عندما تدلف لدار فرقة المسرح الكوميدي في المنيل، فأنت حتما تعرف ما الذي ينبغي أن يقدم لك من متعة وجدانية، تبعد عقلك المجهد عن الانشغال بتفجيرات الواقع اليومية، ليس هروبا منها، ولكنها سويعات تسترد فيها أنفاسك اللاهثة، وتمنح قلبك حق الضحك في زمن صارت السخرية المثيرة للضحك واحدة من أدوات مقاومة من يريدون أن يطفئوا نور الحياة على الأرض .
غير أن ما قد لا تنتبه إليه هو أن الكوميديا هي فن مغازلة العقل، لا تثير المشاعر كالتراجيديات القديمة أو الدراما الجادة الحديثة، بل هي تخاطب عقلك وتسحبه معها لنقد الواقع الذي تهرب منه، لكنه النقد الساخر الذي يجعلك تضحك على ما وصل إليه حال هذا المجتمع من تخبط وفوضي بحاجة لضبط وتغيير لأفراده وشرائحه لكي يستقيم الفرد ويستقيم المجتمع معا، فالكوميديا لا تبكى على الأطلال، ولا تحيل المصائب لأقدار طاغية أو لمجتمع ظالم، بل هي تشخص حال هذا المجتمع وتشير لأسباب الخلل فيه، وتتعدد مستويات الكوميديا فكريا وجماليا، أبرزها عروض الفودفيل التي تحتوى على الرقص والغناء والإفيهات إلى جانب التمثيل، وتدور عادة حول سوء الفهم، الذي يجد بطل العرض نفسه داخله، فيجبر على فعل ما لا يريد أن يفعله، أو يساير موقف سوء الفهم ويستغله لصالحه، ويتفجر الضحك من معرفة الجمهور لحقيقة موقف سوء الفهم الذي يتحرك داخله بطله المتعاطف عادة معه، بينما بقية الشخصيات أو غالبيتها لا تعرف هذه الحقيقة، حتى ينكشف الأمر في النهاية، وعادة ما تكون نهاية وعظية أخلاقية.
وهو ما سار على دربه العرض الذي يقدم بنجاح جماهيري حاليا بعنوان (أنا الرئيس) عن نص قديم للكاتب الساخر الراحل “يوسف عوف” بعنوان (اللي ضحك على الحكومة) على هدى نص “علي سالم” الأٌقدم (الراجل اللي ضحك علي الملائكة)، واستخداما لآلية سوء الفهم، التي استخدمها من قبل الكثير من الكتاب، وبصورة جلية الكاتب الروسي “نيكولاى جوجول” في نصه الشهير (المفتش العام) الذي ترجمه د.”رشاد رشدي” وأخرجه للإذاعة “كامل يوسف”، ويدور حدثه حول اللبس الذي تقع فيه إحدى القرى حينما يتم إبلاغ الموظف الكبير بخطاب من أحد الأصدقاء بقرب وصول أحد المفتشين للجهاز الحكومي بالقرية، وهو حريص على التخفي، مما يجعلهم يتصورون أن غريبا فقيرا هو المفتش العام، كما تم إعداده للسينما وكتب له السيناريو وأخرجه “حلمى رفلة” بنفس عنوان (المفتش العام) عام 1956، وجرى تمصيره وقدمه مسرح التليفزيون بنفس العنوان أيضا عام 1961 ، من إخراج عبد المنعم مدبولي، وتردد صداه في العديد من الأفلام والمسرحيات الكوميدية، مما يجعل موضوعه قريبا جدا من ذائقة المشاهد.
** الحبيب المجهول
هذا الاقتراب من ذائقة المشاهد يلعب على أوتاره المخرج “محسن رزق” بذكاء، والذي تمرس على الكتابة الكوميدية، وقدم مع النجم “سامح حسين” عدة أعمال ناجحة مثل (القبطان عزوز) و(عبودة ماركة مسجلة) و(الزناتى مجاهد) و(اللص والكتاب) وأحدثها (حاميها حراميها) التي أستخدم فيها أيضا آلية سوء الفهم من خلال شقيقين توءم مختلفي الطباع والأهداف في الحياة، مغرما بكوميديا الموقف البعيدة عن الابتذال اللفظي، وهو ما شكل من “سامح حسين” و”محسن رزق” ثنائي واعي متفاهم يقدم كل ما هو راق ومفيد ومؤثر في الجمهور العام
يفتتح الستار في مسرحيتنا بمشهد متخيل صاغ صورته المرئية والعرض بأكمله السينوجراف المتميز د. “محمود سامى”، يتوافق مع اللوحة الاستعراضية المعتاد تقديمها في مفتتح المسرحيات الكوميدية، والمقدمة هنا بكلمات “خالد الشيبانى” وألحان “وائل عقيد” وتصميم “أشرف فؤاد” بمجموعة راقصين جيدين ومنضبطين، تتوسطهم العروس “حنان مطاوع” باحثة عمن يستحق حبها ورفقة عمرها، فيتوالى تقدم الخطاب لها، ترفضهم واحدا تلو الآخر، حتى يظهر بالطبع فارسها “سامح حسين” فيفوز بها، في استدعاء محترم ودون إسفاف لأوبريت “ليلى مراد” ومجموعة الفنانين الشهير (الحبيب المجهول)، وهو مجرد مشهد افتتاحي، دون ارتباط درامي وفكري بحدث المسرحية. منتقلا منه لعالم الشاب الفقير “عصام كمال” (سامح حسين) الذي يسكن مع أمه (الممثلة العائدة بعد غياب طويل”نادية شكري”) في منزل آيل للسقوط بحي شعبي، دون قدرة على تركه والبحث عن منزل آخر، فرغم حصوله من خمس سنوات على بكالوريوس إدارة الأعمال بامتياز، إلا أنه لم يجد عملا، منضما في ذلك لمجموع العاطلين من الشباب، ومضطرا للعمل في أكثر من مهنة ومنها مهنة السباك، التي تسمح في البداية بتقديم سوء الفهم المثير للضحك بوجود “عصام” بشقة لإصلاح عيب في حمامها، بينما تعانى صاحبة الشقة من آلام الولادة، ويدخل الزوج (أحمد مجدي) شقته ليلتقي بالسباك الذي يظنه الطبيب المولد لزوجته، فيتبادل معه حوارا مضحكا ناتج عن سوء فهم متبادل بينهما .
** مواجهة الفساد
هو موقف صغير لسوء الفهم يمهد للموقف الرئيسي للمسرحية، ويمكن حذفه لما له من إيحاءات بإهانة المرأة بتشبيهها بالحمام، ومن أجل ضغط مساحة المسرحية لتدور حول حدثها الأساسي الذي يتطلب تهيئة الجمهور له، وهو وصول “عصام كمال ” لمؤسسة عامة لتسلم عمل له، بتوصية من صاحب الشقة التي حدث بها سوء التفاهم حول ولادة زوجته، وذلك في نفس الوقت الذي يصل خطاب لنفس المؤسسة يعلنها بوصول رئيس جديد لها يحمل أسم “عاصم كمال”، مما يجعل العاملين بالمؤسسة يتصورون أن “عصام” الحاصل على بكالوريوس إدارة الأعمال هو الرئيس الجديد للمؤسسة، فيضعونه على مقعدها الأعلى، ويتصرفون معه باعتباره الرئيس، وبخاصة المدير العام للمؤسسة الغارق في الفساد (فتحي سعد) (حل محل “محمد التاجي” الذي انسحب من المسرحية بعد بداية عرضها)، والذي يجند كل موظفي المؤسسة لتنفيذ عملياته الفاسدة مع المتعاملين معها، ويحاول أن يوقع بالرئيس الجديد بين فرائسه، بالرشوة المباشرة وبدفعه مخمورا للتوقيع على صفقة مشبوهة، وبالمقابل تظهر أبنته (حنان مطاوع) التي تعمل سكرتيرة للرئيس، واقفة بشرف وعطف إلى جواره ضد الفساد، ومساعدة له في تقديم مشروع كبير لتطوير الشركة إلى المسئولين الكبار، حتى يجد “عاصم” نفسه في النهاية في مأزق إنساني، حينما يحل الرئيس الجديد بالفعل، ويعجب بمشروع “عصام” ويطلب منه الكشف عن الفاسد الأكبر في المؤسسة، فيصمت لوقوعه في حب الفتاة، ولكنها تفاجئ الجميع بكشف حقيقة أبيها، فيزداد حبه لها، ويتم القبض بالطبع على الفاسدين، ويقوم رئيس المؤسسة الجديد بتعيين “عصام” في المؤسسة، لتنتهي المسرحية بفرحة التعيين، وبهجة إعلان الحب بين الشابين، وبتوجهه بخطبة النهاية التي صارت تقليدية في المسرحيات الكوميدية، واقفا في بؤرة ضوئية ساطعة متوجها بحديثه لرئيس البلاد، ولجمهور الحاضرين، بضرورة الوقوف معا للقضاء على الفساد في المجتمع .
** فرسا الرهان
عرض بسيط الفكرة، سلس الصياغة، شخصياته واضحة المعالم ومحددة السمات، تتفجر فيه الكوميديا الرائقة من الموقف الملتبس، فيصبح “سامح حسين” هو فرس الرهان الأول المتقلب بين حقيقة شخصيته كموظف لم يعين بعد في المؤسسة، ورئيس هذه المؤسسة التي يتصور العاملون بها أنه هو، وينجح “سامح” في ضبط حركته الملتزمة بالموقف الملتبس، وبعلاقته ببقية زملائه داخل المشهد، فلا خروج على النص وحركة الشخصيات إلا قليلا، بتزيد في الحركة من زميل له يتطلب منه حركة إضافية غير متفق عليها من قبل، أو بزيادة جملة موسيقية تدفعه للتعليق عليها، بينما زميلته “حنان مطاوع” متمسكة بمفاتيح حوارها، متألقة بحيويتها البادية في قدرتها على الغناء والرقص الاستعراضي وصياغة حضور خاص بها يمنح شخصيتها البسيطة كسكرتيرة بريئة وغير متورطة في فساد أبيها وموظفي الشركة، والمدركة منذ الوهلة الأولي لحقيقة “عصام”، مما لا يتيح لشخصيتها المكتوبة مساحات لتفجير الكوميديا، وأن نجحت هي، مع المخرج، في صياغة هذا الحضور الخاص بها، والذي يتجلى في حركات جسدية وصوتية، تكررها بعفوية مثل تكرار صيغة “أجوع مع الجعانين”، مما يفجر البسمة على الشفاه، ويجعلها فرس رهان مواز ل “سامح حسين” وباتفاق معه في سباق المسرح الباسم .
نجح المخرج “محسن رزق” في أن يقود فريق عمله ليقدم عرضا ناجحا جماهيريا قادرا على مخاطبة عقله، وإثارة حاسة النقد داخله على الأوضاع المجتمعية التي نعيشها، ومحرضا إياه بعنوان المسرحية ومسار حدثها تجاه كل من يصل بالمصادفة أو المحسوبية أو الصراخ الثوري لرئاسة مواقع ليس أهلا لها، وتجاه كل الطاقات والكفاءات التي تبحث عن مكانها الصحيح لكي تدفع هذا الوطن للأمام .. تحية له ولكل الفنانين والفنيين العاملين بهذا العرض الجاذب للجماهير برقي ، ولمديرة المسرح التي تبنت هذا العرض ووقفت إلى جانبه الفنانة “عايدة فهمي” .