سيرة

الدرس الأول: أسفار حرة بين الثقافات/ د. فاضل الجاف

عاشت في فضاء كركوك إبان الخمسينيات والستينيات أقوام من الكرد والتركمان والآشوريين والعرب والأرمن، بتقاليد شعبية مختلفة، وفي حارات وأحياء بنسق شرقي بحت كان يشكّل طرازاً عفوياً للتعددية الثقافية التي اكتشفها الغرب مؤخراً وبدأ يطبّل لها تحت شعارات إنسانية براقة. في ظل تلك التعددية، كانت العلاقات والتجارب ونسق الحياة في تحول متواصل وانتقال دائم. تلك ميزة فريدة يتمتع بها طفل نشأ وترعرع في بيئة يكون فيها النضج تحولاً دائماً وانتقالاً مستمراً: من فضاء إلى آخر، من لغة إلى أخرى، من نظام معين في التفكير إلى نظام آخر.

إن دراما الحياة في تلك المجتمعات كانت قائمة على التضارب والتضاد في القيم والمفاهيم الثقافية. وكان الناس حينذاك نوعين: منهم من كان يتجنب ذلك بالتقوقع في فضائه المحدد، ومنهم من كان يخوض مغامرة التعددية الثقافية. وكنت أتشبّه بالفارس الذي يخوض المغامرة دائماً، غير أن جوادي كان دراجة خضراء جميلة من نوع “فيليبس 24”.

التحول والانتقال الدائم من منفى إلى منفى أصبحا المصير المحتوم لذلك الطفل، الذي كان يقود دراجته ليلتقي بصبية يختلفون عنه في اللغة والتقاليد وأحياناً في الدين. طفل كان يسعى جاهداً كي يُلائم نفسه في خضم هذا التضارب، وفي الوقت نفسه يتشرب من منابع متعددة من الغناء والشعر والموسيقى. وفي الأمسيات، كان يمضي وقته في القراءة على نور فانوس خافت، مستمتعاً بدفء الأبوين وقراءة الشعر والحكايات.

يقيناً، إن أسفاري بين الثقافات كانت مغامرة روحية تركت آثارها العميقة على ثقافتي الإنسانية. وكانت معظمها تبعث السرور في النفس وتجعلني أشعر بالوفاق مع الذات.

كان ولَعي بمشاهدة الأفلام السينمائية قد أصبح هاجساً يومياً، ساعدني عليه أبي الذي لم يبخل عليّ بالمال والحب أبداً. وكيف لا، وكنت ابنه الوحيد بين ست بنات ومن عدة زيجات. لكن في الوقت ذاته، لم تكن تلك الأسفار تخلو من جروح أليمة ما برحت تشكّل محطات حزينة في رحلة العمر. جروح ومحطات قضت على إمكانية التمتع بسنّي الطفولة بشكل طبيعي، حتى أصبح التحول بعد سن العاشرة جارياً لاهثاً وسريعاً إلى درجة كنت أشعر معها أنني سبقت أقراني في بلوغ سن النضج.

بلغ مخزوني الدرامي من المشاهد المأساوية مبلغاً لا يتحمله طفل كان من العدل أن يمضي مرتاح البال في جولاته اليومية على دراجته الصغيرة. فبرغم أني لم أكن قد بلغت الثانية عشرة، إلا أنني كنت قد شاهدت فصولاً من مذبحة التركمان، ووقفت مصعوقاً تحت أقدام المشنوقين في صباح يوم قائظ. ثمانية وعشرون كردياً كانوا معلقين على المشانق في إحدى ساحات كركوك. كنت يومها ذاهباً إلى مركز المدينة لمشاهدة فيلم “سبارتاكوس” في سينما العلمين.

لا زلت أجد إلى يومنا هذا صعوبة بالغة في تصديق ذلك المشهد بتناقضاته الدرامية وأسلوبه الكرنفالي وطابعه الغروتيسكي، رغم بشاعته. فقد كانت الجموع المحتشدة تحت أقدام المشنوقين في أكفان بيضاء وهم يرقصون ويدبكون ويطلقون الأهازيج. وقفت وسط الجموع الغفيرة متفحصاً الجثث المعلقة التي بدت لي كدمى تزيّن هذا الاحتفال الشعبي. فجأة تعرفت على ملامح أحدهم، شاب اسمه رحيم، كان صديقاً لعائلتنا، وكانت أمه العجوز جاثمة تحت جثته المعلقة وكأنها في غيبوبة أبدية.

هرعت إلى المنزل والهلع يملؤني، وكنا نسكن بعيداً جداً عن مركز المدينة، لأجد الناس قد تركوا منازلهم، في حين كانت ثمة ثلاث بلدوزرات تواصل عملها في هدم الأحياء الكردية وتشريد سكانها بأمر من الدولة.

بهدم غرفتي الأولى تمت القطيعة مع الطفولة. كان ذلك اليوم أول عهدي بحياة التشرد والانتقال بين المنافي، في سن مبكرة جداً، وقبل الانتقال إلى المنافي الثلجية لاحقاً. في ذلك اليوم وجدت منبع الدراما وأصلها في نفسي التي كبرت في الزمن على حين غرّة. حسبت ذلك بداية جديدة وأدركت أن عليّ أن أبدأ العمل مع ذاتي، أن أطرقها بمطرقة قاسية لأشكّلها بما يتناسب مع التحول الجديد. مع الانتقال إلى المنافي الصغيرة داخل المدينة، حيث مراتع الطفولة وفضاؤها البريء أصبحت ممنوعة بسبب السياسة.

وفي خضم البحث عن الذات وتحقيقها تم اللقاء مع الفن. وفي البداية كانت الموسيقى، وليس المسرح. فلم أكن أعرف عن المسرح شيئاً. كان ولَعي بالموسيقى يتوقد يوماً بعد يوم، لا سيما بعد أن وفد إلى مدرستنا معلم موسيقى، هو الفنان “قادر مردان”، الذي كان بارعاً في العزف على آلتي العود والكمان. وكان ذلك أول عهدي بفنان يعزف عزفاً حياً أمامي. لكن ذلك لم يدم طويلاً، حيث توالت أحداث سياسية أخرى أجبرتنا على الانتقال إلى منفى آخر.

لا يتوفر وصف.

كنت مأخوذاً بالموسيقى بكل ألوانها: الكردية، والعربية، والتركية، والفارسية، والغربية التي كنت أستمع إليها بواسطة آلة غرامافون قديمة كان والدي قد حصل عليها من أحد المهندسين الإنجليز، مع عدد من الأسطوانات الموسيقية أدركت لاحقاً أنها أوبرات عالمية شهيرة. وقد بلغ بي الشغف حداً جعلني أقنع والدي بشراء آلة كمان بغية البدء بالتدريب عليها. ولكن إيجاد معلم موسيقى في كركوك في ظل تلك الظروف السياسية والقمع الجماعي كان ضرباً من المستحيل.

وإني على يقين بأنني ما كنت لأتوجه إلى المسرح لو تيسّر لي أن أتدرب على الموسيقى في طفولتي. ولكن، مع ذلك، فإن الفائدة الكبرى التي جنيتها من شغفي بالموسيقى لا يضاهيها شيء آخر. فهي تشكل العنصر الجوهري في عملي المسرحي. فلو سألتني: ما هو أهم شيء في عمل المخرج؟ لأجبتك بلا تردد: الموسيقى.

ذلك لأن دور الموسيقى في المسرح لا يقتصر على استخدامها في العرض المسرحي كمؤثرات صوتية أو للتعبير عن حالة عاطفية أو لتجسيد جو ومزاج معين. صحيح أن بوسع الموسيقى أداء كل هذه الوظائف، لكن الأهم من ذلك كله أن يُقيم المخرج عرضه المسرحي على بناء موسيقي دقيق ومتين، حينذاك فقط يكون العرض ذا بناء متماسك حتى من دون استخدام موسيقى مسموعة. ويساعد إدراك المخرج للموسيقى على فهم الزمن المسرحي فهماً إيقاعياً دقيقاً، ويتعذّر من دون الإحساس الموسيقي السليم إدراك الزمن المسرحي.

إن عنصري العرض المسرحي الأساسيين يتجليان في الزمان والمكان. الزمان هو الإيقاع (الموسيقى)، والمكان هو التشكيل/التركيب، أو ما يُسمى بالميزانسين، وهو الآخر يدخل في بنائه عنصر الموسيقى بشكل أساسي.

كان في المدرسة المتوسطة التي كنت أدرس فيها مسرح صغير. ذات يوم، تطلّعت إليه من النافذة لأرى شخصين يتدربان عليه، كانا يتحركان ويتكلمان بانفعال، وفي وضعيات فنية لم أكن أفهم سرّها آنذاك، لكنها سلبت لُبي. بقيت أتابع الشخصين في صراعهما المتصاعد، كانت تلك دراما حقيقية لم أكن أفهم سرّها، لكني أدركت فيما بعد أن ذلك لم يكن إلا مشهداً مسرحياً، وأن أحد الشخصين كان المخرج تحسين شعبان، وأن ذلك المنظر كان تدريباً على مشهد مسرحي.

كان ذلك اليوم يوماً حاسماً حدّد مجرى حياتي. فقد وجدت ضالتي وقلت لنفسي: هذا هو ما كنت أبحث عنه. حسمت أمري. كان علي أن أجد هذا المخرج وأتعلّم على يديه مهما كلّف الأمر. خلال فترة قصيرة شاركت في عدد لا بأس به من الأعمال المسرحية التي أخرجها تحسين شعبان، وانكببت على مكتبته المسرحية فقرأت عدداً لا يُستهان به من المسرحيات، مع دراسات في النقد والتأليف والإخراج. كان من بين هذه الكتب إعداد الممثل وحياتي في الفن لستانيسلافسكي، وأشهر المذاهب المسرحية لدريني خشبة.

في هذه المرحلة بالذات، اكتشفت كتاباً في المكتبة المركزية لمدينة كركوك، كان بمثابة مفتاح لفهمي المسرحي في كل السنوات اللاحقة، هو كتاب في الفن المسرحي لغوردون كريغ، بترجمة دريني خشبة. ما زلت أتعجب من تلك الصدفة التي قادتني إلى تصفح مثل هذا الكتاب الثمين، وفي مدينة مثل كركوك.

كنت حينها في السابعة عشرة، وكان هضم أفكار كريغ وآرائه الثورية التي شكّلت مفتاحاً لكل التحولات الجذرية في المسرح الحديث، أمراً ليس هيناً. كانت أفكاره حول غثاثة المنهج الواقعي وسلبية المذهب الطبيعي بداية جديدة. علّمتني أفكار كريغ المتمردة أن الواقعية هي سرطان المسرح، ثم قادتني لاحقاً إلى ولعي بمسرح بريخت، ومنه إلى منهج مييرهولد في الأداء الحركي.

لكن قراءة مسرحيات شكسبير استهوتني أكثر من أعمال أي مؤلف مسرحي آخر. فقد وجدت فيه ضالتي المنشودة. إن طفولتي ذات الألوان الثقافية المتعددة والمناخات المتضاربة والصور الدرامية الحادة بلورت في ذهني فهماً شعبياً للمسرح، أرسي شكسبير دعائمه أحسن من غيره. شكسبير الذي نطق بالصور أكثر من غيره. ففي ملاهيه أجد دائماً انعكاساً للصور الشعبية وواقعاً مشبعاً بثقافات متعددة وأنماط إنسانية مختلفة. وفي مآسيه من أمثال ريتشارد الثالث وتيتوس أندرونيكوس وجدت صدى لكل المآسي والأحداث الدامية التي تركت جروحها على طفولتي.

فتح الصورة

ما زلت أرى في شكسبير أقرب كاتب إلى روح الشرق. خذ على سبيل المثال مسرحية ماكبث وريتشارد الثالث، أي عمل درامي بوسعه أن يجسد واقع المؤامرات والانقلابات العسكرية في العالم العربي في الستينيات. إذن، كم كان المخرج الفنان إبراهيم جلال دقيقاً في اختياره لمسرحية ماكبث في بغداد أواخر الستينيات.

في الربيع المنصرم، تيسّر لي أن أُخرج حلم منتصف ليلة صيف على المسرح القومي (مسرح محمد الخامس) في الرباط، وكان أجمل تعليق سمعته من أحد المتفرجين القادمين من “السويقة” (السوق الشعبي في الرباط): “لو كنا نعلم أن شكسبير سهل وممتع وشعبي إلى هذا الحد، لعملنا على تقديمه في السويقة.” هذا كلام صحيح جداً، فشكسبير كاتب شعبي كان يقدم أعماله في مكان أكثر اكتظاظاً من السويقة، وكان غلوب ثياتر مسرحاً شعبياً ونموذجاً لـ”المسرح الخشن” على حد تعبير بيتر بروك.

وأنا لا ألوم مَن كان يعتقد أن شكسبير عربي وُلد في “الزبير!” بالتعبير المجازي، لكني أتساءل: لماذا لم يلتفت المخرجون العرب إلى مسرحياته الأخرى، وعلى وجه الخصوص ملاهيه؟ لماذا لم يفكر أحد في مسرحية حلم ليلة منتصف الصيف مثلاً في أجواء ألف ليلة وليلة؟ أو أن يُخرج مخرج عربي مسرحية دقّة بدقّة على هدى نهج البلاغة في الحكم والحكام؟

قبل عام ونصف، وبعد ما يقارب عشرين عاماً من حياة المنفى الأوروبي، عدت إلى وطني، وكانت الطريق إلى كركوك محظورة عليّ. وكانت المسافة بيني وبين مثوى أبي، الذي فارقته على أمل اللقاء، قصيرة جداً. كنت أنا أجول في المنافي، عندما “تجرّع حتى الثمالة نخب العالم المنهار، ثم امتطى جواده”، على حد قول شاعر كركوك قحطان الهرمزي.

مرة أخرى تذكرت مشهداً شكسبيرياً من إحدى مآسيه التاريخية، كان دائماً يهزّني من الأعماق، وفيه يطرد الملكُ الدوقَ من إنجلترا، ويحاول الملك أن يُبدي شيئاً من اللين والرحمة بأن يترك للدوق حرية اختيار منفاه، أما الدوق فيرد عليه: “ما دامت الطريق إلى إنجلترا محظورة عليّ، فكل الطرق سواسية.”

وبعد أيام معدودة، بدأت أحنّ إلى المنفى ثانية، بعد أن أدركت أن من أُجبر على حياة المنفى لا يعود إلى وطنه ثانية، فهو بالأحرى لا وطن له. الوطن للمنفي ليس إلا ذكرى وحنيناً، والإنسان يرحل ذات مرة عن وطنٍ لن يبقى له وجود إلا في الذاكرة.

في انتظار باقي الدروس….

Related Articles

Back to top button