مقالات

الملك غوستاف الثالث ملك المسرح/ د. فاضل الجاف

في تاريخ المسرح، هناك شخصيات تترك بصمات لا تُمحى، وحين نتحدث عن الملوك والحكام الذين كانوا حماة للفنون، يبرز اسم غوستاف الثالث Gustav III ملك السويد كشخصية فريدة ومتفردة. هذا الملك، الذي وُلد عام 1746 ونشأ في بيئة مشبعة بروح الثقافة الفرنسية، لم يكن مجرد حاكم يهتم بالسياسة وتدبير شؤون البلاد، بل كان أيضًا عاشقًا للفن والمسرح ومبدعًا متحمسًا يقف على خشبة المسرح كممثل ومخرج. وإلى جانب ذلك، كان كاتبًا مسرحيًا ألف عدة مسرحيات تاريخية، وكراعٍ للفن والثقافة، صرف جزءًا كبيرًا من أمواله على دعم الفنون وتطويرها، مما يعكس شغفه العميق وسعيه لتعزيز اللغة والثقافة السويدية. من خلال هذه الرحلة المذهلة، تجاوز غوستاف الثالث دوره التقليدي كملك ليصبح أحد أهم رواد النهضة الثقافية في السويد.

لكن ما الذي جعله يستثمر في المسرح والأوبرا بهذا الشغف؟ دعونا نكتشف تفاصيل حياة غوستاف الثالث، وتأثيره الذي امتد من طفولته وحتى تأسيسه للمسرح الملكي والأوبرا السويدية.

غوستاف الثالث، المولود عام 1746 والمتوفى عام 1792، نشأ في بيئة مشبعة بالثقافة الفرنسية، وتلقى منذ طفولته تعليمًا فنيًا مكثفًا. تأثر بشدة بوالدته الملكة أولريكاUlrika التي كانت شغوفة بالأدب والفن والمسرح، مما أسهم في تكوين شخصيته الحساسة والمواهب المتعددة التي تميز بها. في ذلك الوقت، كانت الثقافة الفرنسية تسود أوساط الطبقة النبيلة في السويد، وكان العديد منهم، بما في ذلك غوستاف، يتقنون اللغة الفرنسية.

تلقى غوستاف تعليمه الأساسي بين سن الرابعة والثامنة على يد كارل غوستاف تيسين Carl Gustaf Tessin ، أحد أبرز الشخصيات الثقافية في السويد، الذي علّمه مبادئ الأخلاق واللغة الفرنسية ومنحه دروسًا في الفن. كما درس غوستاف التاريخ على يد المؤرخ أولوف فون دالين Olof von Dalin ، مما أثار اهتمامه بهذا المجال. وقد شملت دراساته اللغات، والتاريخ، والرياضيات، والأخلاق، وحقوق الإنسان والدولة، إلى جانب إتقانه للغة الفرنسية بطلاقة.

بعد إتمام تعليمه الرسمي في عام 1762، انخرط غوستاف في أنشطة ثقافية متعددة شملت فنون الخطابة والمسرح. وكان شغوفًا بالمسرح بفضل الفرقة المسرحية الفرنسية التي استقدمتها والدته إلى ستوكهولم، فشارك غوستاف في أنشطتهم كممثل ومخرج، مما عزز ارتباطه بالفن المسرحي وأسهم في تطوير موهبته المسرحية مبكرًا.

Alexander Roslin. Hans ateljé: Gustaf III med frihetsbindeln.
NM 4398

كان غوستاف الثالث يسعى لتقديم مسرحيات مكتوبة باللغة السويدية، ولكن نظراً لعدم عثوره على كاتب مسرحي مناسب لهذا الغرض، قرر أن يكتب بنفسه في خريف عام 1782 أثناء تواجده في قصره في غريبسهولم Gripsholm في ماريفريد Marifred. كتب خمس مسرحيات كانت تدور حول شخصيات تاريخية لملوك سويديين أعجب بهم، مثل غوستاف فاسا وغوستاف الثاني أدولف. ومن أجل تقديم عروض عالية المستوى، اختار غوستاف بنفسه ممثلين من الخارج، مستعيناً بالفنانين والموسيقيين البارزين. في البداية، عُرضت مسرحياته باستعانة ممثلين هواة، ثم بممثلين محترفين في المسرح الدرامي الذي أسسه عام 1788، والذي أصبح يُسمى بالمسرح الملكي(دراماتن) فيما بعد. بهذه الخطوات، ساهم غوستاف في خلق نوع جديد من المسرح السويدي الذي دمج بين الدراما الجادة والكوميديا، مستوحياً مادته من التاريخ السويديوقد اعتمد في ترسيخ دعائم المسرح السويدي على نماذج من المسرح الفرنسي لتقديم محتوى مسرحي جديد ومبتكر.

أسس غوستاف الثالث عدداً من المسارح في قلاع مختلفة، مثل قلعة غريبسهولم وقلعة دروتنينغهولم Drottningholms slottsteater في ستوكهولم. كانت هذه القلاع مكانًا لعروض مسرحية، حيث كان أفراد العائلة الملكية يلعبون الأدوار الرئيسية. ومن التفاصيل المثيرة أن الأزياء المسرحية كانت من ممتلكات الملك غوستاف الثالث الخاصة. وكان هذا الاهتمام بالمسرح جزءًا من البيئة الثقافية التي بدأ تشكيلها في القصور قبل ولادة غوستاف الثالث، ويرجع ذلك جزئياً إلى والدته أولريكا، التي ربّته ليكون شخصية مهتمة بالفنون والثقافة. في قصر أولريكسدال، تم تحويل مساحة واسعة إلى مسرح عام 1753 بعد أن تم تتويج والديه ملكاً وملكة، ولا يزال هذا المسرح يُستخدم للعروض الصيفية حتى اليوم. هناك بدأ غوستاف تجربته الأولى في عالم المسرح والأوبرا، وقد أُعيد تأهيل هذا المسرح بأدواته وأجهزته لتعود إلى حالتها الأصلية في القرن الثامن عشر بمساعدة مخططات مسارح غريبسهولم ودروتنينغهولم.

لم يتوقف اهتمام غوستاف الثالث على الأوبرا والمسرح فحسب، بل قام أيضًا بتأسيس الأكاديمية الملكية للموسيقى Kungliga Musikaliska Akademien في عام 1771. كانت هذه الأكاديمية تهدف إلى تطوير الذوق الموسيقي وتعليم الجوانب العلمية المتعلقة بالموسيقى ومسرح الأوبرا. في تلك الفترة، لم تكن هناك مؤسسة مماثلة في أوروبا سوى في إيطاليا. وقد أسهمت هذه الأكاديمية في تأسيس الأوبرا السويدية الملكية، كان غوستاف الثالث مؤمنًا بأن الأوبرا يمكن أن تلعب دورًا مهمًا في توحيد الشعب السويدي وتعزيز روح الوطنية في البلاد.

وفي هذا السياق، أراد غوستاف الثالث أن تعتمد عروض الأوبرا على ليبريتوات سويدية، بدلاً من تلك الفرنسية أو الإيطالية التي كانت سائدة آنذاك ، ولكن نظرًا لعدم وجود مؤلفين موسيقيين متمكنين في السويد، قرر إرسال جوزيف مارتن كراوس Joseph Martin Kraus إلى الخارج لدراسة التأليف الموسيقي. كان كراوس، الألماني الذي وصل إلى السويد عام 1778، قد تعاون مع الملك في كتابة الأوبرا، لذا أرسله غوستاف في رحلة استمرت خمس سنوات إلى أوروبا ليطور مهاراته في التأليف الموسيقي على نفقة الملك الخاصة. وبعد عودته إلى ستوكهولم في عام 1783، تم تعيينه عضوًا في الأكاديمية الملكية للموسيقى ورئيسًا للفرقة الموسيقية في الأوبرا الملكية. خلال رحلته، تعرف كراوس على كبار الموسيقيين مثل هايدن وسالييري، وعُرضت أعماله في مسرح دروتنينغهولم على مدار السنوات.

كما دعا غوستاف الثالث الفرقة المسرحية الفرنسية التي أسسها جاك ماري بوتيه دي مونفيل Jacques Marie Boutet de Monvel عام 1781 إلى السويد لتقديم عروض أمام البلاط الملكي في ستوكهولم. كانت هذه العروض تقام في المسارح الملكية الخاصة.

وفي عام 1773، أسس غوستاف الثالث المسرح الملكي( القومي) في ستوكهولم، في خطوة تهدف إلى تأسيس ثقافة مسرحية سويدية، حيث قرر تكوين فرقة سويدية جديدة لتقديم عروض الأوبرا السويدية. وقد استمرت فرقة الأوبرا السويدية في تقديم عروضها حتى عام 1782، عندما تم الانتهاء من بناء دار الأوبرا الجديدة، التي كان للملك مقعد خاص فيها في الصف الأول.

استمتع غوستاف الثالث بالأوبرا والباليه التي أنشأها طيلة عشر سنوات، حتى أطلق عليه الرصاص في 16 مارس 1792 أثناء حفلة تنكرية في دار الأوبرا، وتوفي في 29 مارس من نفس العام.

احتفظ بالملابس التي ارتداها الملك في تلك الحفلة التنكرية، وهي معروضة الآن في متحف الأسلحة الملكي في ستوكهولم Kungliga Slottet i Stockholm، وفيما بعد استلهم المؤلف الإيطالي فيردي من هذه الحادثة أوبرا (حفلة تنكرية) الشهيرة، التي تم عرضها لأول مرة في عام 1859. وقد أجرى فيردي تغييرات على الحبكة تفاديًا لإجراءات الرقابة. وتدور أحداث الأوبرا حول قصة حب معقدة، مليئة بالمفاجآت والمكائد، وتُروى في إطار حفلة تنكرية حيث تتكشف هويات الشخصيات وتحدث مفارقات درامية.

أما متحف التحف الأثرية لغوستاف الثالث في القصر الملكي في ستوكهولم Stockholms slott فيعد من أقدم المتاحف في أوروبا، ويظل مفتوحًا للجمهور حتى اليوم. جمع الملك التماثيل خلال رحلة إلى إيطاليا في نهاية القرن الثامن عشر. في تلك الفترة، كانت الأرستقراطية والأمراء يقومون بـ “الجولة الكبرى” – رحلة تعليمية إلى إيطاليا لاقتناء التحف الفنية ونقلها إلى أوطانهم. وقد قام غوستاف الثالث برحلة مشابهة بين عامي 1783 و1784، حيث كان البابا بيوس السادس Pius VI مرشده في روما والفاتيكان.

وفي عام 1786، أسس غوستاف الثالث الأكاديمية السويدية Svenska Akademien مستلهماً فكرتها من الأكاديمية الفرنسية. وقد كتب الملك بنفسه جزءًا كبيرًا من قوانين الأكاديمية، وكان من مهامها العمل على تنقية وتقوية ورفع مستوى اللغة السويدية. ومنذ عام 1901، أصبحت الأكاديمية السويدية تمنح جائزة نوبل الأدبية، التي تُمنح في حفلة سنوية تقام في قاعة المدينة في ستوكهولم لتكريم الفائزين بجوائز نوبل السنوية. وقرر الملك أن يكون عدد أعضاء الأكاديمية 18 عضوًا.

ينظم الحفل السنوي هذا العام في 10 ديسمبر، بحضور 1300 ضيف في القاعة الزرقاء في قاعة المدينة في ستوكهولم. وفي بعض المدارس السويدية، تُقام مأدبة نوبل للأطفال في نفس اليوم الذي يُحتفل فيه بالفائزين بجوائز نوبل في قاعة المدينة. يمكن تنزيل وصفات الطعام من موقع متحف جوائز نوبل الإلكتروني، مما يجعل أفكار غوستاف الثالث المتعلقة بالأكاديمية تصل إلى أطفال المدارس اليوم، ليذكرهم بأهمية الفن والثقافة والعلم في هذا اليوم.

كتب عن الملك غوستاف الثالث العديد من الأعمال الأدبية في مجالات المسرح والرواية والشعر، إلى جانب الموسيقى، كما تم ذكره سابقًا. ومن أبرز هذه الأعمال مسرحية أوغست ستريندبرغ بعنوان “Gustaf III” التي عرضت عام 1903. تعكس المسرحية تأثير الملك غوستاف الثالث على التاريخ السويدي، لا سيما اهتمامه العميق بالفنون والمسرح، وإصلاحاته السياسية، بالإضافة إلى الأثر المأساوي الذي لعبه اغتياله في تشكيل ذاكرة الأمة.

يعرض ستريندبرغ أبعاد شخصية غوستاف الثالث، مركّزًا على صراعاته الداخلية والخارجية، بما في ذلك صراعاته مع النبلاء ومؤامرات البلاط التي أدت إلى نهايته المأساوية. المسرحية تتسم بالطابع الدرامي الذي يعكس أسلوب ستريندبرغ في تصوير الشخصيات التاريخية بأبعاد إنسانية، مع التركيز على الجوانب النفسية والتناقضات السياسية والاجتماعية في فترة حكم الملك غوستاف الثالث.

وبشكل عام تُظهر المسرحية غوستاف الثالث كشخصية تجمع بين الطموح الثقافي والحنكة السياسية، لكنه يعاني من عزلة القائد الذي يسعى للتغيير في مواجهة مقاومة الطبقة الأرستقراطية والنظام القديم.

بعد اثني عشر عامًا – العرض الأول لغوستاف الثالث

في مقدمتها لمسرحية غوستاف الثالث، تشير الباحثة السويدية ماريكا لاغركفيست Marika V Lagercrantz إلى أن المسرحية لم تُعرض خلال حياة ستريندبرغ. فقد رفض المسرح القومي عرضها، مُعللًا ذلك بتجسيدها المغاير لشخصية ملك المسرح. وعلى الرغم من أن مدير المسرح الملكي، قد اشترى حقوق المسرحية، إلا أنه قرر تأجيل عرضها، ولم يسمح بعرضها إلا في عام 1916 على مسرح (Nu intima- المسرح الحميمي الحديث)، أي بعد اثني عشر عامًا على تأليفها.

 

 

المصادر

Marika V Lagercrantz: GUSTAF III August Strindberg Ingår i Samlade dramatiska arbeten 2 Tryckår 1903

Kungahuset.se om Gustav IIIs paviljong i Haga där han bodde

Kungliga Slotten, hemsida om Sveriges kungliga slott

Livrustkammaren, där hans kläder från operan den kvällen han mördades kan ses

Lars Fimmerstad: Ur Stockholms historia

Riksarkivet.se där den politiska

delen av hans liv behandlas

 

عن: مجلة “المسرح العربي”/ عدد (44) أكتوبر 2025 

Related Articles

Back to top button