على الرغم من الفوائد العديدة التي يجلبها الذكاء الاصطناعي لمختلف المجالات الحيوية، يبرز تساؤل جاد: هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحل محل الإبداع البشري، خصوصاً في فن المسرح، وبالتحديد في أداء الممثل؟ فالمسرح يعتمد بشكل أساسي على التفاعل الإنساني المباشر والتجارب العاطفية العميقة التي ينقلها الممثل للجمهور، وهي جوانب قد يصعب على الذكاء الاصطناعي تحقيقها بشكل كامل.
قبل أكثر من مائة عام، أكد المخرج المسرحي الروسي الطليعي فسيفولد مييرهولد في كتابه المرجعي “في المسرح” على الدور الجوهري الذي يلعبه الممثل في فن المسرح. فقد ذهب إلى القول بأن المسرح سيظل يحتفظ بجوهره الفني، حتى لو تم تجريده من جميع العناصر الأخرى مثل الديكور والإضاءة والأزياء، طالما أن الممثل حاضر على خشبة المسرح. فالفعل الدرامي يتحقق من خلال وجود الممثل وتفاعله مع المتلقي. وترتبط هذه الفلسفة بشكل وثيق بمنهجية البيوميكانيك “الميكانيكا الحيوية” التي طورها مييرهولد، والتي تركز بشكل كبير على جسدية الممثل وتعبيراته ( بلاستيكا الجسد وإيماءاته)، بالإضافة إلى أدائه الصوتي، مما يعزز من أهمية الأداء الحي في خلق تجربة مسرحية متكاملة.
وبمعنى آخر فإن فكرة مييرهولد وغيره من المخرجين، غروتوفسكي (المسرح الفقير) وبيتر بروك ( الفضاء الخالي) عن تقليل دور العناصر المسرحية الأخرى تركز على قدرة الممثل على حمل الأداء وحده من خلال الجسد والحركة، مما يعزز نقاء التعبير المسرحي وأهمية فن الممثل.
الذكاء الاصطناعي قد يكون قادرًا على تحليل أنماط الجمهور عبر البيانات والإحصائيات، ولكنه لا يستطيع أن يجسّي الطاقة في الفضاء المسرحي، أو يتفاعل مع الحالة العاطفية اللحظية للجمهور. فالتفاعل البشري العاطفي العميق هو ما يجعل المسرح فنًا حيًا ومتفردًا، ويفوق إمكانات الذكاء الاصطناعي الحالية في الإبداع والتواصل.
المسرح غالبًا ما يتطلب القدرة على الارتجال والتكيف مع المواقف غير المتوقعة، سواء كان ذلك نتيجة لأخطاء تقنية، أو تفاعل غير متوقع من الجمهور. هذه المرونة هي إحدى نقاط قوة الممثل البشري. بينما يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتبع تعليمات برمجية، فإن استجابته للمواقف غير المتوقعة قد تظل محدودة بالبيانات المدخلة والتوجيهات المسبقة.
تتطلب عملية التمثيل المسرحي فهمًا عميقًا للتجربة الإنسانية، بما في ذلك الألم، الفرح، الصراع الداخلي، والنمو الشخصي، وهو ما يُشير إليه ستانيسلافسكي بـ “الحياة الإنسانية للدور”. هذه الجوانب تتطلب ممثلين يمتلكون القدرة على استيعاب تجاربهم الشخصية (الذاكرة الانفعالية، كما وصفها ستانيسلافسكي) واستخدامها لتجسيد الشخصيات بشكل متقن.
على النقيض من ذلك، يفتقر الذكاء الاصطناعي إلى الخبرات الحياتية والوعي الذاتي، مما يجعله غير قادر على تقديم هذا النوع من الفهم العميق والمعقد للشخصيات. ورغم قدرته على محاكاة بعض الجوانب، تظل الفروق الدقيقة في الشخصيات الإنسانية بعيدة عن متناول إمكانياته.
ما يميز الفن المسرحي عن الفنون الأخرى انه يعتمد على الإبداع والحدس، على الإبتكار والإرتجال، وهي مهارات يصعب برمجتها في الذكاء الاصطناعي. الممثلون غالبًا ما يستلهمون الأفكار من تجاربهم الخاصة ويطورون أداءً فريدًا غير متوقع. هذه القدرة على الابتكار هي خاصية إنسانية أساسية يتمتع بها الممثلون المبدعون الذىن يجلبون أصالة وتفرّدًا في كل مرة يصعدون فيها إلى المسرح، وهذا التفرّد هو ما يجعل كل عرض مختلفًا، حتى لو كان النص واحدًا.
مع التقدم السريع في التكنولوجيا، يُعتبر الذكاء الاصطناعي أداة قوية تتيح إمكانيات كبيرة لتطوير المسرح من خلال تحسين جوانب متعددة من العرض، مثل الإضاءة، الديكور، الصوت، وحتى تحليل ردود فعل الجمهور. هذه التكنولوجيا الحديثة تفتح آفاقًا جديدة أمام الإبداع الفني، وتوفر للفنانين أدوات مبتكرة تسهم في تعزيز تجاربهم الإبداعية وإثراء العروض المسرحية.
ومع ذلك يبقى الذكاء الاصطناعي أداة قوية لتعزيز الإبداع البشري، لكنه لا يمكن أن يحل محل الممثل البشري في المسرح. فالمسرح، في جوهره، تجربة إنسانية تتطلب حضورًا عاطفيًا مباشرًا وعمقًا نفسيًا، مما يجعله فنًا خالدًا يتجاوز حدود التكنولوجيا.
عن: جريدة طريق الشعب/ ثقافية/ بتاريخ: الثلاثاء 17 أكتوبر 2024.