قراءة تحليلية لمسرحية “فوبيا”/ أحمد السالم

اعداد وإخراج: حسين الذهبي
تمثيل: كرار دشر / زين الكريدي
تقنيات موسيقية: د.قيس عودة
فضاء العرض وتحولاته الرمزية :
استثمر المخرج (حسين الذهبي) فضاءً دائرياً يحيط به الجمهور من جميع الجهات، مما خلق علاقة مباشرة وغير تقليدية بين الممثل والمتلقي، وألغى الحاجز التقليدي بين الخشبة والصالة، ليحوّل التلقي من عملية سلبية إلى تجربة إدراكية تفاعلية. هذا الفضاء المفتوح أتاح إمكانات متعددة للحركة العمودية والأفقية، وللتوازي والتقاطع بين الجسد والصوت، وبين المركز والهامش.
في مركز هذا الفضاء، وُضعت قطعة ديكور مركزية: صندوق خشبي يحمل رسماً لابتسامة تقطر منها الدماء وعيون تنظر بخبث، كدلالة بصرية تأسيسية لثيمة العرض المتمثلة في “الخوف المركّب”، الذي يتقاطع فيه الرعب من السلطة مع الخوف من الجماعة والذاكرة والذات.
تحوّلت هذه القطعة الواحدة – عبر الأداء – من منصة، إلى بسطية، إلى عرش، ثم إلى كفن، في تدرّج دلالي يواكب تحولات الشخصيات والمواقف. فهي لا تمثل مجرد ديكور، بل كياناً حياً. يعبّر عن صراع القيم، والانكسار الإنساني، وتعدد مستويات المعنى.
التقاليد الشعبية والهُوية الثقافية :
منذ اللحظة الأولى، لجأ العرض إلى توظيف أغنية “أوه يا مان” – وهي من أناشيد البحارة العراقيين – بصيغة موسيقية معاصرة، بما منح العرض بُعداً هوياتياً وثقافياً يتداخل فيه التراث العراقي مع فضاء العرض في جنوب مصر، فصار العرض ملتقى لثقافتين، وتجسيداً لمفهوم التبادل الحضاري في مسرح ما بعد الحداثة.
هذا التوظيف لم يكن مجرد إحالة فلكلورية، بل جاء ليعزز البُعد العاطفي والانفعالي للمشهد الافتتاحي، حيث الممثلون يتحسسون أجسادهم وملابسهم، ويشم أحدهم “ردنه” في استبطان غرائزي يدل على خروجهم من حالة فوضى غير مرئية.
تقنيات الأداء وبنية الحوار :
تميّز العرض بتكثيف تقنيات الأداء الحي والتمثيل النفسي، مع التزام صارم بمبدأ “الإصغاء الفعّال”، كما يظهر في لحظة تفاعل الممثلين مع الصوت الخارجي (تعليق خبري مسجل)، بما يعكس وعيًا بأحد أهم مرتكزات منهج ستانسلافسكي في التمثيل المرتكز على الاستجابة.
عندما يستند أحد الممثلين إلى قطعة الديكور ويقول: “مررت بكل العواصف المميتة ولم أمت”, بينما يرد عليه الآخر: “أنا… أنا خايف”, تُفتح ثنائية البقاء والخوف. هذه اللحظة تشكّل منعرجًا دلاليًا، حيث يُفكك العرض فكرة الشجاعة من بعدها البطولي إلى بعدها الوهمي، ويعيد تركيب الخوف كمحرك وجودي، لا كضعف. تركيب العصيّ وتحولها إلى حرف “H” يرمز إلى الإنسان المجزّأ، أو ربما إلى بوابة خفية (H بوصفها “مدخلًا”) نحو المجهول.
هذا الحوار لا يعكس فقط توتراً نفسياً، بل يُظهر تداخل الذنب والإنكار والخوف، في دينامية تتطوّر حتى يصل العرض إلى الذروة، حيث يُضرب الصندوق الخشبي، وتتشظى الجمل، وتتحوّل الملابس ذات الألوان الصارخة إلى رماد بصري يُسدل على الذاكرة الاجتماعية والأيديولوجية.
فتح الصندوق ليظهر وجه دومينو بست نقاط يُعيدنا إلى لعبة الحظ، حيث الحركة الأولى تعني كل شيء. إنه تشييء للحياة باعتبارها لعبة حظ باردة، تحكمها قوى غير مرئية، والدموع المرسومة كابتسامة تذرف دمًا تُمثّل انفصام الوعي الجمعي، ما بين الادّعاء بالثبات والتمزق الداخلي.
التشاركية والتفاعل الجماهيري:
ابتكر العرض آلية تفاعلية بارعة من خلال توزيع بطاقات حمراء وصفراء على الجمهور، وهو إجراء لا يستهدف الزينة أو التفاعل الشكلي، بل يضع المتلقي ضمن دائرة الفعل الدرامي، ويستدعي فلسفة “المسرح التشاركي” كما نظّر لها أوغيستو بوال في “مسرح المضطهدين”، حيث لا يبقى الجمهور متفرجًا، بل يتحوّل إلى “متفرج-فاعل”.
تتكرّر نداءات: “أحمر… أصفر…”، ويُقسّم الجمهور إلى فريقين، يدخلان في لعبة تنافسية مصطنعة تتصاعد حتى إعلان كل فريق فوزه، مما يفضح عبثية مفاهيم الانتصار والهزيمة في الوعي الجمعي، ويكشف هشاشة الشعارات التي تُرفع باسم الجماعة أو الوطن أو العقيدة.
بعد أن يعلن كل فريق انتصاره، ويتداخل الفرح بالصراخ، يتوقف الزمن الدرامي بلحظة حاسمة حين يقول أحدهم:
“تمخّضت الدهور وما أنجبت إلا نحن، هم ليسوا منا، دماؤنا تختلف…”
يجيبه الآخر: “أنا من أنجبت ثلاثين رجلاً ولم أنجب بنتاً قط، نحن أمة ذكورية بامتياز.”
هنا تتحول الرؤية المسرحية من فعل اللعب إلى الوعي بالفقد. اختفاء الألوان وبقاء الأسود، توظيف الناي، وتحول الحوارات نحو المأساة، يعكس انسحاق الروح العراقية تحت وطأة التاريخ الذكوري والمآسي الجمعية.
السوق كرمز اجتماعي مركّب:
ينتقل العرض لاحقاً إلى مشهد السوق، حيث يعرض أحد الممثلين “بسطية” تحوي ملابس صفراء وحمراء، في استمرار للعبة الرموز. تتبدل الأدوار داخله من محتال إلى ناصح إلى بريء، مما يعكس تداخل الأقنعة الاجتماعية وتعدد الشخصيات داخل الذات الواحدة.
الجملة التكرارية: “لا تجالسوهم… لا تبايعوهم”، تقابلها عبارة ساخرة: “مسموح مجالستهم في الحوانيت!”، في تعرية مباشرة للقيم الاستهلاكية التي أطاحت بمعايير الأخلاق والهوية، وحوّلت الإنسان إلى كائن خاضع لإرادة السوق، لا الوعي.
مشهد اختيار الفتاة: التحوّل من السلطة إلى الطقس
وهنا ندخل إلى لحظة محورية: يقوم أحد الممثلين باختيار فتاة من الجمهور، وعند إيصالها إلى مركز الفضاء يسأل الآخر: “هي سيدي؟” فيجيبه: “نعم، هي.”
هذه اللحظة تقلب وظيفة التلقي من كونها مشاركة فكرية إلى طقس مسرحي حي. تأكيد هوية الفتاة بوصفها “هي” يعكس ولادة جديدة لرمز، أيقونة، أو “كائن الطقس” الذي سيُمارَس عليه الطقس الجماعي. هذا الفعل يُؤسس لتحوّل الفضاء إلى مملكة رمزية تُنصب فيها الأنثى ملكة، ولكنها في لحظة لاحقة تُكفَّن دون أن تدري، عبر جناحين كانا يرفرفان حولها وتحولا إلى كفن.
النهاية والبوابة الجديدة :
في النهاية، تُفتح بوابة قماشية ويدعو أحد الممثلين الجمهور:
“أيها الناس من يدخل بيتنا فيتوضأ بإرادته… من يدخل بيتنا يجيد القراءة والكتابة بضمير حي…”
هنا يُعلَن عن ولادة الوعي. البوابة ليست للفرجة بل للمساءلة، حيث المسرح لا ينتهي، بل يمتد في داخل كل متلقٍ، ليصبح هو نفسه ساحة التجربة القادمة.
عرض فوبيا هو تجربة مسرحية مركبة، تدمج بين تقنيات الأداء الحي، والفضاء التفاعلي، والرموز البصرية، والخطاب السياسي غير المباشر. لا يقدّم إجابات، بل يفتح جراح الذاكرة والخوف والهوية، ويجعل من الممثل والمتلقي كائنين فاعلين في مسرح مشترك يسائل الوجود والحقيقة والضمير الجمعي.
هنا يُعلَن عن ولادة الوعي. البوابة ليست للفرجة بل للمساءلة، حيث المسرح لا ينتهي، بل يمتد في داخل كل متلقٍ، ليصبح هو نفسه ساحة التجربة القادمة.
عرض فوبيا هو تجربة مسرحية مركبة، تدمج بين تقنيات الأداء الحي، والفضاء التفاعلي، والرموز البصرية، والخطاب السياسي غير المباشر. لا يقدّم إجابات، بل يفتح جراح الذاكرة والخوف والهوية، ويجعل من الممثل والمتلقي كائنين فاعلين في مسرح مشترك يسائل الوجود والحقيقة والضمير الجمعي.
** أحمد السالم/ الباحث (العراق – بصرة)