بِنْيَةُ الحذفِ والمبادلةِ والتوازي بالشكل داخل مسرحية(في إنتظار فلاديمير)/ جبّار ونّاس

لم يذهب المؤلفُ ( مثال غازي) كثيراً حتى وإنْ أراد أنْ يحاكمَ حالةَ العجزِ وتكريسَ الإنتظار السلبي عما جاءتْ به مسرحية (في إنتظار غودو) لصومائيل بيكيت بل غامر ليكون في قلب الحدث حين صار يعيد التشكيل البنائي والهرمي لهذا النص وبإدارة نابهة من عندياتِه ويحققُ من هذا التداخلِ الكتابي ووفقَ رؤيته لمسحةِ العدمية وحالاتِ الشحوبِ التي نالت من سخصياتِ نصِه الماثل الجديد(في إنتظار فلاديمير) وبسلوك (سيتراغون) وبحضور المؤلف (بيكيت) وفي عمليةِ الحذفِ الشكلي والإزاحة الذاهبة في تصير جديد يعد من متبنيات (مثال غازي) وهو يتبنى العتمةَ والسكونيةَ لِتُغَلَفَ بضبابيةٍ ملموسةٍ لمَنْ يتمعنُ في قراءةِ هذا النص.
وفي رسمِ معالمِ نصِه ينجحُ في تأصيلِ تلك المتواليةِ التي عُدتْ من العلامات الراكزة في نجاح التأليف المسرحي حين يظهرُ أمامنا نصٌ مسرحيٌّ يريدُ أو يبتغي التداولَ في الإشتغالِ الكتابي وبحسبِ متبنياتِ الرؤيةِ والتوجهِ الفكري والفني لديه ووفقَ تبصراتِه نحو واقعٍ يُحيطُ به.
فما بدا من نص (في إنتظار فلاديمير) أنَّه يرتكزُ على إعادةِ المسلماتِ الداخليةِ لما كان يكتنفُ عالم (بيكيت) وقد جاء وفقَ متبنياتٍ تكادُ تتجاوزُ ما حفلتْ به مخاضاتُ ذلك العالمِ وفي لعبةٍ كتابيةٍ راهنتْ على ثنائيةِ الشكِ والإدانةِ والمبادلةِ وفي تدرجٍ وكأنَّنا أمامَ مطاردةٍ ما بين (بيكيت) بوصفه خالقَ شخصيةٍ وبين صنيعه (سيتراغون) وفي مساحةٍ قوامُها الإفتراضُ إذ يكون (فلاديمير) الغائبَ والمحذوفَ عنوةً بقصديةِ الكاتب (مثال غازي) ويشكل بأثره وبحضوره على لساني(بيكيت-سيتراغون) حتى بدا
هو المهيمن الذي به تتحركُ خيوطُ اللعبةِ المسرحية فيبدو الفاعلَ والغائبَ والمُنّتَظَرَ ضمن العرض المسرحي المقدم من قبل فرقة جماعة الناصرية للتمثيل في محافظة ذي قار والمشارك ضمن فعاليات (مهرجان عدنان أبو تراب لمسرح المثنى)بتاسع دورة له والمقام في مدينة السماوه مركز محافظة المثنى وسط العراق من قبل (جماعة ثقافن الفنية) لمدة أربعة أيام إعتباراً من 10-10-2024
وفي إجتهادٍ يحسبُ له سعى المخرجُ الشابُ(سجاد حسين) في ملاحقةِ ماجاءتْ به أسطرُ نصِ المؤلفِ (مثال غازي) فيشتبكُ معها متبصراً ومفسراً ليحققَ بإشتغاله معادلةً صوريةً إحتفظ بأداء فعل تواجدها منذ السطورِ الأولى للنصِ حتى خواتِمها وهو يفترضُ بملاحقته هذه تصوراً شكلياً يكاد يوازي ويفسرُ أغلبَ مساحاتِ العتمةُ والضبابيةُ والشحوب وهذه من المفاعيل التي إرتكزت عليها مقصدية التأليف بيد أنَّ جهد المخرج (سجاد حسين) وإنْ بدا عليه التوغل في معمارية شكل العرض وربما بالغ كثيراً كيما يخفف من غلواء تلك المفاعيل إلا أنَّ هذا لايمنع من توارد السؤال من قبل الجمهور عن فحوى المضمون الذي يمكن أنْ يقول به هذا العرض والذي إنحدر إليه من متبنيات التأليف وهي تبالغ في شحوبها وعدميتها وضبابيتها معا؟
إنَّ التفسيرَ والتجسيدَ بالشكلِ الذي راهن عليه المخرج يُعَدُّ المفتاحَ الأرجحَ الذي من خلاله تواصل الجمهور إذ يرى أنَّ ثمة توضيحاً وفهماً قد وصلَ إليه ساهمتْ في تمظهره بعض المشاهد التي تواترتْ أمامه منذ المشهد الإستهلالي وقد إمتلأ بالتوترِ والتوجسِ والشَّكِ والريبةِ والخوفِ حين يتم إستخدام تورج البحث وبلونه الأزرق تصاحبه موسيقى تخلو من العاطفة والمشاعر وقد أحالتنا إلى حال مأزوم مختنق وهنا يكون الجمهور أمام عوالم العبث واللامعقول حيث تندثر المشاعر والأحاسيس الإنسانية وبعدها ندخل في تفاصيل العرض الذي تم تسويره ومنذ المشهد الأول باغصان ذات لون أحمر تسيدت كلَّ مقدراتِ العرض شكليا حيث نحن مع عالَمٍ تُحدُ فيه مقدرةُ الإنسان وتكون مقاديرُ حريته عند منعطفاتٍ كثيرةٍ ومكبلةٍ لمساراتِ تلك الحرية إذ يشعر أنه غيرُ قادرٍ أنْ يكونَ حراً من جراء إكراهاتٍ كثيرةٍ تقف عائقاً أمام تحقيق ما يريدُ وما يطمح وما يصبو إليه وهذا تم تمثله بتلك الأشرطة ذات اللون الإحمر وكأنَّ بها وقد تناسلتْ كأغصان لتلك الشجرة الجرداء في نص (بيكيت) في حين حضرت في هذا العرض كفاعل ساهم في ترجمة ما كان يعول عليه المخرج في تفسيره وتجسيده الصوري والى ما كان يريد قوله من مفاهيم وموضوعات تأتي متتابعة ومحايثة أثناء ما تم إنتاجه من مداليل متعددة وبعد أنْ أضحت هذه الشجرة وشكلها الآلي كمكان للحوار المبني على الإدانة والشك مابين (بيكيت) و(سيتراغون)، وأيضا كمنصة لخطاب (سيتراغون)، وأيضاً كمنصة إعدام وصلب أحالنا إلى تفسير ديني يتعلق بالدين المسيحي، وأيضا كمنصة تجسس ومراقبة حين يشتبك معها بالإشتغال الرجل الأول والرجل الثاني بلباسهما الأحمر والذي يحيلنا هو الآخر إلى آلة قمع السلطة، وأيضا وهذا هو الاهم والجوهري حين أصبحت هذه الشجرة مصدراً لتناسلِ الأغصانِ بلونها الأحمر وقد إبتدأ فعل أثرها منذ المشهد الأول حتى المشهد الأخير وبعد أنْ أطبقت هذه الأغصان على منافذ العرض لتحيل مَنْ بداخله تحت ركام الإنتظار المر والمحبط والقاتل بنفس الوقت لقيمة وحرية وفاعلية الإنسان وقدرته في إتخاذ قراره الصائب.
فهذا الإنتظار ولَّد أمامنا حالةً أكثرَ مسوخاً حين تحول (بيكيت) (سيتراغون)
إلى شكل يوحي بالسخرية والهزلية بعد أنْ نزع كل منهما لباسه الأصلي ليخرجا لنا بلباس يقترب من العري وكل منها يرتدي باروكةً ويقوما بعملية تنظيف وزالة ماتراكم على شريط قيدهما ثم بعدها يدخلان في حوار فارغ من كل محتوى يعززه إطلاق وتناثر بالونات الهواء التي صار يطلقها فوق رأسيهما كل من الرجل الأول والثاني في دلالة كبيرة على أنَّ فعل الإنتظار قد جعل منهما في وضع لايُحسدان عليه ولابد من التحرك عليهما ومحاكمةِ عجزِهما بفعل يشي بالتغيير الإيجابي يبدأ بتقيدهما كل منهما في مكانه وبعدها يتم تطهير المكان من آثار ماتركه فعل الإنتظار بواسطة مرشةِ التعفير المحمولة من قبل الرجل الأول والثاني بعد أنْ إرتديا لباساً مغايراً لذلك اللباس الأحمر الذي كانا يلبسانه طيلة اوقات العرض وقد حصل هذا في المشهد الأخير حين نزل هذان المطهران إلى صالة جلوس الجمهور في محاولة لمتابعة وتطهير ما قد يصل إلى ذلك الجمهور من آثار الإنتظار السلبية وفي محاولة من قبل المخرج لتقريب أذهان الجمهور ويجعلهم مشاركين وحذرين لما يحدث من آثار مدمرة بحق حرية الإنسان ومشروع قراره الحر وعدم البقاء خاويا أمام تلك القيود والإكراهات ذات النزعة المعرقلة لحدود فعله.
وقبل هذا الفعل فمديات التحذير والتنبيه كانت قد اتت من داخل متن العرض من خلال اللون الأزرق الموجه إلى داخل صالة الجلوس وأيضا باللون الأبيض الذي خرج من بطن الشجرة وبمداهمة خارقة لعيون الجمهور، وأيضا باللون الأحمر.
وبتفحصٍ كاشف لمقدار الجهد المقدم من قبل المخرج الشاب (سجاد حسين) سيتضح لنا مدى الإشتباك والتداول والمطاولة مع نص المؤلف(مثال غازي) ذي الصبغة العدمية والشحوب المعتم وبتجسيد ينم عن نباهة وتصور مثمر لمدركات مايأتي به الشكل المقابل والناجز وبكل ماحفل به متن العرض من موجودات صورية أعطت بتواجدها فعلا مضافاً يعزز من ممكنات الشكل المقترح،فبعض من هذه الموجودات مثل الاطواق التي علقت على جانبي المسرح وايضا التي وضعت في رقبة (بيكيت) بدت كبراهين تقيد رقبة الإنسان وتحط من قيمته وفي مكان آخر من فواصل العرض بدت كنوافذ بوح وأيضا كقفص إتهام، يضاف لها حضور آلة القيثارة وطريقة عزف (سيتراغون) عليها بمشهدية تبعث على المفارقة إذ كيف تكون روحية الموسيقى وسط أجواء تشع باللهب الأحمر المحتدم بالإضطراب ؟
ويبدو الجهد المضاف من قبل المخرج واضحا بإجتراح وإضافة شخصية الرجل الأول والثاني ليكون فعلهما مسانداً ومعضداً لوجود الشخصيتين المركزيتين في النص الأصلي، ففي هذا الإجتراح ثمة مساهمةٌ في توضيح وتعزيز ما يريد هذا العرض قوله بوصفهما يرمزان إلى سلطة قامعة والى خفراء يتجسسون على أنفاس وحركات من في العرض والى مساهمين في إدامة صيرورة العرض.
وما يلاحظ على أحداث هذا العرض أنها قد أخذت لها طابعا يتصل بجذر أجواء العبث واللامعقول وبمصدرها الغربي فلانكاد نراها تقترب من أجواء ما هو محلي فحتى لباس (بيكيت) هي كما هو بلباس الغرب والحال ينطق على لباس (سيتراغون) وحتى المشاهد الفلمية التي ذكرتنا بالفعل الإجرامي الذي قام به نيرون وتدمير مدينة روما، وحتى في الأخذ والتعامل مع فكرة الإنتظار بوصفها مرتكزاً وإن كان فعلها يثير فينا حالةً من الكابوسية والقنوط فكان التعويل من قبل المخرج على الجمهور ومدى تفاعله مع تلك الحالات ليعطيها بعضاً من مصداقية ما يعيشه من لحظات راهن يقيم فيه ويتأثر بما ينتجه هذا الراهن.
وربما إرتكاز الأداء التمثيلي على هاتين الشخصيتين(بيكيت – سيتراغون) قد مهد السبيل لأنْ نرى تلك المطاولة بينهما في الشك والريبة والطعن ومحاكمة الآخر عن قرب ويظهر لنا مقدار الفعل التمثيلي من قبل الممثلين (محمد خريش) في واحد من الأدوار التي أظهر فيها تمكناً وإلماماً ينسجم وعالم (بيكيت) الغريب والمشوب بالحيرة والتردد ويظهرهما في طريقة حضوره وهو في قلقه وعدم إستقراره وفي كثرة تشبثه وبحثه وسؤاله عن حقيبته التي لازمته في أغلب مفاصل العرض، َوالممثل(حيدر حسين) فقد مُنِحَ في هذا العرض مساحةً كبيرةً أظهر هو الآخر قدرةً واضحة في الأداء والتميز عبر مشاهد وهو يحاكم ويجادل ويوجه الشك بوجه(بيكيت) وكذلك في تحوله في المشهد ماقبل الأخير وهو مشهد التحول بفعل ما ولده الإنتظار السلبي إذ هما يركسان بوهن يبعث على السأم.
ولانكاد نبتعد عن التنويه بأهمية الإضافة من قبل المخرج في إضافة الرجل الأول بأداء (أحمد محسن) والرجل الثاني (كرار علاء) فهما قد شكلا المعادل الذي يوازي ويساهم في إدامة صيرورة العرض بحكم الوظائف التي اسندت لهما وتم التنويه لها آنفاً.
ولابد من التنويه أيضا عن جهود الفنان (أحمد خضير) في تنفيذ الداتا شو، وفي تنفيذ الموسيقى من قبل الفنان (مروان الكعبي)، ومصممة الأزياء(زينب غني) وكذلك الحال مع الفنان (حمود زهير) في تصميمه للملصق والبروغرام
وأخيراً لابد من التذكير ببعض المآخذ التي ظهرت ورافقت هذا العرض وهي ضعف ممكنات الإضاءة وعدم حضورها في فرش أثرها على مشاهد كثيرة، وكذلك شاهدنا وسمعنا عن قرب سيلاً من الأخطاء النحوية وعدم العناية الفائقة بشروط اللغة العربية في حين أنَّ نص التأليف يعمل في واحد من فروضاته المهمة على فاعلية اللغة وكيفية تُصيرها مع غرابة الحالات القادمة بفعل الانتظار وهو يلبس من دثار العبث واللامعقول وجماد المشاعر والعواطف وخفوت الإحساس بالآخر..