مقالات

التصفيق القاتل…..عندما يصبح الاحتفاء جريمة بحق المسرح / د.عماد هادي الخفاجي

في ليالي المسرح، حيث يتحول الخيال إلى واقع، وتمتزج الأرواح بشغف الأداء، هناك لحظات تفرض على الجميع الصمت والانصهار في تفاصيل المشهد. ولكن فجأة وسط هذا الانسجام الدقيق يخترق التصفيق العشوائي جدار التركيز، ليعلن عن إعجاب قد يكون في غير محله فيقطع أوصال المشهد ويعيد ترتيب المشاعر بطريقة لا تخدم العرض ولا الجمهور، فليس كل تصفيق مرحبا به، فهناك مشاهد تم بناؤها على إيقاع دقيق وحوار تتشابك كلماته لتشكل نسيجا دراميا متماسكا وممثلون ينسجون مشاعرهم بروية ثم تأتي موجة تصفيق غير مدروسة، تجبرهم على التوقف وربما إعادة جملة انتهوا منها، بينما يقف زملاؤهم في انتظار انتهاء الضجيج العفوي وهنا نقول (العفوي) ليستعيدوا توازنهم مجددا، وان تكرار هذا المشهد مرة تلو الأخرى لا يترك العرض كما كان، بل يمزق نسيجه، ويهدم التوتر الدرامي الذي بني بعناية، ليتحول الإعجاب العفوي إلى عائق حقيقي أمام اكتمال التجربة المسرحية.

التصفيق شأنه شأن الضحك أو البكاء يمتلك قدرة غريبة على الانتشار السريع بين الجمهور، وكأنه عدوى لا يمكن مقاومتها. فما إن يبدأ شخص واحد بالتصفيق حتى يتبعه آخر ثم ثالث حتى يجد الجمهور نفسه داخل دائرة من التصفيق المتواصل، أحيانا دون وعي حقيقي بسبب أو بدون سبب، لكن في المسرح حيث الإيقاع وهو روح العرض يصبح هذا الفعل التلقائي أحيانا عاملا مهددا للحالة الدرامية وقد يسهم دون قصد في تفكيك التجربة المسرحية وإضعاف تأثير اللحظة الإبداعية التي يسعى العرض إلى خلقها، والأمر لا يتوقف عند الجمهور وحده، بل إن بعض صناع العروض المسرحية أنفسهم يتعمدون افتعال التصفيقة الأولى إما عبر توجيه بعض الممثلين أو الحضور المقربين للبدء بها أو من خلال كسر الإيقاع عمدا في مشاهد معينة لإثارة التصفيق، ويحدث هذا بدافع الظن بأن كثافة التصفيق دليل فوري على النجاح والتفاعل الإيجابي. لكن في الحقيقة هذا السلوك يقتل إيقاع العرض ويفقده هيبته وتأثيره لأن المسرح لا يحتاج فقط إلى جمهور متحمس بل إلى جمهور واع، يدرك أن التصفيق ليس مجرد استجابة عاطفية بل فعل يجب أن يُمارس بذكاء وتقدير للحظة الفنية.

في المهرجانات بشكل عام وفي اغلب العروض المسرحية بشكل خاص، عادة ما تتضمن التعليمات المسبقة تنبيهات واضحة بضرورة إغلاق الهواتف المحمولة ومنع التصوير حفاظا على تركيز العرض، لكن ربما حان الوقت لإضافة قاعدة جديدة هي (يرجى الامتناع عن التصفيق أثناء العرض، احتراما لإيقاع المسرح) هذه القاعدة ليست مجرد تعقيد إضافي أو محاولة لفرض قيود على التفاعل، بل هي دعوة للحفاظ على الانسيابية الفنية لأن المسرح الجاد يعتمد على إيقاع دقيق، وأي اضطراب فيه يمكن أن يبدد أثر المشهد ويُفقد الجمهور ذاته إحساسه العميق بالتجربة، تماما كما يتدرب الممثلون على ضبط أدائهم بدقة ليحققوا التأثير المطلوب، يجب أن يتعلم الجمهور متى يكون التصفيق تعبيرا مناسبا عن الإعجاب، ومتى يكون الصمت أبلغ تحية يمكن تقديمها للعمل المسرحي،  ففي لحظات التوتر الدرامي أو المشاهد ذات الطابع التأملي العميق غالبا ما يكون الصمت نوعا من التقدير ومساحة للسماح للمشهد بأن يترك أثره بالكامل قبل أن يُكسر الإيقاع بصفقة عابرة.

إذن المسرح ليس مجرد مساحة للتلقي العفوي بل هو تجربة تحتاج إلى حساسية عالية من جميع عناصرها، بما في ذلك الجمهور نفسه، وليكن التصفيق في مكانه الصحيح، وليُترك المجال للمسرح ليأخذنا إلى عوالمه دون انقطاع لأن أعظم لحظات التقدير قد لا تكون بالضرورة تلك التي يُسمع فيها التصفيق بل تلك التي يُحترم فيها الصمت…

Related Articles

Back to top button