“نخل” حين ينهار الإنسان من الداخل في احتفال العبث/ ياسر اسلم

ضمن فعاليات مهرجان الدوحة المسرحي، قُدّم عرض “نخل” كالعرض السابع في جدول المهرجان، وهو من إنتاج شركة فضائية للإنتاج الفني، تحت إشراف الفنان حمد عبدالرضا، ومن تأليف وإخراج فيصل رشيد، الذي اختار تقديم نصه برؤية إخراجية تطابق تقريبًا بنيته المكتوبة، محافظًا على فضائه الرمزي كما كُتب، دون أن يُدخل عليه تأويلات إخراجية قد تُبعد النص عن مقاصده الأصلية.
جاء عرض “نخل” ضمن مسرح العبث الرمزي، كصرخة ضد الأنظمة التي تُعيد تشكيل الإنسان وفق نماذجها، وتفرغه من جوهره لتعيد إنتاجه كنسخة مشوهة من الأصل. كان المسرح مظلمًا وثقيلاً، كالعالم الذي وجد فيه “الغريب” نفسه فجأة، محاطًا بمنظومة غامضة تتكوّن من القائد، القائدة، الشاب، والشابة، إضافة إلى جوقة تتحرك كظلٍّ لهذا النظام.
الغريب لا يعرف من أين أتى، ولا لماذا هو هنا، لكنه يجد نفسه فجأة محاطًا بكائنات تشبه البشر في أجسادها، لكنها ليست بشرًا تمامًا؛ تتحدث لغة مشوّهة، وتتحرك بحركات غريبة، وتمارس ضغطًا ناعمًا يتصاعد تدريجيًا حتى يصبح عنيفًا، في محاولة لدمجه داخل هذا النظام الغريب. ورغم مقاومته، تبدأ ملامحه الروحية بالتبدّل، خصوصًا بعد انجذابه للشابة، التي تستغل هشاشته العاطفية بذكاء، إلى أن ينهار في النهاية، ويتحوّل هو نفسه، روحًا وشكلًا إلى مسخٍ مثلهم.
المسرحية تنتهي كما بدأت، بذات الكلمات والطقوس، في بنية دائرية عبثية، توحي بأن الدور قادم على “الغريب” التالي، وكأن الجمهور نفسه هو المرشح القادم ليُعاد تشكيله.
سأبدأ عند عنوان المسرحية قبل كل شيء.
“نخل” عنوان ذو طابع رمزي واضح، وقد أشار المخرج في تفسيره.. سواء داخل النص أو في الجلسة التعقيبية.. إلى أن النخلة، حين تأكلها السوسة من الداخل، تنهار. وهي صورة تُستخدم هنا كاستعارة لحالة الإنسان حين يتآكله الشك أو الضعف أو الخوف أو الضغوط إلى أن يفقد تماسكه.
ورغم أن النخل -في الواقع البيولوجي- يموت واقفًا ولا يسقط بسهولة، فإن هذا التعارض بين الرمز والحقيقة لا يضعف العنوان، بل يضفي عليه طبقة من التأويل: فهل المقصود هو النخلة كما هي؟ أم الإنسان الذي ظن نفسه نخلة، فإذا به يكتشف هشاشته؟
كما أشار المخرج أيضًا في الجلسة التعقيبية إلى تأويل آخر لكلمة “نخل”، بوصفها فعلًا يُقصد به “شخل” أو “غربلة”، أي تصفية الشيء مما علق به من شوائب. غير أن هذا المعنى يبدو أقل تماسًا مع الفكرة المركزية للمسرحية، لأن الغربلة تُحيل عادة إلى التمييز والتنقية، لا إلى إلغاء المبادئ أو تفريغ الذات.
وهكذا، يُشكّل العنوان مدخلًا تأويليًا، لكنه يبقى مفتوحًا على قراءات متباينة، ويمنح العرض عمقًا رمزيًا دون أن يُملي فهمًا وحيدًا.
ساعد الإخراج بوضوح في فك رموز النص، خاصة أن المخرج هو ذاته الكاتب، ما انعكس في تماسك الرؤية البصرية وفهمه العميق لبنية العمل وتفاصيله الرمزية. ومع ذلك، شابت بعض الجوانب التقنية تنفيذ العرض، لا سيما عنصر الإضاءة الذي بدا مرتبكًا في بعض اللحظات، ربما نتيجة خلل في نظام التحكم أو سوء في التوزيع. أما الموسيقى، خصوصًا في المشهد الاحتفالي، فبدت تقليدية إلى حدٍّ ما، وكان من الأجدر اختيار مقاطع أكثر غرابة، تتماهى مع طابع “الغريب” وتُعزّز البعد اللاواقعي للعرض، حتى لا تُفهم بعض اللحظات وكأنها تحيل إلى ثقافات محددة.
الديكور جاء ساكنًا ومحدود التفاعل، رغم رمزيته القوية؛ فقد اعتمد على عناصر صخرية قد تُؤوّل بصريًا على أنها جماجم أو بقايا كائنات، في محاولة لبناء فضاء جمالي يوحي بعالم سفلي أو ما يشبه “كهفًا مسكونًا بالمسوخ”، لكنّ هذا العالم لم يُستثمر بما يكفي بصريًا، وكان بالإمكان تعميقه عبر حركة أو تحوّل ضوئي أو حتى عبر التفاعل الجسدي مع العناصر.
أما من حيث البناء الدرامي، فقد جاءت لحظة تحوّل “الغريب” وانخراطه في منظومة “المسوخ” مفاجئة ومختزلة. بدا التحوّل من شخصية مترددة إلى فرد مطواع وكأنه قفزة درامية لم تُمنح ما يكفي من الوقت والمقاومة الداخلية لتُقنع المتفرج. ومع أن المشهد جاء قويًا في بنائه البصري، إلا أن تسارعه سحب منه كثيرًا من قوته العاطفية المحتملة.
ومع ذلك، يُحسب للمخرج استخدامه الذكي للجوقة كأداة ضغط جماعي، تجسد سلطة المنظومة في تطويع الفرد، حيث شكّلت الجوقة في تلك اللحظة قوة مسرحية جماعية تمارس نفوذها الرمزي والنفسي على “الغريب”، مما قدّم مبررًا مقبولًا جزئيًا للانهيار السريع الذي حدث، وإن ظل بحاجة إلى تصعيد أطول كي يُصبح أكثر إقناعًا.
استند الأداء التمثيلي في عرض “نخل” إلى طاقة جماية محكمة، كان للجوقة فيها الدور الأبرز، حيث شكّلت العمود الفقري للعرض بصريًا ودراميًا. فوجودهم لم يكن هامشيًا أو زخرفيًا، بل فاعلًا ومؤثرًا، خاصة في لحظات التحول، حين مارست الجوقة سلطة نفسية ضاغطة على “الغريب”، وعبّرت بجسدها وصمتها عن فكرة المنظومة التي تطوّق الفرد وتسلبه ذاته. في لحظات الجمود كما في لحظات الانفجار الحركي، قدّمت الجوقة لوحة متجانسة، تعكس انضباطًا تمثيليًا لافتًا.
وبرز أحمد العقلان في دور القائد بأداء مكثف، متحكمًا بأدواته التعبيرية من صوت ونظرة وحضور جسدي. كما شاركه في الأداء كلّ من روان حلاوي، وناصر حبيب، وأسرار محمد، ومحمد عادل، وكانوا جميعًا على قدر كبير من الاتساق والوعي بأدوارهم، ما ساهم في رفع مستوى الانسجام العام ومنح العرض هوية جماعية قوية.
ساهمت الأزياء والمكياج في ترسيخ فكرة “المسخ” بصريًا على خشبة المسرح. ارتدت الجوقة ملابس موحدة باهتة وملطخة، تعكس انمحاء هوياتهم الفردية وانصهارهم في كيان جماعي بلا ملامح. أما الشخصيات الرئيسة: “الغريب، القائد، القائدة، الشاب، والشابة” فقد ظهرت بأزياء أكثر تميزًا وتفصيلًا، لتبرز الفروق بينهم وبين بقية الكائنات. هذا التمايز البصري شكّل أداة فعالة في إبراز الصراع الرمزي بين الهوية واللاهوية.
عرض “نخل” الذي جاء ضمن مهرجان الدوحة المسرحي، قدّم تجربة مسرحية تحمل طابعًا رمزيًا وكابوسيًا، تسائل طبيعة “المسخ” الذي يهدد هوية الإنسان حين يفقد صوته ووعيه ويذوب في الجماعة. ومع أن بعض العناصر كان يمكن تعميقها كتصعيد التحول الدرامي للغريب أو توظيف الفضاء المسرحي بشكل أكثر ديناميكية، فإن العرض نجح في إثارة تساؤلات وجودية وأخلاقية عميقة حول الفردانية، السلطة، والانسلاخ من الذات.
في النهاية، لا يترك “نخل” إجابات بقدر ما يضع المتفرج أمام مرآة: هل نحن حقًا بمنأى عن هذا التحول؟ وهل المسخ دائمًا خيارنا أم أنه قدَرٌ نتواطأ معه؟