الفصل الأول
1-مفهوم البطولة…المعنى والكينونة…
2-البطل في الفلسفة ونظريات الادب:
————————————
الفصل الأول
1-مفهوم البطولة…المعنى والكينونة…
ما ان بدات وشائج الاتصال بين المجتمعات البشرية تتعاظم، وادرك الانسان انه كائن فعال في بنية هذا الاتصال الاجتماعي فان الذاكرة البشرية لم تتوقف عن عملية البحث عن الرموز والدلالات والمعاني والقيم النفسية والاجتماعية التي من شانها ان ترسم صورة لمفهوم البطولة الذي يمكن من خلاله رسم وتشخيص هوية البطل الذي يمكن ان يكون رمزا للجماعة من خلال جملة من الخصائص التي ترشحه لهذه المرتبة حتى تعززت روح التشبث بالرمز البطولي لدى الناس كتحصيل حاصل لجملة من الخصائص المثيرة للدهشة والمثيرة للاعجاب الناجم عن التامل في شخصية البطل الذي يكون مستعدا للتحدي ونقل المستحيل الى مساحة الممكن بقوة ارادته الذاتية واداؤه للخارق من الافعال وحرى بنا ان تقدم هنا شيئا عن المفهوم الابتدائي الاول للبطولة.
فـ” البطولة في اللغة هي الغلبة على الاقران، وهي غلبة يرتفع فيها البطل عمن حوله من الناس العاديين ارتفاعاً يملأ نفوسهم له اجلالا واكبارا وقديما كان البطل في القبيلة..يعد شخصا مقدسا بل لقد كانوا يظنونه احيانا من سلالة الالهة..وعلى نحو ما كانوا يقفون امام خوارق الطبيعة مشدوهين، كانوا يقفون امام البطل مذهولين كانما يستر في زواياه قوة خفية”([1]).
وكل هذا الاحساس قد صير للبطولة صيرورة المنقذ للشعوب في كل ما يمكن ان يهددها من كوارث او نكبات حتى وصل بهم الامر الى عبادة الابطال في بعض الاحيان من تاريخ المجتمع البشري معتقدين ان الالهة هي التي انجبتهم لحماية الناس من خلال ما ياتون به من معجزات القوة والشجاعة.
لهذا (اتخذ مفهوم البطولة في الفكر القديم والحديث طابعا (عقيديا)* يوافق “الايديولوجية السائدة ضمن مرحلة تاريخية معينة أي ان المنظور النسبي للبطولة يتكون على وفق هذا التصور، وليس هذا اقصاء لعوامل اخرى تعمل على تكوين وتوظيف هذا المفهوم، فما هو بطولي وخارق في زمن او مرحلة تاريخية ما يفقد بريق بطولته او (خارقيته) في مرحلة اخرى، وما يعد تافها او عاديا يثبت التاريخ انه ليس كذلك لان النسق التاريخي لتراتبية الحدث لا يمكن النظر اليه على وفق منطق التجزئة والعزل بل تؤخذ الاحداث على وفق صيرورتها الكلية المتسقة والمتوازنة”([2]).
وهذا يعني ان البطولة تنتمي الى زمان ومكان محددين بظرف موضوعي يحكمها ويمنحها مشروعية السيرورة ودوام التاثير، الا ان هذا المفهوم لا يتقاطع مع المفاهيم الاخرى او اشكال البطولة التي ظلت عالقة سمات ابطالها في الذاكرة البشرية.
فهذا (توماس كارليل) يستعرض في كتابه (الابطال) من الشرق الى الغرب نماذج وانماطا للبطولة متعددة ومتنوعة ولكل من هذه النماذج طبيعة حضوره وخصائصه التاريخية ولكل صورته من خلال المظهر الذي يبدو فيه.
فهو يقدم لنا البطل في صورة الة مستعرضا الاشكال للبطولة الالهية في الميثولوجيا الاغريقية عبر دراسته للواقع الاثيني وانطلاقا من الايمان بان القوى الكونية هي ارواح كبيرة مدهشة ومقدسة تسيطر على طبيعة التفكير انذاك الى الحد الذي سبق ذكره والذي وصل فيه الانسان الى عبادة الابطال في فترة ما قبل ظهور الديانات السماوية والرسل، ثم يعرج بعد ذاك لينتخب نموذج البطل في صورة الرسول الاعظم (محمد) (صل الله عليه وسلم) متحدثا عن الخصائص التاريخية للبطل الفرد من خلال المكون الانساني الذي يحمل رسالة للبشر وتهدف الى تحقيق التغيير الثوري الذي قلب الفكر الانساني وقدم نموذجا في الدعوة للانقلاب على الذات والايمان المطلق بوجود الخالق الذي يضع يده فوق كل الخلق، انه استعداد استثنائي للتحدي في مجتمع متعصب لقيمة وتقاليده وانظمة حياته، وهو اصرار مذهل وبطولي على اداء الرسالة التي حملها للبشر والتي مثلت قبل كل شيء تدميرا شاملا لنظام الضلالة بكل اشكالها، ان هذا النموذج للبطولة كان يتطلب مكونا ذاتيا يكمن في الصدق في حمل هذه الرسالة ومستلزمات هذا الصدق توافر الايمان لدى الناس الذي كان سببا في نجاح البعث الانساني من جديد.
وهنا يتلمس (كارليل) في نموذج (الرسول) تصورا جديدا لملامح تكوين البطولة يختلف بعض الشيء عما قدمه للبطل في شخصية الاله لكونه انسانا استطاع ان يستحوذ على ايمان الناس به من خلال قوة الحجة التي جاء بها ومن خلال صفاته الشخصية بوصفه البطل الصادق الامين وصفات رسالته البطولية التي قدمت اعجازا انسانيا كان له الفضل الكبير في التاثير على حياة العرب ابتداءا من خلخلة وتهديم وثنية معتقداتهم الى خلخلة واعادة بنائهم الروحي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي وبالتالي شكل حياتهم ثم يعود بعد ذلك ليقدم تقييما ذاتيا لعظمة الشعراء العظام دانتي وشكسبير واضعا نصب عينه الفرق بين الشاعر والنبي واضعا ايضا مقتربا بين بطولة الاله والنبي وبين البطولة الجديدة في لبوسها، بطولة الشاعر بقوله:
“البطل في صورة اله والبطل في صورة نبي هما من ثمرات العصور الغابرة لا يعود بهما الزمان بعد… ومحال على الناس ان يحملهم فرط الاعجاب برجل من الرجال حتى يخالونه الها او ناطقا بصوت اله الا اذا كانوا عائيشين في عصر خال البته من الاوضاع العلمية الطبيعية..نعم لقد انقضى زمن الالهة والانبياء وجاء زمن يلبس فيه البطل صورة اقل عظمة وابهى وان لم تك اقل فضلا وحقا، اعني صورة الشاعر والشاعر نوع من البطل لا ينفرد به عصر دون اخر جدير ان تنتجه اقدم العصور واحدثها”([3]).
ويتوسع ايضاح ملامح بطولة الشاعر عند (كارليل) في محاولة لابراز عناصر الجهد الروحي الخلاق من خلال استعراضه لنموذج الشعر أي ساحة البطولة بالنسبة لدانتي مؤكدا عظمة الشاعر في انه ارسله الله ليصور لنا في اشجن النغم ديانة القرون الوسطى او حياتها الباطنية وكذلك ارسل لنا شكسبير ليصور حياتها الظاهرة الخارجية وقتذاك وما بها من مظاهر الفروسية والنجدة والمروءة والمطامع والمطامح والاساليب الدنيوية للتفكير والعمل والراي مؤكدا اننا مثلما نعقد البطولة لهوميروس لانه جعلنا نرى من خلال يونان القديمة يجب ان نعقدها لدانتي وشكسبير بوصفهما المعرض الواضح لاوربا الحديثة بعد الاف السنين.
مختتما صورة الشاعر بقوله عن شكسبير “كيف يتاتى لرجل ان يصور امثال هملت، وكوربولانس، وماكبث وغير هذه من القلوب الكبيرة المتالمة الا وقد عرف قلبه الكبير الالم”([4]).
وهنا يكون انصاف عظمة شكسبير الشاعر فيما ابدعه من ابطال وفيما قدمه في نماذج حملت من السمات ما لا يجد الباحث مكانا لذكره الان.
ثم يسترسل الكاتب “كارليل” في عرضه للنماذج المتنوعة للبطولة فيقدم البطل في صورة (قسيس) بوصفه نوعا من النبي الذي لابد ان يكون منطويا على نور روحاني لكي يكون دليلا للناس في مذاهب الدين وقائدهم في مناهج العبادة والواصل بينهم وبين السر الخفي والهادى على سبيل الصالحات من الاعمال، مؤكدا في مباحثه اللاحقة على ان الالهة والانبياء والشعراء والقسس هي صور لبطولة تتعلق بالازمان الماضية وان ظهورها في العالم الحديث بات محالا لذا فان الضرورة التاريخية قد افرزت صورة جديدة اخرى للبطولة تحمل سماتها الخاصة وهي صورة الكاتب حيث يرى ان الكاتب يصبح عظيما عندما يكون كاتبا حقيقيا مستندا بذلك الى اقوال الفيلسوف الالماني (فيشتي): “ما من كاتب صادق الا وفيه سر الهي سواء اعترف بذلك الناس ام لم يعترفوا فهو سراج يستضاء به وقسيس ينصح ويعظ، ويرشد الخلق ويهديهم على طريقهم المظلم”([5]). وبهذا يميز الكاتب الذي يعنيه عن الاف الكتاب الكذابين غير الابطال- وهو بهذا يقدم في الكاتب صنفا جديدا من صنوف البطولة.
ومهما يكن من امر فان هذه التوطئة التاريخية في دراسة نماذج وانماط البطولة تبقى في حدودها اذا ما حاولنا دراستها بحدودها التاريخية، الا ان ما يهمنا حقا هو ان نتوصل من خلال عرضنا للمكونات الى مفهوم البطولة الذي بدا منذ البدايات متفاوتا في أشكاله وملامحه، فاذا كانت القرون السابقة قد افرزت للقيادة من الالهة والملوك، فان فلسفة الفكر السياسي والاجتماعي الحديث قد افرزت بالمقابل مفاهيم للبطولة الجماعية تشكلت من خلال صورة القائد (البطل الشعبي). حيث ان ثمة مدرستين قد تطرقتا في الفكر الغربي وفلسفته الى هذه المسألة وهما:
- المدرسة التقليدية او المثالية: وترى هذه المدرسة ان الحركة التاريخية تعني الرجل التاريخي الذي تنقاد وراءه الجماهير او بعبارة اخرى يكون القائد هو البطل الشعبي الذي يرسم الخط العام للامة ذلك لان التاريخ الكوني، تاريخ انجاز الانسان في هذا العالم هو في الحقيقة تاريخ الرجال العظام وان كل الاشياء التي نراها شاخصة ومتحققة في هذا العالم هي في الواقع النتيجة الملموسة والانجاز العلمي والتجسيد لافكار سكنت هؤلاء الرجال العظماء الذي ارسلوا الى هذا العالم، وهذا ما يتفق مع الدراسة التي عرضها الباحث للفيلسوف الانكليزي (توماس كارليل).
- المدرسة المادية او الماركسية: فكانت على النقيض من المدرسة المثالية فتجاهلت كل دور للبطل في صنع التاريخ، ذلك لان الجماهير الشعبية هي القوة الاساسية التي تصنع التاريخ وليس القادة الابطال، فالتاريخ الحقيقي هو قصة الشعوب، قصة الناس المجهولين الذين يعيشون كل يوم ويساهمون في بناء الحضارة الانسانية، وكان من اشهر انصار هذه المدرسة من الكتاب الواقعيين الاديب الروسي تولستوي.
وهكذا فان مفهوم البطل ومعناه قد ظل يشكل سؤالا فلسفيا مفتوح الافاق امام عدد متباين من الطروحات المتناقضة التي تتحكم بها احيانا ارادة الزمان والمكان والسيرورة التي تتحكم بها الطبيعة العقائدية او السياسية او الدينية او المثيولوجية في النظر الى البطل والبطولة، وتلك الاجابات تخص المكون الاخلاقي والانساني الذي تنطلق منه في تشكيل المكون الفكري للبطل او صورة البطولة.
واذا كانت النماذج التي جرى استعراضها هي نماذج احادية فان ذلك مرجعه بالدرجة الاساس الى “ان ميل العقل والغريزة البشرية التي النموذج الاحادي هي التي تقود المجتمعات الانسانية الى ان تصنع ابطالها وهذه الحاجة التاريخية قد تقود الى التوهم بابطال غير حقيقيين..الى جانب ان التصور الانساني يبدو مستشارا ومنفعلا ازاء البطولة الانفرادية اكثر”([6]).
ولعل انساننا العربي يبدو متاثرا كثيرا بصفة (التفرد) هذه في رسمه لشخصية البطل في الذاكرة العربية، هذا البطل –المنقذ- القادر على فعل التغيير في حياة الامة مضيفاً الى خاصية التفرد هذه خصائص ومزايا اخرى تمنح الصورة المتخيلة عن البطل التاريخي ما تحتاج اليه من العناصر المكملة والقدرة الدائمة على التحدي الذي يشكل السمة الاساسية في البطل التاريخي فاضاف الشجاعة والفروسية السمو على صغائر الامور والثبات على المباديء وهذه الخصائص والسمات جعلت من البطل التاريخي العربي بطلا استثنائيا ومتفردا في نظر الاخرين.
ولعل ما يحتمه الفهم الموضوعي للبطولة ينبغي ان يقترن بالازاحة التاريخية أي اقتران وتوظيف الفعل التاريخي باتجاه الازاحة نوعا لا كما، اذ اننا في حالة البطل الفرد لا نستطيع الحديث عن القوة الجسدية للبطل باطلاقية لاننا سنصطدم بنماذج البطولة المسالمة التي تعول على قوة ومعنى الدور التاريخي ومكونها الفكري مثل (غاندي) وعمر المختار واذا قلنا ان البطولة مرتبطة عضويا بالمتغير الكيفي فاننا على وفق هذا الادراك ينبغي ان نكون التصور الثنائي لمفهوم البطولة، اذ ان هناك البطولة التي هي في جوهرها انكفاء للبطولة الحقيقية لانها احتواء (سلبي) مضاد للفعل الانساني.
2/ ابطال الادب في السيرة والتراث العربي
اذا كان العرب قد تميزوا بمشاهد البطولة ومواقفها واذا كانوا قد نسجوا عبر التاريخ صيغا متعددة ومتنوعة لاشكال هذه البطولة عبر ابطالهم العظام فان ذلك بالتاكيد لنابع من الواقع الموضوعي والخصائص الاجتماعية وطبيعة العلاقات بين الانسان والفعل الحياتي وكانت هذه الطبيعة ترشح عبر التاريخ ابطالا صارت سيرهم مثار اهتمام الاجيال من بعدهم وحافزا لخلق نماذج بطولية جديدة للاجيال اللاحقة، ولما كانت الحياة العربية منذ القدم تحفل بابطالها وبغزارة عقيدة البطل العربي فان ذلك كان لابد له من ان يورث ادبا عربيا تنطوي تحت لواءه الكثير من سمات البطل التاريخي في النموذج العربي، وسواء اكان هذا النموذج العربي مخطوطات توارثتها العرب او رواية حكائية تناقلتها الشفاهية العربية الثاقبة الخيال فانها تعبر بشكل اكيد عن غزارة هذا التراث الانساني الكبير.
فالعرب قبل الاسلام كانوا قد عرفوا الرواية القصصية وكانوا قد خبروا باساطير الجزيرة عن العالم العربي القديم وكانت هذه الاساطير تعيش في ضمير شعبنا العربي وتناقلتها الاجيال جيلا بعد جيل، حتى اننا وجدنا صدى المعرفة بالحكايات العربية في القران الكريم من خلال ما جاء به من قصص وروايات عن ابراهيم واسماعيل عليهما السلام فيما بعد، ولو حاولنا البحث والتقصي بجراة اكبر لوجدنا نماذج رائعة في القران الكريم ولوجدنا ايضا سمات مختلفة ومتنوعة للابطال بالشكل الذي يمكن من خلاله ان تؤشر تطورا كبيرا على مستوى البنائي والفني. ويتضح ذلك في قوله تعالى: “انا نقص عليك احسن القصص”([7]) في اتساق وتراص البنية للرواية*، والحدث ولعلاقة البطل بحركة الاحداث من حوله بل وحتى طبيعة الاجواء الفنية التي يوجد فيها هذا البطل او ذاك، ففي قصص اهل الكهف مثلا نجد النموذج الازلي يحمل معه خصائصه الاسطورية في بنية اقناعية تعتمد بالشكل الاساسي على التركيب (العقيدي) للانسان المتلقي وطبيعة تاثير تلك البنية عليه، ولعل هذا النموذج (اهل الكهف) يختلف تمام الاختلاف عن قصة يوسف (عليه السلام). فهذا نموذج واقعي البناء انطلق من صلب العلاقات الانسانية للانسان باخيه الانسان ومن طبيعة المشكلة الاجتماعية التي رغم انها ظهرت قبل قرون بعيدة الا انها لا تزال واحدة من المشكلات التي تظهر الكثير من مفرداتها في حياتنا المعاصرة.
واذا كان القران الكريم قد انتج اغزر الصور والبناءات على مستوى القصة والبنية الحديثة لها بوصفه تنزيلا الهيا، فان السير الشعبية التي صاغها الخيال العربي الخلاق كان لها شانها ايضا في ان تقدم نماذج متعددة ومتنوعة وهي من صنع الخيال الانساني العربي لتشكل بالتالي ذخيرة ادبية لها مكانتها في ثقافة المجتمع العربي.
ورغم ان “ما وصل الينا منها مجموعة قليلة هي: عنترة بن شداد، وذات الهمة، وفتوح اليمن، والسير الهلالية (وهي كثيرة ومتعددة)، والظاهر بيبرس وسيف بن ذي يزن وحمزة البلوان وفيروز شاه، واحمد الدنف وعلي الزيبق، وغيرها كثير مما اشار اليه كثير من الدارسين ولم نضع ايدينا على مخطوطاتها بعد”([8]).
فان هذه السير الشعبية التي شكلت جزءا من تراثنا العربي لتؤشر بشكل اكيد قوة الخيال العربي وغزارته في صياغة بنية قصصية محكمة وهي بالتالي تؤشر تصورا فنيا لمراحل فنية سبقتها في الاساطير العربية القديمة. التي تناقلها العرب عن ملوك جنوب الجزيرة من حميريين وما تناقلته عن اساطير العماليق وغيرها.
واذا كان ما يهمنا هنا هو تعرف الصفات والخصائص الفنية والفكرية للابطال في هذه السير فاننا حتما سنجد ان لقيم موطننا الاثر الكبير في تحديد وتكوين هذه السمات والخصائص التي تنبع من مكونات قيم الجزيرة العربية في الفروسية والشجاعة وقوة الارادة، ونصرة المظلوم والدفاع عن الحرية والقدرة على قيادة الجماعة. لذا فان ما مر ذكره من سير ستلتقي حتما في بعض نماذجها من حيث المكونات والخصائص العامة وتصل الى حد التشابه احيانا وان اختلفت موضوعاتها او اشكالها البطولية. ففي سيرة ذات الهمة نجد ان كاتبها يشبه بطله (الصحاح بن جندبه فارس بن كلاب) بعنترة من حيث فروسيته مؤكدا قوة البطل وبراعته من خلال قوله: “انه لو عاش في عصر عنترة لجعله من رجاله ولغدا عنترة بن شداد من غلمانه”([9]).
في حين يصور مؤلف سيرة عنترة بوصفه فارسا لبني عبس شجاع في الدفاع عن حريته وحقوقه عبر قضية تعد “اول صرخة فنية يطلقها الضمير الانساني في عمل ادبي كبير ضد العبودية وضد التفرقة العنصرية”([10]).
وعلى المستوى الفني في تكوين السيرة وتشابهها نجد ان مؤلف (ذات الهمة) في مقدمته الطويلة لم ينس ان يصور ملامح شخصية العبد (نجاح) لتقارب شخصية (شيبوب) شقيق عنترة وكذلك في رسمه لمسارات الاحداث التي من شانها ان تثبت فروسية الفارس البطل، الا انه قدم لنا (الصحاح) وهو ينتهي نهاية مفجعة بعد تتويجه ملكا للعرب على يد عبد الملك بن مروان، ومن الجدير بالذكر ان فترة سيرة (ذات الهمة) هي بعد (سيرة عنترة) من حيث تسلسلها التاريخي ذلك لان ذات الهمة امتدت من العصر الجاهلي حتى حكم مروان بن الحكم في العصر الاموي، الجزء الذي يظهر فيه ابطال السيرة الحقيقيين: الاميرة ذات الهمة والامير عبد الوهاب وابو محمد الابطال الذين جسدوا بطولتهم في مقارعة الروم طوال فترة العصر العباسي.
ونستطيع ان نستنتج على المستوى الفني ايضا ان ادب السيرة قد افرز نموذجا بطوليا يشارك البطل في بطولته حيث يمكن ان نسمي هذا النموذج بـ(البطل المجاور) في السيرة حيث ظهرت بعض الشخصيات مجاوره لشخصية البطل وتتسم بخصائص تقابل شخصية البطل رغم قلة شانها في الاحداث قياسا بفاعلية البطل نفسه، فمثلا اذا كانت بطولة عنترة في استعماله للسيف وقوة الجسد فان شيبوب يبدو كرمز للبطولة في اعتماده على الذكاء وخف الحركة والجراءة المنقطعة النظير وكذلك في سيرة (الصحاح بن جندبة) نجد ان عبدة (نجاح) يرافقه ويجاور بطولته، وذات الهمة يجاورها اخوها في الرضاعة (مرزوق) وفي (الظاهر بيبرس) نجد من مشاركته البطولة في شخصية (عثمان بن الحلبي) وجمال الدين شيحه والامير عبد الوهاب الذي كان يؤيده بذكائه وخفته ابو محمد البطال، اما حمزة البهلوان فرفيقه (عمر العيار).
ان هذه المشاكلة الفنية في السير كلها قد قدمت هذا النموذج (البطل المجاور) بوصفه مكملا فنيا في دائرة الصراع الذي توجد فيه الشخصية (البطل) واحيانا يبدو مكملا فكريا في تكوين السيره. وهذا يمكن ان يعد عنصرا من عناصر المشاكلة التي ورد ذكرها عن هذه السير فضلا عن ما يجمع هذه السير من عناصر مشتركة في البناء والتكوين الفني من حيث ترابط عناصر العمل وتطور الشخصيات الرئيسة منها (البطلة) او الفرعية (المجاورة) التي من شانها تحقيق الاسناد الفعلي للبطل الرئيس سواء في ان تكون دليله الذي يبصره بالاحداث او ان تقدم له المشوره والعون في خوض الصعاب والمحن التي يخوض غمارها ببسالة.
** الهوامش:
([1]) د. شوقي ضيف، البطولة في الشعر العربي، سلسلة اقرأ، القاهرة: مجلة شهرية تصدر عن دار المعارف بمصر، 1970، ص9.
* وردت كذلك ويعتقد الباحث انها (عقائديا).
([2]) عباس لطيف، البطل والكينونة، جريدة الثورة (جريدة عراقية تصدر عن دار الثورة العدد 8979 بتاريخ 1/5/1966، ص 6).
([3]) تومالس كارليل، الابطال..من الشرق الى الغرب، ترجمة محمد السباعي، القاهرة: الدار القومية للطباعة والنشر، ب ت، ص 68.
([6]) عباس لطيف، المصدر السابق نفسه.
* في نية الباحث انجاز بحث نقدي ادبي (ان شاء الله) في مجال القيم الدرامية في القران الكريم لما وجده من غزارة للموضوع في قصص الانبياء وما تنطوي عليه من بنى اجتماعية وتكوينات اسطورية في قصص مثل اهل الكهف وغيرها من هذا المعجز الذي ظل دائما سابقا للتاريخ وحتى الانبياء. (الباحث)
([8]) فاروق خورشيد، اضواء على السير الشعبية، القاهرة: وزارة الثقافة والارشاد القومي، 1964، ص 21.