من الصعب جدا، ان تفصل الكاتب عن نصه، فحينما قرأت “الخبز الحافي” لأول مرة، كان دافعي ان أتعرف على شكري، و في كل سطر و كل معنى حتى من الروايات الاخرى لشكري، كنت أجده، أجده بين الأحرف كرجل عاش المعاناة، و عندما اخذت بين يدي “رحلة العيش” لأقرأها، كان وجه “زفزاف” أمامي، يخاطبني و يقول هذا نصي، أنا الغرباوي ابن سوق الأربعاء، و حتى عندما بدأت في القراءة باللغة الفرنسية، و تعرفت على كتابات “محمد خير الدين”، فقد كنت دائما ما أجعل استحضار شخص الكاتب من طقوس استكشاف عوالم نصه الابداعي، و هذا ما حدث لي تماما مع الشاب الروائي “سعيد السعدي” صاحب رواية “رحلة الشتاء و الصيف و الخريف”، فكل من ذكرت هم رموز من تيار الحركة الواقعية الأدبية، و هذا ما يجعل من مكونات نصوصههم الروائية إما أناسا حقيقيين من حولنا أو تعابير و حالات نعيشها او نعيش معها يوما بيوم في البيت أو الشارع أو المقهى أو الحانة . رواية “رحلة الشتاء و الصيف والخريف” هي رواية أدبية واقعية شعبية، تدور احداثها في الوسط البدوي الغرباوي المغربي، حيث تغمق التقاليد و العادات على جزء كبير من حرية الفرد و حاجته الى استكشاف نفسهم، وحيث يلعب الفقر و التهميش و الاقصاء الملقى على رؤوس ساكنة المنطقة دورا كبيرا في تحيين فكرة الهجرة الى المدينة، و هذه هي الفكرة الخالصة التي اعتقد ان كاتب النص انطلق منها ليحبك رواية تأخذك سلاسة احداثها و بساطة لغتها الى القرية و الزمن الذي عاشت فيه بطلة الرواية ” الغالية” و الشخوص المرافقة لها .
من اكثر ما راقني، في هذا النص الروائي الذي كان لي شرف الحضور في حفل لتوقيعه، و التعرف عن قرب على صاحبه، هو انه ذمج بطريقة راقية بين صلابة النص المعتمدة اساسا على اللغة الفصحى المكتوب بها، و شاعرية اللغة العامية التي تطل علينا من حين لأخر حسب السياق الذي يراه الكاتب ملائما لاستعمالها، فتماما كما اقترب المغاربة من “شكري” و “خبزه الحافي” بصراحته و لغته البسيطة التي لا تخلو من العامية، اعتقد ان “رحلة” سعيد ايضا نالت حظها من نصيب الابداع الجارف الذي لم تنل منه قواعد اللغة ولا ظوابطها، و نفست عنه العامية التي تجيئ بين الحين و الأخر لتكسير ذلك الجمود السردي التراتبي الذي تفرضه الفصحى باعتبارها لغة النص .
بالعودة الى “الغالية” وهي الفتاة الغرباوية التي تنحذر من قرية مجاورة لمدينة مشرع بلقصيري، تعيش في وضع مأساوي مع أبيها “الطيب” وزوجته “لطيفة”، وهنا ينتقل الكاتب من حادث الى اخر في قصة هذه الطفلة التي تحولت الى امرأة راشد على صغرها بسبب ما عاشته، وفي تفاصيل التفاصيل ستظهر جرأة الكاتب في تعامله الأدبي مع المسكوت عنه في حياة المغاربة البسطاء، و سيمر من السياسة الى الجنس مشرحا البنية الفكرية الهشة التي تجعل من سكان هوامش المدن و القرى مادة دسمة لاستقبال كل الافكار الدجلية و الخرافات المتعلقة بالطابوهات التي ذكرت بالاضافة الى ايمانهم بالسحر و الشعوذة باعتبارهما “مصباحا سحريا” لحل المشاكل و ايجاد الخلاص، و الجميل في الامر ان هذا الالتزام لم يفقد النص حبكته ولا ابداعيته بتاتا . فكرة ان النجاة هي الهجرة، بني عليها جزء كبير من الرواية مما جعل منها نصا متحركا مكانيا حيث يتنقل القارئ مع النص الى امكنة عدة، في قالب سردي و حكي يصعب جدا الفصل فيه بين الأدبي و الشعبي، و هذا هو عمق الغموض في هذه الرواية، التي جمعت بين منهج الحكواتي الذي يحكي قصة شعبية بتفاصيل مهترئة في قالب محلي محض و منهج الكتابة الأدبية العميقة التي تحمل الأسطر فيها رسالة و معنى و ثقلا لغويا يجعل منها صعبة الحركة . ربما هذا كان تصوري الاولي العام من قراءتي الاولى لرواية ” رحلة الشتاء والصيف و الخريف” للكاتب الروائي ابن المغرب العميق “سعيد السعدي” و لن احرق طبعا احداث الرواية ولا وقائعها حتى يتسنى لكل قارئ ان يلتقي بالنص و يغازله من اجل ان يشكل تصوره الخاص عن قصة “الغالية” و رحلتها من البادية الى المدينة .