تتداخل الأسئلة واجتهادنا في الأجوبة، ثمة رسالة هنا، تتعدى هذا التفاعل الفني فيما أريد له من فن وجمال، ورسائل معاصرة تتكئ على إرث قيمي نبيل؛ ففي ظل ما نشهده من تحديات داخلية من نزاعات وخلافات، وجدت من يزيدها، يأتي صوت البرية صارخا، يستفز فينا ما هو نبيل وجميل، ليحقق وجودنا الاجمل.
تكون ليلة الافتتاح بليلة إماراتية، بعرض بعنوان “الفزعة”، تتجاوز المعنى القريب لما اعتدناه، لتصير الفزعة الحيمة والعقلانية، فليست هي من منطلق:
وما انا الا من غزية إن غزت غزوت وان ترشد غزية أرشد
ولا ترد الاعتداء فقط، بل تضمن السلام عن طريق التصالح الحقيقي، الذي يحقق للأطراف استقرارها، من خلال التربية على المعرفة والتنوير؛ حيث يرد الجيل الجديد على تهديد الآخرين من خلال رمزية “الغربان” من الأهل بحمل الفوانيس، مشاعل نور، فهل أجمل من هذه الروح المنطلقة من الشارقة الباسمة!
لقد وفق الكاتب سلطان النيادي في نصه، بإيصالنا جميعا الى مضمون عربي وإنساني معا، أما المخرج الشاب محمد العامري فصيّر أرض الرمل مسرحا كبيرا بفضاء رحب، يتسع للبشر والخيول والإبل والنخيل، والخيم، وتلك الحركة الجمعية للممثلين، وبالغناء، واللعب بالإضاءة لتشكل خلفية عمودية، تجعل الرمل الناعم خشبة فنية.
وأظن أن هذا العرض هو والعروض الأخرى، وما سبق من عروض الدورات الثلاث السابقة هو التجليّ لفكرة صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، “كمشروع فني وثقافي للتطوير والإضافة إلى ما عرفه المجال المسرحي العربي من محاولات وتجارب للتجديد والتحديث في الأدوات والرؤى وطرائق العمل”. حيث يصبح الفعل الفني ليس فقط انعكاسا للفكرة بل حافزا للنقاش الفكري، كون الفنون تتطور بالإبداع والوعي معا.
ولعلنا هنا، ومن خلال تأمل الاقتراحات المسرحية التي قدمها الشيخ القاسمي، كمثقف تنويري ومسرحي أيضا، نقرأ هنا رؤى لمفكّر عربي، في إعادة اكتشاف مكانه، وما تراكم من فنون العروض وصولا للشكل المعاصر، وما تراكم عالميا، لا لتأصيل المسرح عربيا، بل للتنوير حول الأثر الحضاري للتواصل الثقافي ليس في البوادي بل والحواضر العربية من فنون فرجة، ما زالت ماثلة حتى اليوم، باتجاه توظيف هذا التراث الغني مسرحيا، وهذا ما يحقق خصوصية معاصرة للمسرح العربي، وهذا أيضا ما فكّر فيه توفيق الحكيم حين اجتهد شكلا معينا في كتابه: قالبنا المسرحي، الذي أصدرها عام 1967، وما جد بعد الهزيمة من تكسير ما تقليدي وسائد، وصولا للتجريب الذي مارسه مسرحيون فلسطينيون دون العلم به، كونه مثلا شكلا جديدا يلائم المضامين الجديدة، وليس انتهاء بما يجدّ من مذاهب فنية ما بين المسرح التقليدي وبين التجريب والمعاصرة كون المضمون القويّ يخلق شكله.
في هذا المكان المترامي الأطراف، بفضائه الطبيعي الحقيقي، نجد أنفسنا كمشاهدين عرب، وككتاب ومهتمين أمام اختبار للمكان، بطقوسه الملائمة للفنون، لتأمل اقتراحات الفنانين من خلال العروض، فكأن المهرجان مختبر لهم، وكأنهم/ن مختبر للمهرجان. فالشكل ومضمون الفني-المسرحي هنا يجيء لا لينفي أو يؤكد الشكل الكلاسيكي لما اتفق العالم عليه من شكل للمسرح، بل ليثيرنا لإعادة الاكتشاف، والتفكير الجدي في التوظيف مسرحيا، وسينمائيا، وتشكيليا، وموسيقيا، وهو ما يميّز الاقتراح المفتوح والاختياري، فالفضاء المفتوح الملائم للمكان والثقافة، بل والوضوح الفكري، من خلال أحداث ومضامين من جنس المكان يثير الفكر المسرحي والإنساني، باتجاهات قيمية وجمالية. ومن الضرورة هنا التفكير بشكلي مسرح الشارع والمسرح الشعبي.
ولعل ذلك يتفق مع أشار له الأستاذ أحمد بو رحيمة، مدير إدارة المسرح في دائرة الثقافة ومدير المهرجان، حين ذكر بأن المهرجان “يرتكز على المرجعية الثقافية العربية، واستعادة ما تكتنزه من أنماط حكائية وأدائية ثرية، ويسلط الضوء على ما تضمنته من قيم وتقاليد وأعراف النبل والأصالة، وذلك عبر الاشتغال المسرحي البنّاء والرشيد، ومن خلال الوسائل والأدوات المبتكرة، التي تعمق من وقع جمالياتها ودلالاتها وتحبّبها لجمهور اليوم، وتضمن لها مكانها ومكانتها في فرجات عصرنا”.
وهذا يعني الوعي على إنجازات الذات وما يمكن أن تضيفه، ويعني احترام الفرجات الأخرى، التي نشأت في سياقات أخرى، والتقت جميعا في الشكل المعروف عالميا، والذي تندرج تحته أشكال وأساليب متعددة، فيها خصوصيات محلية.
بل إن النقاشات أخذت قالبا تراثيا، هو شكل المسامرة، والتي تعني في جوهرها الندية في التناول، بما يحقق المساواة.
مع هبوط الشمس قبل المغيب، ومع انفتاح الفضاء إلى أبعد مدى، وهذي السماء الممتدة الزرقاء الصافية، يعنّ لأطفال الشارقة تسلق التلال الرملية بحب وسرور، فيعيدوننا الى سنوات التكوين الأولى في قرانا وأماكن عيشنا، كان المكان الواسع مسرح طفولتنا، وتأملاتنا البريئة، وسرورنا الدائم. نتأمل المكان الآن، ذلك المدى الواسع الذي يصير أرضا للفن، ليفتح العقول ثانية لتأمل مكاننا العربي، وثقافتنا، وتاريخنا؛ فنغرق في نقاش حول بدايات حضارتنا وأشكالها تبعا للمكان، وصولا لمنظومة القيم التي صارت ناظمة لنا، كما البيئة التي تشكل الصحراء مساحة كبيرة منها.
لقد عشنا طويلا في البوادي، والواحات، قرب الصحراء، التي كانت مطلا لنا ومعبرا أيضا، لبواد وحواضر أخرى، وعشنا في القرى والمدن، ولكن ظل للمكان تأثيراته علينا جميعا، من قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل، حتى منزل الكهيف، حيث تقام فعاليات مهرجان المسرح الصحراوي.
هنا ينفتح الأفق للارتقاء بالتراث لا فقط بعرضه أو محاكاته، بل ببث الحياة في المستقبل من خلال “مقاربة ومعاينة الصلات بين الفن المسرحي وأشكال التعبير الإبداعي التي طورتها مجتمعات الصحراء”؛ فهل سيصار إلى استكشاف وإبراز الخطوط التي يمكن أن تصل بين الفن المسرحي وأنماط الأداء والمرويات والسير الشعبية في البادية كما هدف المهرجان عند التأسيس؟
الجواب متروك للمسرحيين/ات العرب في ما يمكن تقديمه في الفضاءات هنا وفي بلادنا العربية بما تهوى من سرديات وغناء ورسائل عميقة.
إننا أمام إعادة الثقة بأنفسنا ثقافيا، لأن ذلك يقوينا ونحن نشبك مع الأشكال والمفاهيم المعاصرة، بل إن ذلك يشكل تحصينا للأجيال الجديدة، حتى لا تحاكي المعاصر بمعزل وانقطاع عن إنجازاتها الحضارية.
تلك حدود الإنسان، المكان والزمان، لنا، وتلك هي الأمكنة الأزمنة لتلاقي البشر، والتي تزيد من احترام الشعوب لبعضها بعضا، بما يضمن ولو عند الحدود الدنيا للسلم بين الشعوب.
ولا نبالغ إن قلنا إن التفكير بالقالب الفني هنا للمسرح الصحراوي يشجعنا على تأمل ثقافتا الممتدة من الماضي للمستقبل، والتي هي جزء من تاريخنا العام والاجتماعي والثقافي والأدبي والفني ومنه تاريخ المسرح العربي.
وحسنا إذ يطوّر المهرجان أدبيات مسرحية من خلال أول كتاب له حول فكرته، تحت عنوان: “المسرح والصحراء”، يتضمن مداخلات ورؤى حول تجربة المهرجان ومستقبله، إضافة إلى قراءات في بعض عروضه وفعالياته السابقة.
Ytahseen2001@yahoo.com