ثنائية الدلالة بين المضمر والمعلن في “مأتم السيد الوالد”/ حمزة الغرباوي

في فضاء أسود، يظهر أربع أبناء يختلفون في الجنس والأصل، مع أبٍ يفرض عليهم أوامره وشروطه من خلال صورة بيضاء. فهل تمثل هذه الصورة ثيمة العرض المسرحي؟ أم أن هناك شيئًا آخر يلوح في الأفق؟
يُعد هذا العرض المسرحي من بين العروض التي تنحاز إلى المفاهيم الواقعية بشكل ظاهر، وتقدم الأحداث بطريقة رمزية مخفية، إذ إن كل حدث يدور بين الشخصيات يحمل أبعادًا سيكولوجية وسوسيولوجية تحاكي المضمر وتحاول إخفاءه خلف المعلن. لم يكن البيت ذا دلالة أحادية المعنى، ولم يكن الأزواج أزواجًا عاديين يمثلون حياة زوجية هادئة، بل كان الصراع بينهم منذ اللحظة الأولى وهم يجلسون على كراسي العزاء صراعًا غير طبيعي، يحيلنا إلى مناطق متعددة من الفهم والتفسير العميق لكل حوار منطوق وفعل درامي مصنوع.
يمكن القول إن بناء العرض كان قصديًا، يتطلب وعيًا كبيرًا ومتابعة دقيقة من قبل المشاهد أو الناقد الحاذق، وقد سعى المخرج (مهند هادي) إلى تقديم مفهوم مغاير للمعنى المعلن والمضمر، من خلال عدة أساليب إخراجية تمثلت في عدة عناصر مثل تصميم الديكور، الأزياء، والإضاءة المستخدمة، كما نلاحظ أن شكل الصراع بين الشخصيات، عبر حوارات متعددة كتبها المؤلف (مهند هادي)، لم يكن ثيمة لعرض عادي، ولم تكن فكرته ذات أبعاد ظاهرية، بل حمل كل حدث مدلولين: مدلول معلن وآخر مضمر.
ومن خلال هذه الجدلية الدرامية ومدلولاتها السياقية المقيدة بين شرطَي المضمر والمعلن، أجد ضرورة حتمية لتفكيك العرض وتحليله بطريقة انزياحية تكشف للقارئ مجموعة من الدلالات والمعاني المنصهرة داخل بوتقة العرض.
أولًا: الممثلون:
الممثلون هم أدوات من صنيعة الأب، حاول إخفاء ملامحهم طوال فترة وجوده المعلن. في الظاهر، هم أزواج عاديون يتصارعون فيما بينهم على بيت الأب وإرثه، وفي الباطن، هم أدوات جُلبوا من بيئة بلا جذور أو أصل (ملجأ للأيتام)، إذ تم احتواؤهم في هذا البيت الكبير من قبل الأب وزوّج بعضهم دون علم منهم.
جسّد شخصيات الأزواج كل من الممثل (باسم الطيب) والممثل (مرتضى حبيب)، وكان أداؤهما في الظاهر يدعو إلى التساؤل: لماذا هذا الصراع؟ وفي الباطن، كانا يشيران إلى جزئية تخص أرض الوطن وكيف تم الاستيلاء عليها من قبل أناس بلا أصول أو جذور. من هنا، نجد أن هذه الإشارة ذات البعد الأيديولوجي تفصح وتفضح ما هو مسكوت عنه.
أما طبيعة أداء كل من (أحمد الطيب) و(مرتضى حبيب)، فقد اتسمت بالرتابة المنضوية تحت نمط كلاسيكي، إذ سار الممثلان وفق خط بياني ثابت دون تغيير أو تطوير ملحوظ في الأداء الحركي أو الصوتي، مما يوحي بأهمية الحدث والفعل الدرامي الذي يجسّدانه. وفي مشاهد أخرى، تفوّقا على نفسيهما، خصوصًا في مشهد تبادل الأدوار خلف أبواب الديكور، أما الزوجتان، اللتان جسّدتهما كل من( إسراء رفعت) و(رهام البياتي)، فقد انصهر أداؤهما بعمق في صلب الشخصية، مما أضفى روحًا ثورية وبعدًا نضاليًا للعمل، إذ كانت الزوجتان متفاعلتين ومدافعتين عن الأب حد الاستماتة والهذيان، لكن الحقيقة ظهرت عكس ذلك في نهاية المطاف، إذ اشتركتا عمدًا في قتله عبر نوعية الدواء المقدّم له. والأب، في الحقيقة، ليس الأب كما هو معلن، بل هو الفاعل الحقيقي لكل ما حدث في الدلالة المضمرة.
ثانيًا: النص
تناول النص فكرة عميقة ذات أبعاد أيديولوجية تتجاوز ما هو مرئي أو مسموع على خشبة المسرح إذ إن المكتوب أو المقتبس أو المؤلّف لم يكن عاديًا، بل يدهش ويحتاج إلى مفكر عميق بمستوى العمق الذي تم تقديمه، في المعلن تدور فكرة النص حول أب لديه أربع أبناء وستة وخمسين حيلة يتسلّحون بها، وستة وخمسين فكرة سوداوية يعملون على تنفيذها، هذا التعبير مجازي، وقد لا يكون دقيقًا، لكنه يوحي بطريقة حتمية بأن الأبناء هم ستة وخمسين (مجرمين)، وتوضيح هذه الفكرة يتطلب تدبرًا دقيقًا.
لم يكن المؤلف (مهند هادي )يشير إلى الأحداث الدائرة على خشبة المسرح فقط، بل كان يوهم المشاهد العادي ويُنير فكر المشاهد المتقد، كما أن ثيمة العمل وطريقة كتابته جاءت على نحو معلن ومفهوم، لا تحمل غرائبية أو عبثية تنحصر ضمن دائرة اللامفهوم، بل كانت الحكاية واقعية، وطريقة كتابتها كلاسيكية هرمية: بداية، وسط، نهاية، ثم حل.
أما ملامح الغرابة، فتجلّت في فهم ما هو معروض من حدث معلن وآخر مضمر،ومن هنا يمكن تحديد الشكل العام الذي كُتبت به المسرحية أو تم توليفها، فنحن هنا نقيم العمل ونحاول تفكيك شفراته بعيدًا عن المرجعيات التي كُتب بها أو التداولية التي أوصلته إلى هذا الحد.
ثالثًا: الإخراج
حاول المخرج (مهند هادي) أن يتجاوز رتابة الطابع الكلاسيكي في عملية إخراج العرض، عبر وسائل متعددة ضمنها في إخراجه لمسرحية “مأتم السيد الوالد”. فقد ابتكر تشكيلات بصرية تبوح بما هو مضمر بشكل معلن، ومن بين هذه الابتكارات تشكيل ديكور البيت بطريقة تتوافق مع هدف العرض، فهو بيت دوّار يتحوّل في كل لحظة مع حركة الممثلين وفعلهم، كما شغل فضاء العرض بالضوء والظل بطريقة تحاكي حجم الواقعة والحدث المشار إليه، ونلاحظ أيضًا أن المخرج اعتمد بشكل كبير على أداء الممثلين وقدراتهم البيوميكانيكية في إدارة الحدث المسرحي، مقتربًا بذلك من الفكر الإخراجي للمخرج ( غروتوفسكي)، الذي كان يعتمد على الممثل أولًا، وكل ما بعد ذلك مجرد أدوات تكميلية أو تجميلية.
أما فكرة استخدام الدمى المشبهة بالجنين الصغير في مشهد الممثلة (رهام)، فكانت فكرة مضمرة تحمل معاني كثيرة تحتاج إلى إعلان، ومن بين هذه المعاني أن الأب يصطاد الأطفال الصغار ويسعى الى احتواءهم في بيته، ثم يطلقهم إلى الفضاء الخارجي ليصبحوا بعد ذلك ستة وخمسين.
رابعًا: السينوغرافيا :
تُعد السينوغرافيا من أهم التشكيلات البصرية التي يستخدمها المخرج لرفد المسرح بأكبر عدد من الألوان والأشكال المختلفة في الحجم والكتلة واللون. وهي علم مؤثر قادر على تحويل مسرح العلبة الإيطالي إلى شكل من أشكال الحياة التي يسعى المخرج إلى صناعتها.
وأجد أن العرض المسرحي “مأتم السيد الوالد” استخدمت السينوغرافيا فيه بشكل بسيط لكنه مؤثر، فقد وظّف المخرج الإضاءة في مقاربات متعددة وبقع متنوعة أضاءت الفعل الدرامي، ولم تكن الإضاءة هنا ذات هدف استهلاكي يقتصر على إنارة جسد الممثل أو الخشبة، بل كانت مصمّمة للتأثير والتوافق بين الفعل والفاعل.
كما استُخدم المنزل المتحرّك كقطعة ديكور متعددة الدلالة، فهو في المعلن منزل يحتوي على أربع أزواج وزوجات، وفي المضمر منزل يضم ابناء ستة وخمسين يتصارعون على الإرث الذي خلفه لهم الأب أو المربي أو المتحكم.
أما المؤثرات الصوتية، فقد استُخدمت بطريقة تحفّز الفعل الدرامي وتمنحه رتمًا معينًا تفرضه الحالة أو الحدث، وعلى الرغم من ذلك، أجد أن هناك بعض المسارات في العرض تحتاج إلى تعديل، مثل ضبط الإيقاع الصوتي والحركي للممثلين، والإسهاب في تنويع السينوغرافيا سواء في الديكور أو الإضاءة أو الموسيقى، بالإضافة إلى تقديم فواصل مباشرة للمتلقين لتعريفهم بأن المعلن ما هو إلا دلالة مضمرة تحتاج إلى متابعة دقيقة وحرص شديد لفهم ما هو منطوق أو مسموع.



