مقالات

الانسلاخ كفعل وجودي بين الجسد والمجتمع في مسرحية أحمد زيكو / هناء داخل عطية

في عالم يُقوم فيه الإنسان بقدر ما يتخلى عن كرامته يصبح المسرح خشبة نجاة لا للعرض بل للاعتراف، لذا فمسرحية “انسلاخ” لا تُقدم لتُشاهَد بل لتُشهَد كجسد يُعرى ليكشف لنا كيف يُسلخ الداخل ببطء لا بفعل الموت بل بفعل الحياة… في مسرحية” انسلاخ” التي أخرجها أحمد زيكو لا يُعاد إنتاج النص بل يُعاد تأويله ليُقدم لنا رؤية حادة للمجتمع الذي يتحول فيه الإنسان إلى مجرد تابع، مستلباً لوجوده وكرامته في مسعى محموم لنيل الاعتراف الاجتماعي، فمن خلال هذا التحويل الجذري تتجاوز المسرحية حدود العرض التقليدي وتصبح رحلة استكشاف للإنسان في أعمق جوانب وجوده حيث يجبر المجتمع الفرد على التنازل عن إنسانيته من أجل البقاء وهو ما يعكسه أداء الممثلين بكل مرونة مع جسدهم وكلماتهم.

من اللحظة الاولى في المسرحية يُواجه المشاهد معضلة الجسد الذي لا يتقمص دورا بل يتحول إلى سؤال مفتوح، سؤال عن الحدود التي يمكن أن يتنازل عنها الكائن البشري لكي يُسمح له بالوجود؟ هذا الجسد الذي يشهد لا يُعبر عن شخصية في سياق درامي محدد بل يتحول إلى رمزية قائمة بذاتها تحمل في طياتها معان عميقة عن الاغتراب والانسلاخ من الهوية الإنسانية. في هذا الاطار يصبح الجوع في المسرحية أكثر من مجرد حاجة مادية للطعام إنه جوع معنوي يطاول الوعي إذ يتحول إلى جوع للكرامة، للاعتراف، ولمعنى وجودي يتجاوز الجسد ليغزو الروح ليبرز لنا لاحقا بان هذا الجوع هو نتاج الحياة نفسها وهو ما يدفع الكائن البشري للتخلي عن إنسانيته من أجل البقاء في عالم تُمتحن فيه قيمته فقط من خلال ما يقدمه للمجتمع من تضحيات وهويات مزيفة.

لا يتوفر وصف.

يعتمد عرض مسرحية انسلاخ على اشتغال عميق على الجسد والمكان حيث لا يُعرض الموضوع بل يُستحضر من خلال تفاعل الجسد مع الفضاء المحيط ولا تقتصر الرؤية على تقديم رؤية درامية تقليدية بل على تفكيك المعايير الجمالية والدرامية لتصبح كل حركة جسدية وكل مفردة تُقال جزءا من شبكة من الرموز التي يتعين على المتفرج فك طلاسمها، فالإضاءة التي تحاصر الشخصيات والصندوق الخشبي الذي يشكل نقطة تمركز الحدث والموسيقى التي تُقطع وتُغير الإيقاع كلها عناصر تُسهم في تمثيل المسار الوجودي للشخصيات وتُسهم في تفكيك الواقع الذي تخلقه.

وعليه يظهر الجسد في المسرحية كأداة تمثيل تتجاوز وظيفتها التقليدية إذ يتحول إلى كائن متشظٍ لا يعرف موقعه في العالم والشخصية التي كان يمكن أن تكون مجرد رجل عادي تتحول إلى مسألة فلسفية تتجاوز حدود الحكاية الشخصية إلى تحليل اجتماعي ونقدي للمجتمع الذي يفرض على الفرد أن يتنازل عن إنسانيته ليبقى حيا وهو تحول لا يحدث في لحظة بل هو عملية متواصلة مرهقة تصبح فيها الشخصية جزءا من لعبة اجتماعية أكثر اتساعا يفرض فيها المجتمع على الأفراد خضوعهم المستمر للواقع المحيط بهم.

أحمد زيكو من خلال إخراجه يضعنا أمام حالة وجودية لا نرى فيها الإنسان في أبعاده التقليدية بل في تشظيه، فعندما يتحول الإنسان إلى كائن مسلوب كلبا بقدر ما هو إنسان فإننا نواجه الحقيقة المرة التي تنكشف تدريجيا خلال العرض ليجبرنا بطرح سؤال إلى أي مدى يمكن للإنسان أن يظل إنسانا في ظل مجتمع لا يعترف إلا بما يتخلى عنه من إنسانيته؟ وعندما يتحول الجوع الذي يبدأ من حاجة مادية إلى فلسفة وجودية يصبح السؤال أكثر عمقا هل نعيش من أجل الحياة أم من أجل ما أُجبرنا أن نكونه؟

لا يتوفر وصف.

وعوداً على بدء يمكننا القول بأن عرض مسرحية انسلاخ للمخرج أحمد زيكو هي تجربة وجودية محورية تحث المتفرج على إعادة النظر في معاني الحياة والإنسانية في زمننا المعاصر لان العرض المسرحي هنا تحول إلى مساحة يتقاطع فيها الجسد مع الروح ليصبح الجوع ليس فقط حاجة مادية للطعام بل حاجة معنوية للكرامة، للاعتراف، ولمعنى وجودي يفرض نفسه على الكائن في زمن متسارع يسلبه هويته ووجوده فضلا على ان الجسد ايضا في هذه المسرحية لم يتقمص دورا تقليديا بل تحول إلى سؤال مفتوح لكم من التنازلات يجب على الكائن البشري أن يقدمها لكي يُسمح له بالوجود؟ لذا فالجسد هنا أصبح في حد ذاته رمزية عن الانسلاخ والاغتراب حيث شهد عملية تآكل للهوية والكرامة ليس بفعل الموت بل بفعل الحياة نفسها وبالتالي وضع المخرج المتفرج أمام مرآة وجودية ليغرقه في بحر من الأسئلة التي تتجاوز العرض المسرحي نفسه بل تدعوه للتأمل في واقعه الشخصي والاجتماعي.

 

 

Related Articles

Back to top button