أوفت أيام قرطاج المسرحية في دورتها العشرون, بما وعدت به المسرحي العربي, بل وأكثر من ذلك, حين فتحت أمامه فضاءات جديدة ومتعددة, تستوعب كل ما أنجز وينجز من إبداع, من خلال مجمل مشاريعها وبرامجها المتمثلة بالعروض المسرحية المتنوعة المضامين والمتعددة الإتجاهات والمختلفة الرؤى التي تنفتح على سعة المشهد البانورامي للتجربة المسرحية العالمية وما حدث فيها من تفاعلات وإشتغالات, وبما يعكس حجم التنوع الفكري والإبداعي الذي ينطوي عليه واقع الراهن المسرحي.
ولعل الملمح الأبرز لما تحقق من بين تلك الوعود, هي تلك الفضاءات الجديدة التي فتحت أفقا جديدا للحوار الفكري والثقافي في هذه الـ(أيام), عبر (منصة قرطاج) الفكرية التي قدمت فيها وخلالها ندوات وحلقات دراسية رسمت ملامح الواقع الراهن للثقافة المسرحية, وعكست صورتها الناصعة وصوتها الحر, حيث تناغمت أصوات المسرحيين وتحاورت عبر فضاء معرفي بناء, تحقق في ندوات عديدة تم فيها إستضافة عدد من رجال الفكر والشخصيات الفاعلة في تشكيل خارطة الفكر والثقافة المسرحية العربية المعاصرة, حتى غدت ندوات أيام قرطاج تمثل فعلا ثقافيا وفكريا مغايرا لكل الأنماط التقليدية المكرورة والسائدة, حيث دعي للمشاركة والحضور فيها نخبة كبيرة من ألمع المثقفين والمفكرين والمسرحيين وأصحاب التجارب وأساتذة الجامعات, ليتشكل عبر حواراتهم ذلك الفضاء الذي طالما حلم به المسرحي العربي, حيث صار المسرحي يفكر بصوت مسموع في فضاء حر ومنفتح على الآخر, دون توجس أو قلق أو اضطراب أو تشنج, حتى وإن اختلفت الرؤى وتباينت الأفكار, فهذا أمر طبيعي, بل إنه صار يعد سمة من سمات (منصة) الندوات الفكرية لأيام قرطاج, وهي تكرس لثقافة المغاير المتجدد والمختلف المحدث والمتنوع داخل الوحدة, ضمن إطار لوحة ملونة تتسع لكل الرؤى والمواقف, فضلا عن إنها تكرس لثقافة الوفاء لكل من حمل همَّ المشروع المسرحي العربي وأسهم في بلورة هويته..
ولعل الطابع الذي يطبع (منصة) أيام قرطاج بطابعه هو الوفاء للنهج الذي أنطلقت هذه الأيام من أجله, فها هي تكمل دورتها العشرون وهي تواصل ذات النهج الذي جاءت من أجله, وسارت بثقة لتحقيق هدفها في رصد واستقراء ومتابعة المنجز والمتحقق من التجارب في مشهد الإبداع العربي ومحاورة منجزه الراهن عالميا, ووضعه في مختبر تحليل التجربة وتقييم مخرجاتها, فضلا عن الاحتفاء بهذا المنجز من خلال وضعه في دائرة الضوء عبر (منصة قرطاج) التي صار المسرحي العربي يترقب إقامتها وينتظرها بحماسة, لا بوصف ما يقدم عبر هذه المنصة من مادة تستوفي الشروط الموضوعية والفنية فحسب, بل بما ينبغي أن تنطوي عليه هذه المادة أو تلك من استقراء متجدد ورؤية محدثة وابتكار متأصل وعمق متفرد وصدقية موضوعية, تتعاضد عضويا, ليس مع ما هو متحقق من فعل إبداعي فحسب, بل بما ينبغي أن يتحقق, وبما يكشف عن خصوصية الرؤية في مجمل الخطاب الإبداعي, وبما يثبت لهذه الرؤية فرادتها وتلك التجربة خصوصيتها وذاك الخطاب صداه المؤثر, وهذا ما جعل من الأفق الذي تتحرك في مداراته (منصة قرطاج) ينفتح على مجمل مجرات الفكر وتجليات الفلسفة وفضاءات النقد, وعلى كل أقانيم المعرفة الإنسانية والحقول الجمالية, بعد توفر شرط الإبداع فيها أساسا لا بديل أو غنى عنه..
هكذا جاءت وتواصلت هذه (المنصة) كواحدة من عديد الوعود التي راهنت عليها الهيئة المديرة لأيام قرطاج منذ إنعقادها الأول, مثلما راهن عليها المسرحي العربي, فكان رهانا فائزا, إذ استطاعت هذه المنصة أن تسجل حضورا لافتا في الفكر المسرحي العربي, وها هي تدخل أيامها العشرون محققة ما جاءت من أجله وما رسمت له وما خخطت, في أن تنفتح على مجمل مفاصل الإبداع المسرحي الجديد, واجتراح مفهومات وبلورة أفكار وتشكيل رؤى كان لها أثر عميق في تحديد أتجاه بوصلة الفكر المسرحي العربي في تكريس توجهات وإنضاج معارف ورسم مسارات خارطة فكرية تشكلت ملامحها التجديدية عبر محاور هذه المنصة مثل: (المسرح والمدينة/ المسرح والحداثة/ مسرح ما بعد الدراما…)
فالحقيقة الساطعة إن حراك المسرح العربي يمر اليوم بمرحلة من أخصب مراحل تجلياته الإبداعية, فصارت (منصة قرطاج) الملتقى الفكري الأخصب والفضاء التنويري الأرحب لكل المفكرين والمسرحيين والأكاديميين من كل الجامعات العربية والعالمية, ومن مختلف الأجيال, ومن شتى بقاع الأرض, ومن كل أقانيم المعرفة, ومن مجمل حقول الإبداع, يلتقون في حوار للرؤى وتلاقح للأفكار وجدل للمعرفة وبوح للمواقف, والكل يفكر بصوت عال وجرأة وحرية, و(منصة قرطاج) تحتضن وتحترم كل المواقف والأفكار والتصورات, وتدخلها في مختبرها الذي تنصهر فيه وتتفاعل, لتنتج خطابا جماليا يحمل عمقه وصدق انتماءه, ليمتد الحوار الى عمق يصل الى شتى طبقات الإبداع وحفريات المعرفة وتجليات الرؤى..
هذا ما جاءت به ومن أجله (منصة قرطاج) وهذا ما تواصلت معه وفيه, وهي تسعى للتأكيد عليه وعملت على ترسيخه وما زالت تصر على البوح به, بعدما تبنت الانفتاح على الجميع منهجا ورؤية وبرنامج عمل, ليتواصل بذلك نهج (أيام قرطاج المسرحية) ورسالتها في الوفاء لكل الأجيال والأسماء والتجارب والرؤى، فلا تضع لمشروعاتها هدفا سوى الهدف الذي يتفق الجميع في السعي إليه والعمل على تحقيقه, وهو الإبداع أولا وأخيرا.
من هنا فان (منصة قرطاج) جاءت لتكرس ثقافة الوفاء والتواصل والحوار, والتي من خلالها ندخل بثقة الى مسرح المستقبل..