يقدّمُ العرضُ المسرحي الكثيرَ من الاشتغالات التي تؤسّس لوحدة عمل، تنبثق منها مجموعة تصورات تنتظم فيها المادة التاريخية لمعنى وجودها التفاعلي، شبكة من المنظومات تنتقي مشاهد تمثل جوهر (التاريخ – الإنسان). فنجد المشهد المسرحي يسعى لإحتواء الفكري، ويسهم في إيجاد علاقة محورية تبلور الموقف في مسرح يحمل الدلائل المتنوعة التي تعزز قدرة العرض، لتكوين مسرح إنساني يعمل داخل البنية التاريخية، بمقومات حداثوية تأخذ على عاتقها عملية الخلق في العمل السردي للمرجع التاريخي حيث يمكن صياغة المعادلات الموضوعية من نفس البؤر النفيسة، دون السعي الى ابتكارات تخيلية تساهم في تفتيت المعنى لا في تقويته…
فكانت مسرحية “العهد” تجسيداً لليلة الجرح الكوني، ومجريات الواقع بـ(فجائعية) الواقع التاريخي، حيث قدمت العمل (رابطة الغدير الاسلامية) العرض الأول صباحا في القاعة الكبرى – جامعه كربلاء، بالتعاون مع كلية الهندسة، والعرض الثاني مساء في منطقة مابين الحرمين، مسرح الشارع.
وفي قراءة تأملية نبحث في جملة تفاعلات جادة طرحها العرضان رغم اختلاف بنية المكان، لإمتلاك هذه الرابطة اليوم لتاريخ يستطيع تجاوز أي مؤثر، وإخضاع إيجابياته لصالح العمل المسرحي… كتب سيناريو العهد (خيري مزبان) الذي أراد أن يدخل الأحداث، باستشهاد شعري استباقي مستند على قيم حوارية لبعض المشاهد الكبيرة؛ كلقاء الرمزين المتضادين – وسعى ليتحرك في فسحة من نبوءات الامام الحسين عليه السلام عن الواقعة ولقاءاته مع جون وهلال بن نافع… حتى وصلَ الأمرُ الى اقتباس نصي من بنى التأريخ، محاولة لإنعاش منطقة العرض بأجواء النص الخارجي شعورياً… محاولة جادة لفتح نوافذ تعبيرية لتحرك الشخوص في عوالم أرحب.
حقيقة نحن اليوم بحاجة الى المعالجة الرئيسة التي دوّنتها، سيغدو النص اتساعاً بعيداً عن حيثيات التاريخ من أجل التاريخ نفسه، نحن نبحث عن نصوص تسعى لتكريس الفعل التاريخي محفزاً للتمحص في الواقع لإستنهاضه، وتعيننا على فهم التكوين الماضوي كقراءة إيجابية لمنحنا الواقع الأسمى للمأساوية التي عاشتها رموزنا الخيرة – معرفة بؤر التاريخ لمعالجتها… فقد نجح النص في تقديم التاريخ كتاريخ، وقاد هذا النجاح جهد المخرج (علي جاسم) الذي حاول الارتكاز على تقنيات التحليل مقدما لنا تشكيلات حديثة على شكل قنوات حديثة؛ مشاهد مستقلة تصب في بوتقة موحدة، فنالت تلك المشاهد استحسان الناس في العرضين المسرحيين بدرجات نجاح متفاوتة، كمشهد الرايات (رايات الأنصار والمهاجرين) ليؤسس منها دخولاً مهيباً، قدم أجواء رائعة من القدسية، تشعرنا ببهجة الخشوع المتمرد على نزعته الخنوع السلطوي… فهذه الرايات الخفاقة تعبّر عن موقف روحي استطاع به أن يجعل مشهد حبيب بن مظاهر من أجمل المشاهد المؤثرة، واستطاع من خلال بوتقات (الوطن المشهدي) أن يقدم الكثير من المشاهد المؤثرة كحوارية رموز الشر بينهم ، وحوارية رموز الخير بينهم ، حيث كان من المشاهد المؤثرة وجدانياً أداء الممثل (عبد الله)، كما سعى المخرج الى تفعيل المشاهد الدرامية كنبوءة (الصراع) التي دفع لها زخماً شعورياً، ومشهد لقاء الرموز الناهضة لنصرة الحق، ولقاء زينب عليها السلام بالحسين ع، وخطبها المؤثرة في الواقعة أداء (أم زهراء).
ومن المشاهد الرائعة والمتقنة هو مشهد كشف الرؤوس، والزحف نحو المخيم ، ومشهد يعتبر من أهم المشاهد التعبيرية التي أثارت أحزاننا كثيراً؛ هو المشهد المغاير لأحد الفتيان، كانت فيه أشياء جديدة، فلم يطرح جدية المقاتل، وإنما طرح عفويته التي أذهلت الحضور، وكان أداء الممثل البارع (كريم محمود) هذا الفتى لو شاءت الظروف لإعداده الاعداد الصحيح، فسوف يكون بالتأكيد من الشوامخ الشاهقة في عالم المسرح، ومن أجمل المشاهد المقطعية التي قدمت آفاق المتخيل المشهدي… “إذا كان الوعد ندياً يفتح أبواب السماء لمنازل اعداد للشهداء – والانصار يرمقون عيونهم الى السماء، فيرون مكانتهم هناك…”
ومثل هذا المشهد يجمع الرؤيا المستقبلية لهم والدوافع الفردية والتي ستلتقي بقوة مع مشاعر المشاهد… كما سالت الدموع في مشهد حفر قبر الرضيع، دون أن يقدم مادة شعورية تتفاعل مع المشهد العياني، تكشف لمسارات العرض في بؤر تتفاوت من حيث حراكها الفني كشخصية قائد الشر أداء الممثل (عقيل) إذ قدمها مهزوزة لا تستطيع مواصلة دورها، وكأنه يريد أن يعبّرَ عن هزالة هذه الشخصية؛ لذا فأن برودة المشهد وطول بعض المشاهد أخلّ بالمتعة وخلق الملل…
إن القراءة النقدية تحاول الايغال في عوالم العرض من أجل تحصين الخطوة، وخاصة حين تتجاوب سمات ذلك العرض مع التحليل، مع وجود بعض المسالك (الممنتجة) بعفوية أو بعجلة، تحتاج الى إشارة حيث كان جهد الاشراف الضوئي والمؤثرات للسيد (حمودي الياسري) واضحاً، رغم أن المقاطع الصوتية التي قدمت على شكل مسامع مقطعية أخذت الكثير من انسيابية العمل المسرحي. وما ينقص هذا الجهد الفني هو معرفة قيمة الصمت داخل الفعل المسرحي، الفراغ المشغول الذي لاشك أنه يبعث عن الخشوع، لابد من السيطرة العاطفية للفنان، هذه القراءة للطاقات الفنية الرائعة لا تستطيع أن تخفي إعجابنا بالفنان الرائع (أحمد لفته) هذا الفنان الذي جسّد شخصية حبيب الأسدي مع جهد الجميع الذي أنتج سعياً فنياً كبيراً…