في عصرٍ باتت فيه التكنولوجيا تُشكل أفق الأطفال وتحدد هويتهم، جاء العرض المسرحي (أنا والمهرج) للمخرجة زينب عبد الأمير ليطرح قضايا معاصرة تتعلق بإدمان الألعاب الإلكترونية، وما يترتب عليها من انعكاسات نفسية واجتماعية في رحلة فلسفية عميقة تجمع بين الفنون المسرحية والتربية الإنسانية، حيث يتجلى فيه التفاعل بين الواقع والخيال، وبين الحرية والانضباط، وبين التطور التكنولوجي والحفاظ على الجوانب الإنسانية للحياة.
في قلب مسرحية (أنا والمهرج) تنبض قصة طفل يغرق في عالم الألعاب الإلكترونية، مُهملاً نصائح والدته التي تحاول جاهدة إعادته إلى الحياة الحقيقية، فكان هذا الارتباط التكنولوجي المتزايد يشكل صراعا داخليا في نفس الطفل، ليضعه في النهاية وفي تحول درامي ملحوظ أمام معركة غير مرئية بين شخصيته الحقيقية وعالمه الافتراضي، بحيث يظهر في هذا السياق الكائن السحري الذي يأخذ الطفل إلى صندوق زمني، ليواجه مهرجين يمثل كل منهما وجهة نظر متناقضة، أحدهما يدافع عن حرية الإدمان على الألعاب الإلكترونية باعتبارها منفذًا للهروب، والآخر يشجع على العودة إلى الرياضة، النشاط البدني، والحياة المتوازنة، وان هذا الصراع بين المهرجين لا يمثل مجرد مواجهة سطحية بين وجهتي نظر، بل هو تجسيد فلسفي للصراع الأزلي بين الحرية المدفوعة بالمغريات اللحظية والانضباط العقلي الذي يقود إلى حياة مليئة بالقيم الصحية والإيجابية، بحيث يمكن القول في هذا السياق، بان هذه المواجهة لا تقتصر على الجوانب المادية فقط، بل تتجاوزها إلى مستويات أعمق من الفكر الذي يحكم اختيارات الطفل ويحدد مصيره لتنتهي المسرحية بانتصار المبدأ الذي يدعو إلى توازن الحياة، مع قرار الطفل الابتعاد عن إدمانه ليعود إلى الواقع بعين جديدة، مُدركا أهمية الموازنة بين استخدام التكنولوجيا وبين العيش بشكل طبيعي.
الاخراج:
تميزت المخرجة زينب عبد الامير في عرض(أنا والمهرج)، بإبداعها في توظيف التقنيات الحديثة بشكل مبتكر، مما عكس قدرتها الفائقة على فهم سيكولوجية الطفل الحديثة واحتياجاته الجمالية والفكرية، فقد استطاعت أن تدمج بين الحركة، والموسيقى، والغناء، والسينوغرافيا لخلق تجربة مسرحية شاملة تجذب انتباه الأطفال وتحفزهم على التفكير النقدي، فضلا على ان عرضها لم يقتصر على تقديم العرض المسرحي التقليدي، بل اندمجت مع الجمهور بشكل حي ومباشر، لتصبح جزءا من تطور الأحداث، حيث وجهت للأطفال أسئلة عبر أبطال العرض وان هذه الاسئلة لم تكن مجرد استفسارات سطحية، بل كانت دعوة فلسفية لهم للمشاركة في بناء القصة، بحيث شجعتهم على اتخاذ مواقفهم الخاصة إزاء ما يعايشونه، مما عزز من مفهوم التفاعل والتشاركية في بناء المعنى، ومن خلال هذا الأسلوب، لم تكتفِ المخرجة بإشراك الأطفال في العرض فحسب، بل جعلتهم جزءا أساسيا في عملية اتخاذ القرارات التي تحدد مسار الشخصيات. وهذا التفاعل الحيوي بين العرض والجمهور منح الأطفال إحساسا بالمسؤولية تجاه السرد المسرحي، وساعد في تعميق فهمهم للرسائل التربوية التي يطرحها العرض بحيث شكلت هذه الديناميكية بين المخرج والجمهور حجر الزاوية في إضفاء طابع فلسفي على العرض، حيث ساعدت في ترسيخ القيم التربوية بشكل مبدع وملهم، اما السينوغرافيا في مسرحية (أنا والمهرج) كانت عنصرا أساسيا في التعبير عن التوتر بين العوالم المتباينة في العرض، فقد اعتمدت المخرجة على المسرح الأسود بشكل مبتكر ليشكل نقطة الانتقال بين العالم الافتراضي المضيء المليء بالزخارف المتلألئة، والعالم الواقعي الداكن الذي يُرسي أسس الحياة الطبيعية، بحيث أصبح المسرح الأسود بمثابة بوابة ديناميكية بين هذه العوالم، حيث تمازجت الظلال مع الأضواء لخلق فواصل زمنية ومكانية مرنة وسلسة، فضلا على ان الإضاءة في العرض لم تكن مجرد أداة فنية بل كانت شخصية مؤثرة في السرد، إذ قامت بنقل التغيرات النفسية التي تمر بها الشخصيات التي سادت في المشاهد المتعلقة بالعالم الافتراضي، بحيث شكلت ترميزا للمساحة السائلة وغير المتجذرة في الواقع، بينما أضاءت الألوان الدافئة المساحات التي تمثل الحياة الطبيعية، مما جعل الانتقال بين العوالم أكثر تعبيرا عن التحولات النفسية العميقة التي يمر بها الطفل.
أما الموسيقى التصويرية، فقد لعبت دورا حيويا في التعبير عن التحولات الدرامية والعاطفية في العرض. فقد تم تنسيق الموسيقى مع كل مرحلة من مراحل القصة، لتفتح أمام الأطفال أبوابا إضافية من التأمل العاطفي، ففي لحظات الصراع، كانت الموسيقى تتسارع حاملة معها توترا وإثارة، مما زاد من عمق وقع القرارات التي يتخذها الطفل في تلك اللحظات، أما في اللحظات الهادئة، فقد جاءت الألحان لتعكس العودة إلى الذات الحقيقية للطفل، ولتخلق أجواء من التأمل العميق والهدوء النفسي، وبذلك يمكن القول بان الموسيقى لعبت دور الجسر العاطفي الذي يربط الجمهور بمواقف الشخصيات، ويسهم في إيصال الرسائل التربوية العميقة بطريقة غير مرئية.
في المجمل، شكلت هذه العناصر الفنية المتكاملة: الإخراج المبتكر، السينوغرافيا المتقنة، والموسيقى التصويرية المؤثرة، تجربة مسرحية غنية بالأبعاد الفلسفية والعاطفية، ما جعل من (أنا والمهرج) عرضا ليس فقط ترفيهيا، بل تربويا في جوهره، قادرا على تحفيز الأطفال على التفكير النقدي والمشاركة الفاعلة في بناء المعنى
الرسائل والقيم التربوية:
العرض المسرحي في جوهره يحمل رسالة فلسفية تتمحور حول مفهوم التوازن، في عالمٍ يزداد فيه الاعتماد على التكنولوجيا، فجاء عرض(أنا والمهرج) ليطرح تساؤلات عميقة حول كيفية التفاعل مع هذا الواقع بشكل نقدي وعقلاني، لذا فالمسرحية لا تدعو الأطفال إلى رفض التكنولوجيا بالكامل، ولكنها تشدد على ضرورة التحكم بها، كما تدعو إلى العيش بحياة متوازنة لا تقتصر على الهروب إلى الفضاء الرقمي، فجاءت الرسائل التربوية التي تناولها العرض بأسلوب بسيط وواضح، لكنها حملت في طياتها عمقًا فكريا اتاح للأطفال فهم المعاني الكامنة وراء اختياراتهم، فمن خلال مزج المتعة بالتعليم، تمكّنت المسرحية من تقديم قيمة النشاط البدني، التفاعل الاجتماعي، واستخدام الوقت بشكل بناء، مما يمنح الأطفال أدوات عملية لتحقيق التوازن بين جوانب حياتهم المختلفة، لذلك يمكن القول بالنهاية بان عرض مسرحية انا والمهرج للمخرجة زينب عبد الامير سعى إلى تشكيل وعي الجيل القادم عبر تقديم قضايا تربوية معاصرة في قالب فني ممتع، استطاعت فيه المخرجة أن تُحاكي العقل والقلب، لتقدم عرضا يرتقي بمستوى التفكير النقدي لدى الأطفال، موفرة لهم أدوات لتقييم تفاعلاتهم مع التكنولوجيا في حياتهم، وان هذا العمل يُعد نموذجاً يُحتذى به في كيفية دمج الفن مع التربية، ليُظهر لنا اخيرا كيف يمكن للمسرح أن يكون أداة قوية لتشكيل وعي الأجيال القادمة، بعيدا عن السطحية، والدخول إلى عمق المعاني التي تلامس قلوبهم وعقولهم في آن واحد.