أتاحَ لنا مهرجانُ (ينابيع الشهادة المسرحي) بدورته العاشرة من قبلِ نقابةِ الفنانين في محافظةِ بابل/العراق أنْ نشاهدَ عرضَ مسرحيةِ (تَكَلَمَ) من تأليف الشاعر (حازم رشگ) وإخراج الفنان (جواد الساعدي) وإنتاجِ نقابةِ الفنانين في محافظةِ صلاح الدين والمقدمِ على قاعةِ مسرحِ النشاطِ المدرسي في مدينةِ الحلةِ بتاريخ 27-7-2024
ونصُ الشاعرِ(حازم رشگ) إمتلكَ العديدَ من السماتِ فقد كُتِبَ وفقَ إيقاعٍ سريع، وأيضاً الكتابةَ بحواراتٍ ذاتِ كلماتٍ محدودةٍ ومختزلةٍ ومركزةٍ تسحبُ من روحيةِ الشعرِ بعضاً من بهاءِ المفردةِ ذاتِ التأثيرِ الفاعلِ في آذانِ المتلقي كما هو الحالُ مع ما جاءَ به حوارُ الراهبِ وأيضاً تُعدُ هذه المفرداتُ مفاتيحَ لتنويهاتٍ يمكنُ أنْ يستثمرَها المخرجُ وهو ينوي التداخلَ مع هذه المفاتيحَ حين يُفسِرُها في تجسيدٍ صوري.
وقد راهنَ على إظهارِ نصِّه وهو يتجردُ من فاعليتي المكانِ والزمانِ فتمَ حذفُ ما يتصلُ بهما وإستعاضَ بلفظةِ (أين) الإستفهاميةِ والتي أحالتنا إلى عدمِ التحديدِ وكذا الأمرُ ينسحبُ على الزمانِ بلفظة (متى) فهو الآخرُ غيرُ معينٍ ونراه في سياحةٍ وإمتدادٍ وغيرِ محدد.
ورغم أنَّ العنوانَ (تَكَلَمَ) يشيرُ الى فاعليةِ الزمنِ في الماضي إلا أننا أمامَ ترافدٍ مثيرٍ لِآليته والى ما نعيشُه ونعاصرُه من أحداثٍ وحياةٍ وما نحن عليه في راهننا.
وعلى الرغمِ أيضا أنَّ في حواراتِ النصِ ما يدلنا على ما يتصلُ بواقعةِ الطَّفِ فنجدُ أنَّ المؤلفَ قد عمد إلى حذفِ وإلغاءِ تلك الواقعةِ وعدمِ التطرقِ لها مباشرةً وإعتمدَ على الذاكرةِ حين يتمُّ الإحتكامُ والعودةُ إليها في إستحضارِ ما ترتبَ عليها وما تركتْه من آثارٍ ما تزالُ تعصفُ بتأثيرِها في الوجدان والمشاعر دينياً وطقوسياً وإنسانياً
ونراه يعمدُ أيضاً إلى الترميزِ والبثِ السريعِ في بناءِ تراتبيةٍ الشخصياتِ ومن دونِ التعريفِ بمسمياتِها فأخبرَنا أنَّ (الرجل1-2-3-4) يكتسبون من صفةِ التعميمِ أكثرَ من التخصيصِ والتعريفِ ويضافُ لهم شخصيةُ الراهبِ وشخصيةُ حاملِ القربةِ والذي تواشجَ مع نهر الفرات ويبعث لنا بدلالة العطش فضلا عن حضورين آخرين لهذه الشخصية ضمن سياقاتِ الفعلِ التأليفي في كتابة هذا النص إذ يحفلان بدلالة الرملِ أو الدم
والمؤلفُ لا يتوانى عن وخزِ ذاكرةِ الجمهورِ المشاهدِ أو القارئ بما يركزُ عليه وهو يطرَحُ أمامهم تفاصيلَ لتواريخَ تبدو من التداخلِ والتعاقبِ في أثرِها وربما لثقلِها على تلك الذاكرة فماجرى في واقعة الطف وبالف ويزيد ويزيد من السنوات إلى تقعيد المناسبات وحولها وفق ما يرافقها من أحداث فمثلا الرجل4يقول: “أمي كانت تؤرخ للحوادث بالفيضان الذي ضربَ البلادَ وتهاوتْ كلُّ بيوتِ الطينِ، أقصد بيوتَ المدينة”
فهنا ثمة ما يدعو لأنْ نتاملَ بسيولةِ الزمنِ وفاعليةِ إمتدادِه إلى ما عشناه ومايزال مترعا في حاضنِ الذاكرةِ فهذا الرجل1 يسحبنا في حوارِه إلى ما حصل من طغيان ودكتاتورية وكيف كان مَنْ يدخلُ إلى المساجدِ بقصدِ السجودِ والصلاة وكذلك مَنْ يمتنعُ عن الذهابِ إلى جبهاتِ الحربِ العبثيةِ التي أشعلها غرورُ وطغيانُ الديكتاتور والحالُ ينطبقُ على مَنْ يحلمُ أو مَنْ يفكرُ بمسيرةِ المشي أو زيارة كربلاء
ولا ننسى ما حفلَ به هذا النصُ وهو يسهبُ كثيراً للكشفِ عن تلك النفوسِ التي تُحاصرها المحنُ والشدائدُ ولم يعد هنالك من سامعٍ أو مبصرٍ بها وهي تجعله في تماسٍ مباشرٍ مع مآسٍ كثيرة فالنص يقدم نقداً لاذعاً لِمَنْ يستهين بما يدور حوله من أحداثٍ وظواهرَ قد تودي بحياته وهو لايعطيها من الإهتمام والنباهةِ في التبني والإستدراك فالرجل1 يصيح بمَنْ حوله يحذرهم وهم يستخفون به وينعتونه بالخرف والسذاجة والخرافة.
ويبدو جهد المخرج (جواد الساعدي) واضحاً ويتصدى لتفسيرِ وتجسيدِ ما حفلَ به نصُ التأليفِ صورياً بعد أنْ مالَ إلى إستخدامِ كل ممكناتِ خشبةِ المسرحِ وتأثيثه عبر سينوغرافيا تكاد تشكلُ مهيمنةَ العرضِ بل لها من الحضورِ الراهي على أسماعِ وابصارِ الجمهورِ حتى بدا لجمهور هذا العرض وكأنهم أمام مداهمة وهم في مقاعد الجلوس.
وقد وزّعَ تشكيله البصري بتلك الرؤوس والجماجم المكممة الافواه وهي تندلق كما النهر من على خشبة المسرح نحو الجمهور لِتخلق عالما مفزعا يثير الرعب والكابوسية حين يشتعل من خلفها الضوء الأحمر وكذلك لجأ إلى توزيعِ الرماحِ في مقدمةِ المسرح بعد أنْ يممها بقطعِ القماشِ الأبيضِ كأكفانٍ ويضعُ فوقها باروكاتِ من الشعرِ المنفوش
وكذلك بوجود نهر الفرات ومشهد حامل القربة ومع حضور الإضاءة وباللون الذي يقترب من لون الماء سيعطي الأمل في الحياة وليكون هذا من المشاهد المؤثرة ضمن سياق المشهدية التي تواتر حضورها في متن العرض والأمر يذهب ببصرنا نحو الشجرة في أعلى وسط المسرح وعمل الراهب معها وبلباسه الأبيض حيث يلتقط من أوراقها الواحدة تلو الأخرى ويدفعها بواسطة حبل ليقول بمسيرة الحياة حيث هي في ولادة وموت متجددين،
ويكملُ المخرج من كثافة روافد المشاهدِ البصريةِ والمفرداتِ الفاعلة بها فيستثمر في مواعين الطبخ ويوزعها في مقدمة المسرح ومع تفاعل الممثلين معها فنكون مع إستحضار لحركة الزائرين وكيفية المناداة عليهم وتوزيع الطعام لهم ومن ثم تصبح هذه الصحون في مشهد لاحق وبعد تمزيق الكتل المعلقة عليها الجماجم والرؤوس المكممة لافتةً نقرأ في داخلها بعضاً مما ورد في مسرحية (الحسين ثائراً) لعبدالرحمن الشرقاوي
هذا ويضاف إلى المشهدية البصرية نجدُ المخرجَ قد مالَ الي إستثمار بعض المسامع الصوتية كصوت الحسين وبكلمات الشاعر عبدالرحمن الشرقاوي وكيف نستشف منه ذلك النداء الذي يدعو إلى العيش في الحياة بكل أمانٍ وسلام، ومع مقاطع من الموسيقى ذات الأثر الحزين لنكون مع المشاهد الختامية بحركةِ الشخصياتِ الأربع وصوتِ الهواتفِ النقالةِ وإخبارنا عن حركية الموت التي تمثلت ب(تصفيات جسدية لواحد أبدى برأيه الصريح في احد القنوات الفضائية واخر قتل لانه خرج يطالب بوطن) وكأننا مع عرض يدخل مع مخاضات ما يعيشه العراق من أحداث مؤلمة لعل أكبرها ماجرى لشباب تشرين وهم ينتفضون ضد الظلم والقهر والتسلطِ في إنتفاضة تشرين العراق 2019، وقد تعزز هذا المنحنى في قول الراهب أنَّ الف مسيح ومسيح سيصلبُ من جديد.
وحين التمعن في مجريات هذا الإشتغال من قبل المجرج(جواد الساعدي) يمكن أنْ نأتي بالآتي:
1-إنَّ التعويلَ على كثافة السينوغرافيا وتواجدها بهذا الحجم قد شكَّل ثقلاً مضافاً لما طرحه العرض من مساحة الفزع والكابوسية التي أنبأتنا بحجم القتل المتعمد والمتواصل منذ ما يقرب من1400 عام وهذا الإنتهاك الصارخ بحق الإنسان جسداً وروحاً آدميةً.
2-وأيضا هذه الكثافة لحجم وفعل السينوغرافيا قد حجَّم من فعل الاداء الجسدي للممثلين وتلك معضلةٌ قد برزتْ حين ضاع أو فترتْ مساحة الدور الذي يمكن أنْ تلعبه منظومة التمثيل إذا ما عرفنا أنها تعد الأولَ والأرجحَ في التعريفِ المركزي لرسالةِ هذا العرض، فإذا ما دققنا في أداء الممثلين (أباذر ناجح-أمجد نبيل-كرار علو-براء علي-لقمان فرحان) فنراه قد ضَعُفَ وأصبح خافتاً يفتقر لوهج الحضور المؤثر أمام هيمنة هذا الشكل الصوري الطاغي بإستثناء الممثل (عبد حبيب) وهو يؤدي دور الراهب لأنْ يحظى بحضور واضح بين توزيع مناطق الاداء في مفاصل هذا العرض.
3-إضافة شخصية (المسخ) وتواجده ومراحل تحركاته وتدخلاته قد أعطى عبئا وثقلا ايضا صار يأخذ ويشتت من أثر الفعل المرتجى من لدن التلقي وأيضا من قبل الفعل التمثيلي إذ يتزامن ويصاحب الممثلين الآخرين ويشاطرهم في الحركة، فضلا عن أنَّ تواجده لم يحقق أو يضيف ذلك الإشتغال المثمر والهدف المنشود،
وكنا قد شاهدنا عرضا سابقا للمخرج بعنوان (اللعين) كان دور شخصية المسخ بفاعلية وأثر أفضل من هذه الشخصية المستحدثة والمستنسخة في عرض (تَكَلَمَ) ولاندري لِمَ هذا التكرار غير المجدي؟
وكان لابدَّ لنا من الإشادة بالجهد المائز من قبل الفنان (عباس قاسم) وهو يقدم لنا عالما من والكابوسية والفزع عبر سينوغرافيا حظيت بتواجد مؤثر وفاعل من حيث الشكل ومايتعلق بالمضمون العام الذي جاء من أجله هذا العرض، وأيضا لابد من التذكير بمصمم المقاطع الموسيقية المصاحبة من قبل الفنان (أحمد الغزالي) ومنفذها الفنان (أحمد الحسيني)