوديب ملكا) بوصفها فعلا اراديا اذ يعتبر (برادلي): (الهامارثيا فعلا اراديا كاملا) من خلال تحليله للتراجيديا الشكسبيرية وهذا من شانه ان يؤشر لنا الفارق بين المفهومين –فالهارمارثيا في التراجيدية الارسطية تمثل تبريرا موضوعيا لتحول البطل من السعادة الى الشقاء، الا انها عند شكسبير هي جزء من التكوين النفسي للبطل، لذا فان ابطاله يمتلكون القدرة النفسية والعقلية التي تساعدهم في هذا الصراع.
ولعل البعض كان قد ذهب الى ان قتل اوديب لابيه قد جاء نتيجة لاعتداد اوديب الشديد بنفسه وزهوه بقوته الى جانب العوامل القدرية الاخرى، ومهما يكن من امر فان قضية العلاقة بين الهامارثيا والارادة قد ظلت مثار نقاش بين الافكار والاتجاهات التي تناولت هذا الموضوع، وابرز وجهات النظر هذه وجهة النظر المادية- الا انه في نهاية الامر يبقى البطل التراجيدي اليوناني حتى لو كان له بعض الاختيار في ارتكاب (الهامارثيا) الا انه مساق الى ارتكابها بواسطة قوة اكبر منه هي القدر والالهة.**
التكوين الذاتي للبطل
ان أي قراءة تحليلية للتكوين الذاتي للبطل لا يمكن الا ان تؤكد التصاقنا اولا بهذا البطل الذي نحن لسنا بمعزل عنه في أي مرحلة من مراحل هذه القراءة، ذاك لان في كثير من الاحيان لا نستطيع الاستغناء عن الربط بيننا كافراد وبين البطل كفرد لاعتقادنا بان البطل كذات يمر بتجارب يمكن ان نمر بها نحن وهذه الفكرة يؤكدها ارسطو ويؤكدها علماء التحليل النفسي حيث يقول د. شكري محمد عياد:
….ان ارسطو يربط تصوره للبطل بفكرة عظيمة الاهمية في فلسفته الفنية هي فكرة (التطهير) فالبطل الذي يشغل القسم الاكبر من اهتمامه هو بطل التراجيدية اليونانية والتطهير هو غرض التراجيديا في رايه.
وكذلك فان اساتذة التحليل النفسي قد اهتموا اهتماما كبيرا بابطال الادب والفن. وكانوا قد طبقوا نتائج علم النفس التحليلي على النماذج الادبية، اذ نظروا الى ابطالها من خلال عقدة اوديب واعتبروا هؤلاء الابطال تجسيما للعقدة المكبوتة، وبذلك صار هذا المكون الذاتي محورا لدراسة البطل الذي جعلوا منه نموذجا للمرض النفسي كما جعلوا الفنانين مرضى نفسيين وربطوا بين الفنان وبطله، ولعلهم هنا بقدر ما فصلوا بين العمل الفني وبيئته ومجتمعه هم كانوا يغالون اكثر في الجانب الذاتي.([25])
وبهذا يكون البطل التراجيدي بطلا ذاتيا في اغلب احواله لما يتسم به عند ارسطو في كونه فاضلا غير مكتمل الفضيلة ورغم ان الفعل المؤلم الذي يجب ان ينزل عليه من اقرب الناس اليه يمكن ان يعد خارجا عن ارادته الذاتية.
التكوين الموضوعي للبطل
ان البطل بوصفه محركا ومحورا للافعال والاحداث وهو المؤثر والمتاثر بها بفعل السقطة المدمرة التي يترتب عليها ذلك الكم المتسلسل من الاخطاء التي تقود هذه الذات المتحركة (البطل) نحو هلاكها او مصيرها المحتوم عبر بنية تكوينية ذاتية تنبض بالحياة والتدفق الموجع. واذا كان الادراك المتزايد لعلم النفس المعاصر قد جعل من الاكيد التسليم “بان هناك نوعا اخر من القضاء والقدر ليس اقل وطئة من الذي نعرفه يعمل بنشاط في ذواتنا وهو مكون من قوى بيولوجية شريرة او قوى نفسية جسدية، او قوى ورائية”([26])، فان كل هذه القوى قد بقيت في حقول التحليل للمكون الذاتي. لذا ورغم ان دراسة هذه القوى قد رسمت افاق جديدة في تحليل المكون الذاتي للبطل، الا ان الدراسات المقابلة حاولت ان ترسم صورة للبطل من خلال بيئته في صيغة نقدية يتعرف من خلالها على الدافعية الاساس في ذلك التكوين الذاتي ونشوءه في البيئة الموضوعية التي يستمد منها كل عناصر تكوينه وبنى من خلال فعلها معه كل ردود الافعال التي تجعل منه تكوينا متكاملا من تفاعل الذات مع الموضوع وذلك من خلال ما جاء به اصحاب الدراسات الانثروبولوجية للمفهوم الموضوعي للبطولة الذي يقرر بان البطل هو نتاج المكون الموضوعي، انطلاقا من كون الادب بشكل عام هو التعبير عن النظام الذي تقوم عليه الحياة، وهم عندما ينظرون الى الادب كالسيرة والحكاية الشعبية انما ينظرون اليها من خلال منابعها الاسطورية القديمة واشتراكها في الرموز والدلالات.
فهم “لا ينظرون الى الاسطورة من خلال الفرد كما يفعل علم النفس الفردي، بل من خلال علاقتها بالطقوس التي تقوم بدور الجهاز العصبي في حياة الجماعة.. ووصلوا في ذلك الى ان الاساطير لم تكن الا بالتعبير القولي عما يمارس عمليا في الطقوس، وان البطولة في تلك الاساطير لم تكن الا تجسيما للوعي الجماعي وبذلك فقد جردوا البطولة من كل معنى ذاتي واصبح البطل تعبيرا عن الجماعة او عن وظيفة اجتماعية”([27]).
لذا فقد بات من الضروري في دراسة المكون الموضوعي لشخصية البطل الاستناد الى الدراسات السوسيولوجية وصولا الى معرفة الدافعية التي جعلت من هذا التكوين الانساني يبدو بمظهر البطولة هذا والذي هو بالضرورة امتداد للصراع بين الذات والموضوع في شتى عصور الادب.
البطل في الدراما الحديثة
من خلال ما تقدم نجد ان القوانين القديمة الصارمة كانت تبغي تصوير البطل وهو يصارع قدره فانطلقت من فرضية ان البطل هو الضحية للعنة او لقدر اقوى منه فكان قد حق عليه ان ينتهي النهاية الماساوية التي كتبت عليه، وعلى هذا تكون الماساة اليونانية قد ناقشت العلاقة الخارجية بين البطل والالهة، اذ اننا وجدنا ان ابطال الماسي الكلاسيكية عندما ياتون الاعمال الشريرة انما كانوا منساقين الى تلك الاعمال وليس بمحض ارادتهم وربما كان سبب ذلك ان التراجيديا اليونانية تستمد اصولها من الشعائر الدينية الاغريقية فكان موقف البطل وافعاله وكل ما يمكن ان يحدث ينضوي تحت هذا التفسير وفي ضوء المباديء الخلقية التي سادت انذاك ويتمثل اهمها في فكرة النظام والحد من الغرور البشري واظهار ما في الانسان من ضعف امام هذه القدرة العظيمة للالهة التي يكتب لها النصر دائما.
الا ان المسرح الحديث الذي هو بالضرورة نتاج للتطور الحضاري وتعقيدات الحضارة الحديثة لم يبقَ على كل ما فرضته القوانين الاغريقية الصارمة حيث قضت هذه المتغيرات بموت عصر التراجيديا وميلاد الدراما الحديثة التي كان من شانها ان تؤشر متغيرات على مستوى البنية والعلاقات والصراع، وبالتالي التكوين الفني والفكري للبطل الذي هو جزء من مكونات الدراما الحديثة.
فاذا كانت بعض الاسس التراجيدية الكلاسيكية قد ظلت راسخة حتى يومنا هذا فان بعضا اخر منها قد تلاشى او اختفى تناسبا مع تطورات الحضارة وتعقيدها فمن الامور التي ظلت باقية حتى العصور الحديثة:
- الصراع غير المتكافيء بين ارادتين يحسم في النهاية لطرف منهما على حساب الاخر.
- النهاية الماساوية.
- الفعل الماساوي. ونقطة الضعف التي تحدد المصير. وفي العصور الحديثة لم تعد تقتصر في وجودها على شخصيات سامية، غير ان السمو لم يعد بالضرورة هو السمو من الناحية الطبقية الاجتماعية، او بالخاصية الالهية، ذاك لان التقويم الحديث للشخصية الانسانية جعل منها سامية في رفضها ان تتقبل الظلم او ان تداس كرامتها فمقارعة الظلم الذي يميز الانسان عن انسان اخر خنوع، هو التسامي، وهو النبل الانساني، وهذا في تقدير الباحث يشكل وجهة نظر تختلف تماما عن نظرية السمو الارسطي التي كانت سائدة.
- التوافق بين البطل وسلوكه واخلاقه.
- حرية الارادة في فعل الفعل/ حيث ان الارادة البشرية اصبحت هي المسؤولة عما يحدث للبطل من نتائج حينما اصبحت ارادة حرة واعية تبغي فعل الفعل الذي يرتبط بها بشكل مباشر.
تلك هي الجوانب الباقية حتى العصر الحديث، كما ان هناك عناصر اندثرت في تكوين الماساة بانتهاء عصر معين، فابطال تراجيديا عصر الملكية كانوا ملوكا او من سلالة الملوك، الا ان هذا المفهوم ايضا قد وجد حتفه بانتهاء القرن الثامن عشر واوائل القرن التاسع عشر حينما اصبح البطل انسانا عاديا وعندما بدات الاعمال تكتسب خصوصيتها الحديثة في اعمال ابسن وسترندبيرج وميللر وجان انوي وت.س. اليوت وغيرهم من كتاب المسرح الحديث.
ومن المتغيرات الاساسية التي افرزها المسرح الحديث والتي اشرت عصر موت التراجيديا الاغريقية، ذلك المتغير الاساسي الذي حقق للارادة الانسانية فعلها الواعي والحر من خلال اختفاء عنصر القضاء والقدر الذي كان قد لعب دوره في تسيير كل عوامل الصراع، من صراع خارجي بين الانسان وقدره الى صراع بين الانسان واخيه الانسان او ان يكون داخليا بين الانسان وذاته او حتى يكون الصراع بين حضارتين مختلفتين يؤدي الى سوء الفهم وهذا ما ذهب اليه (محي الدين صبحي) في تحليله لنموذج عطيل ونماذج ادبية اخرى مثل (الغريب) لالبير كامو وغيرها.
ففي عطيل يؤشر الناقد..ان كل رواية تتعرض للقاء حضاري تنتهي بفاجعة تقوم على سوء التفاهم-فعطيل قائد مغربي يعمل في جيش فينيسيا. صحيح ان شكسبير يوهمنا ان الدسيسة والوقيعة هي التي ادت الى سوء التفاهم، ولكن من يكفل لنا ان الدسائس ذاتها تفعل فعلها عينه لو كانت موجهة الى رجل منسي وان لا فلماذا اختار رجلا غريبا عن المجتمع الايطالي. ترى الا يلعب احساسه بجوهرية الفرق بين الرجلين دورا في الانتقاء.([28])
ويرى الكاتب ان هذه المحاولة في الاسقاط والمغايرة قد لعبها شكسبير ببراعته المعهودة في صياغة شخصياته ومحاور الصراع، كما ان البكاتب هنا يثير تساؤلاً مجاورا وهو ماذا كان يمكن ان يحدث لو ان شكسبير وفق هذا المنطق (الاسقاط والمغايرة) قد ابدل (كاسيو) بالجندي (منتانو) مثلا ليكون مثار غيرة عطيل؟ هل كان من الممكن ان تفعل الغيرة فعلها ذاته؟ الامر الذي سيختلف حتما او ربما فعل الدسيسة سوف لن يكون محكما في التاثير على عطيل ذاك لان (منتانو) لايمكن ان يكون النظير المثير لشكوك عطيل، ان هذا التوازن والتكافؤ في الشخصية والمركز العسكري بين عطيل وكاسيو بالذات كان لها فعلها في شحن الصراع الداخلي لدى عطيل اولا وفي اذكاء شحنات القوة الايقاعية في حبكة النص الى غير ذلك من مؤثرات لا نريد الخوض فيها الان، الا ان ما يهمنا هنا هو ان المفاهيم الحديثة للدراما قد خلقت اشكالا حديثة خاصة بها وان هذه الاشكال للدرامة الحديثة مثلما هي موت للتراجيديا الكلاسيكية فان البطل الحديث هو الاخر قد اشر موت البطل التراجيدي من خلال تلاشي حرية الفرد امام العقلية الجماعية الموحدة ومتطلباتها ومن خلال عوامل الارادة التي كان من شانها ازاحة واقصاء كل ما هو قدري الهي واحلال القصدية في صياغة شكل الصراع الذي يواجهه، وهنا يكون البطل قد اخذ شكلا جديدا شانه بذلك شان الدراما الحديثة التي هي بمثابة بنيته التكوينية.
([1]) انظر: د. نبيلة ابراهيم، البطولة في القصص الشعبي، مصر: دار المعارف، ص11.
([2]) انظر: هيرمان نورثروي فراي، في النقد والادب، الادب والاسطورة، ترجمة وتعليق د. عبد الحميد ابراهيم شيحه، القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، ص 27.
([3]) ك.ك. راثفين، الاسطورة، ترجمة جعفر الخليلي، بيروت: منشورات عويدات، ط1، 1981، ص 117.
([4]) Funk and wag nalls: standard dictionary of ofalklore mythology and legend, new York, 1949.
نقلا عن د. نبيلة ابراهيم، الاسطورة، بغداد: منشورات وزارة الاعلام، 1979، ص 6.
([5]) د. قيس النوري، الاساطير وعلم الاجناس، العراق: جامعة الموصل، 1981، ص 103.
* جيمس فريزر (1854-1941) عالم الاجتماع الانجليزي الشهير وصاحب المؤلفات القيمة في الثقافة البدائية واشهرها على الاطلاق: كتابة الغصن الذهبي الذي صدر تباعا في 12 جزءا ما بين 1890-1915 ثم صدر ملحق له عام 1936 هذا فضلا عن اعماله الاخرى في الانثروبولوجيا والتراث الشعبي. عن هيرمان تورثروب فراي، المصدر نفسه، ص 46.
** للمزيد ينظر عن المدرسة الوظيفية: د. نبيلة ابراهيم، الدراسات الشعبية بين النظرية والتطبيق، الرياض: دار المريخ، 1985، ص ص 171-172.
*** للمزيد انظر المصدر نفسه، ص 171، كما ينظر: كلود ليفي شتراوس، الاسطورة والمعنى، ترجمة وتقديم، د. شاكر عبد الحميد، مراجعة د. عزيز حمزة، بغداد، دار الشؤون الثقافية، 1986، ص ص 5-6.
([6]) الاسطورة وعلم الاساطير عن الموسوعة البريطانية، ترجمة عبد الناصر محمد نوري، بغداد: دار الشؤون الثقافية، 1986، ص ص 5-6.
([7]) دير مودريش فون، الحكاية الخرافية، ترجمة نبيلة ابراهيم، بغداد: مكتبة النهضة وللمزيد انظر معجم علم الاجتماع، تحرير البروفسور ديفكشين ميتشيل، ترجمة ومراجعة احسان محمد الحسن، بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر، ط1، 1981، ص 148.
([8]) ينظر د. قيس النوري، المصدر السابق نفسه، ص 25.
* ورد تعداد انواع الاساطير في الدراسات والبحوث التالية:
- د. احمد زكي، الاساطير، دراسة حضارية مقارنة، ص 46.
- الاسطورة وعلم الاساطير عن الموسوعة البريطانية، ص 23-29.
- الاسطورة في فلسفة افلاطون، نظرة معاصرة، رسالة ماجستير، كلية الاداب، 1988، ص 21.
- د. نبيلة ابراهيم، الاسطورة، ص 136.
- توظيف الاسطورة والحكاية الشعبية في المسرح العراقي المعاصر، صفاء الدين حسين، رسالة ماجستير، كلية الفنون الجميلة، بغداد، ص 70-74. ومصادر اخرى-الباحث.
([9]) د. نبيلة ابراهيم، المصدر نفسه.
([10]) ينظر شكري محمد عياد، البطل في الادب والاساطير، القاهرة: دار المعرفة، ط2، 1971، ص 74-76.
([11]) ارثر ميللر، كبار الكتاب كيف يكتبون، ترجمة كاظم سعد الدين، بغداد: دار الشؤون لثقافية، 1986، ص 48.
([12]) اليوت في مجلة Uiysses, order and myth (Dial)
عن كتاب F.B. Matthiessen the Achievment of T.S. Eliot عن شكري محمد عياد، المصدر نفسه، ص 164.
([13]) شكري محمد عياد، المصدر نفسه، ص 166.
* المسرحية كتبت عام 1943 ايام الاحتلال النازي لفرنسا.
([14]) هيرمان نور ثروب فراي، المصدر نفسه، ص11.
** الاقصاء التاريخي: ويتضمن لجوء الكتاب الى الاسطورة، البحث عن الغرابة، وايجاد جو غريب كما يتضمن لا مبالاتهم بالواقعية الخارجية، وان معطيات مسرحيات (اوديب) و(انتيغون) و(فرسان المائدة المستديرة) نفسها تطرد كل واقعية لان الحقيقة الانسانية للاسطورة لا تؤدي الى الحقيقة الرومانتيكية في اخراجها المسرحي حتى ان التاريخ لم يعد في نظر الرومانطيقين ضمانة امانة الواقع وللمزيد: انظر ميشال ليوار، فن الدراما، بيروت: منشورات عويدات، ب.ت، ص 160.
([16]) د. ابراهيم حمادة، معجم المصطلحات الدرامية والمسرحية، القاهرة، دار الشعب، ت 68، ص 93.
([17]) احمد العشري، قراءة في مكون البطل التراجيدي، مجلة البيان (العدد 229-ابريل-نيسان 1985)، ص ص 115-116.
* وهذا ما يؤكده ايضا ميلت وينتلي في فن المسرحية، ص 55 وللمزيد ينظر في تحديد المصطلحات (الاطار المنهجي لهذا البث)- الباحث.
** ينظر المصدر نفسه، فيما يخص الجوقة الاغريقية-(الباحث)
([18]) Sam- smiley, play- writing. The structure of action printinge- Hall, Englewood Cliffs, new Jersey, p.p 75-96.
([19]) ابراهيم حمادة، المصدر نفسه، ت 184، ص 139.
([20]) وليم شكسبير، مسرحية يوليوس قيصر، ترجمة عبد الحق فاضل، ومصطفى طه حبيب، القاهرة: دار المعارف، 1973، ف2 م1.
([21]) احمد العشري، المصدر السابق نفسه.
([22]) ارسطو طاليس، فن الشعر، ترجمة عبد الرحمن بدوي، بيروت: دار الثقافة، 1973، ص 18.
([23]) ينظر ارسطو طاليس، المصدر نفسه، الفصل 15، ص 43.
* انظر هوميروس- الالياذة، ترجمها عن الاصل اليوناني امين سلامة، القاهرة، ب ت، ص 27.
دريني خشبة، قصة طروادة، بغداد، دار الشؤون الثقافية العامة، ص 73.
([24]) See W.O. Type of Drama, miffin co, Bston, U.S.A, 1962, P. 824.
* ينظر اسماعيل فهد اسماعيل، الفعل الدرامي ونقيضه..دراسة في اوديب سوفوكليس، بيروت: دار العودة، ب ت، كما ينظر:
A.C. Bradley: shakaspearian Tragedy (Meridian book ed., new york, 1935, pp. 21.
** للمزيد ينظر: الكوميديا والتراجيديا، تاليف مولوين ميرشنت، كليفورد ليتش، سلسلة عالم المعرفة، فصل البطل التراجيدي، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون، 1979، ص ص 193-212.
([25]) د. شكري محمد عياد، البطل في الادب والاساطير، القاهرة: دار المعرفة، 1971، ص 7.
([26]) د. احمد الهواري، البطل المعاصر في الرواية المصرية، القاهرة، دار المعارف، ب.ت، ص 51.
([27]) د. شكري محمد عياد، المصدر نفسه، ص 9.
([28]) للمزيد ينظر محي الدين صبحي، ابطال في الصيرورة، دراسات في الرواية العربية والمصرية، بيروت: دار الطليعة، ب ت، ص9.