مقالات

التطبيع الذهني للسوشيال ميديا كآلية خفية لإعادة تشكيل وعي الفرد والمجتمع/هناء عطية

لا يُعاد تشكيل الوعي دائماً عبر الصدمة أو القسر المباشر بل في كثير من الأحيان يحدث ذلك ببطء شديد وبوسائل ناعمة وغير محسوسة، فالعنف الرمزي الذي يمارَس على العقول قد يتخذ هيئة التكرار الهادئ المنظم والمستمر حيث تغزو الصور والأفكار الذاكرة الجماعية دون ضجيج حتى تستقر في عمق اللاوعي بوصفها (عادية) ومن هنا يظهر التطبيع الذهني بوصفه أخطر أدوات التأثير من خلال تمرير أفكار وسلوكيات عبر السوشيال ميديا إلى ذهن الفرد ومن خلال التكرار غير الواعي للصور واللغة والترندات، حتى تصبح مألوفة بل وطبيعية من دون أن تُقابل بالرفض أو حتى بالتساؤل. وما يحدث اليوم أن حياة الأشخاص اليومية والعادية جداً تُعاد بثها على نحو متواصل فتُقدَم وكأنها النموذج المرجو وتُصاغ استجابات الجماهير لها باللايكات والتعليقات التي تغذي الخوارزميات وتعيد ترسيخ ذلك المحتوى ليُعاد تصديره كـقيمة اجتماعية أو نمط مقبول من العيش حتى وإن كان فارغاً أو زائفاً، وهكذا بين مطرقة التفاعل وسندان المعارك الكلامية تُهشم تدريجياً المفاهيم العميقة للجمال والنجاح لتحل محلها معايير سطحية يصعب حتى مساءلتها، ولذلك فحين يصبح قبولك مرتبطاً بمدى انسجامك مع هذا التيار لا بصدقك أو أصالتك، يتسلل التطبيع الذهني ويبدأ في نحت ذائقتك دون أن تدري فالعقل حين يُغمر بمشاهد العنف أو الكراهية بشكل مستمر يكف عن الرفض وبالتالي يبدأ بالتعامل معها كأمر طبيعي… ومن هنا تفقد الذاكرة الجماعية قدرتها على الرفض ويغدو الشذوذ هو القاعدة دون تصريح ودون مساءلة لأن النمط السائد لم يعد بحاجة إلى شرعية بل إلى تكرار فقط، وفي هذا الاطار كتب (ميشيل فوكو) عن آليات الضبط في الخطاب والمعرفة كاشفاً كيف يُعاد تشكيل الوعي من خلال ما يبدو طبيعياً أو مألوفاً وهو إذ يفعل ذلك يدرك أن الفرد لا يبحث عن الحقيقة بوصفها مطلقاً بل كمساحة حرة يُتاح فيها للنقد أن يُمارَس وللفهم أن يُعاد تشكيله باستمرار، لكننا في عصر السوشيال ميديا نعيش حالة من(الإجماع الوهمي)، حيث يُخيَل للأفراد أن الجميع يفكر مثلهم ويشاركهم القناعات نفسها لأن الخوارزمية ببساطة تصنع لهم مرآة مريحة تخفي التنوع الحقيقي وتضخم صوت التشابه، ومن هنا تنشأ فقاعة الرأي فيُختزل الحوار الحقيقي في ردود عاطفية أو صراعات سطحية ومع صمت الأغلبية أو انجرارها خلف ما هو رائج يصبح الاختلاف في الرأي حتى في أبسط الأمور كأنه تمرد غير مرغوب. وبالتالي فأن ذلك يقودنا الى تساؤلات متعددة: من يزرع هذه القناعات؟ ومن يملك أدوات توجيه الوعي؟ وهل ما يُبث في هذه المساحات مفتوح للجميع أم خاضع لحسابات الربح وعدد النقرات؟ وهل ندرك فعلاً ما تفعله هذه الآلية بوعي الأجيال القادمة حين تغرس فيهم قناعة راسخة بأنهم على صواب فقط لأنهم يشبهون الأكثرية الرقمية؟…..لقد تراجعت وظيفة الإعلام إلى ملاحقة المحتوى الرقمي بعدما كانت الإذاعة والتلفزيون منصات مرجعية للخبر والرأي أما اليوم فالآلة الإلكترونية هي التي تُخبر وتُهول وتُهندس ردود الفعل وكأن العقل البشري صار تابعاً للبرمجة لا للمساءلة، وعلى هذا الاساس اذن، يمكننا القول الان بأن (التطبيع الذهني) للسوشيال ميديا لا يُعد مجرد أثر جانبي بل مشروع خفي يعيد تشكيل الفرد والمجتمع عبر تقنيات تبدو عادية لكنها عميقة الأثر لأنها لا تهاجم بل تُقنع ولا تُرغم بل تُعود… وهنا يكمن الخطر..

 

* هناء عطية/ نافدة عراقية

Related Articles

Back to top button