في إطار فعاليات الدورة 14 لمهرجان المسرح العربي (10 ـ 18 يناير 2024)، احتضنت كلية الفنون الجميلة/ جامعة بغداد، صبيحة الأحد 14 يناير 2024، المرحلة النهائية لتحديد تراتبية الفائزات الثلاثة، بالندوة المحكمة للمسابقة العربية للبحث العلمي المسرحي، والتي عالجت موضوع الخصوصية الفكرية والجمالية في التجربة المسرحية النسوية، من خلال دراسة نموذج تطبيقي على تجربة مسرحية معاصرة لواحدة من سيدات المسرح العربي. وقد فازت بالرتبة الأولى الباحثة التونسية (أمينة بنت احمد الدشراوي) عن بحثها بعنوان” من شعرية الجسد إلى جمالية الصورة و تجاوز الحدود قراءة في مسار الكوريغرافية نوال اسكندراني” الذي اخترنا نشر مقدمته للاطلاع على ملخص ترتيباته وعن أهم عناصره.
*************
“ يندرج هذا البحث ضمن ما يشغل تفكيرنا وهواجسنا في المسارات المسرحية المعاصرة في علاقة بالجسد وتجلياته في عصر “ما بعد الحداثة” بصفة عامّة وفنون تيار ما بعد “الحداثية” كتيّار شامل لمجالات الأدب والفنّ. على اختلاف التأويلات للمصطلح وما يمكن أن يحمله من دلالات مختلفة، يتّفق النّقاد على أنّ هذا التيّار ينزع نحو تحطيم القيود بين الفنون وتجاوز الحدود في تناول السرديات الكبرى على مرّ التاريخ مهما كان نوعها، جنسها، انتماءاتها أو لغاتها. وما ظهور مسرح “ما بعد الدّراما” و الذي نظّر له الألماني هانس ليمان إلاّ نتاجا لتعبيرات فنية مختلفة لعلّ أهمّها الرّقص المسرحي التّعبيري danse théâtre و الذي كانت أشهر رائداته الراقصة الألمانية “بينا باوش” (1940-2009)
انطلاقا من مبدأ “الآن وهنا”hic et nunc، ارتأينا أنّه من مهامّ الباحث العربي المتخصص في المسرح وفنون العرض، خوض غمار تعبيرات الجسد المختلفة واستكشاف كيفية ترجمة التيمات المختلفة في الفضاء المسرحي من أفكار مرورا بالأجساد إلى صورة جمالية متكاملة ذات هويّة عربية منفتحة على القيم الكونيّة ولا تعرف حدودًا بين الفنون والثقافات.
من ذلك، انبثقت فكرة هذه الدّراسة وتبلورت الإشكالية التي وجّهتنا إلى تجربة نسائية انطلقت مؤسستها منذ سنّ الخامسة من الرّقص الكلاسيكي لتثور عليه وتتجه إلى الرقص التعبيري المعاصر نحو الحركة الجسدية بأبعادها الشعرية والفكرية الملتزمة بقضايا الإنسانية وتنطلق من ثم في نحت مسارها الذي ينفتح على الفنون الأخرى المعاصرة كالفنون البصرية بما فيها الفيديو والصورة الرقمية والموسيقى والسيرك و غيرها من الأشكال الفنية التي تجمع بين الحركة والصورة ألا وهي تجربة الكوريغراف أو مصمّمة الحركة التونسية “نوال اسكندراني”.
تتنزل هذه القراءة في إطار ما يمكن أن تفرزه لغة الجسد بالتزامن مع بلاغة الصورة في المسرح العربي المعاصر في منهج سيميولوجي بمقاربة تحليلية تستأنس بالاستراتيجية التفكيكية في قراءة لمسار نوال اسكندراني كفنانة كوريغرافية و صانعة عرض إذ نحاول الانطلاق من تساؤلات حول إعادة إنتاج المعنى و تأثير مشروعها في السّاحة العربية المسرحية إذ لطالما كانت المشهديّة العربيّة ترتكز أساسا على اللّغة والنّص بينما تسوقنا الخصوصية الجمالية والفكرية التي طرحتها الفنانة المخضرمة منذ ثمانينات القرن الماضي كالآتي :
أ لم يكن المسرح شاملا منذ نشاته كنتاج للرقص والشعر والحوارات؟ أليس المسرح جامعا لكافة الفنون الآن بما فيها فن الفيديو والتركيب السمعي البصري؟ الم يتحدّث ريتشارد فاغنر يومٌا ما عن ” المسرح الشامل” كمشروع يجمع الفنون في خدمة العرض؟ أ لم يتحدّث النّقاد المسرحيون عن مسرح معاصر لزمن ما بعد الحداثة لا يخضع لتصنيفات بل يكتسب فيه العرض شرعيّته من نفسه؟ أليس المسرح ما بعد حداثيا بطبعه في جمعه للفنون؟
من ذلك، سنحاول من خلال هذا البحث طرح الإشكاليات التالية والإجابة عنها في تمشي استدلالي استنباطي تحليلي: هل تستجيب التجارب الفنية المؤلّفة لمسار الفنانة الكوريغرافية التونسية نوال اسكندراني لمقومات مسرح ما بعد الدراما انطلاقا من الرقص المعاصر وصولا إلى عرض متعدّد الاختصاصات؟
إلى أيّ مدى يمكن الجزم بأنّ المشروع الفني المقترح هو مشروع مسرحي عربيّ يتجاوز حدود لغة الجسد والصورة الرقمية وتقسيمات الجغرافيا؟ ماهي مقوّمات هذا المشروع وخصائصه المحلية والكونية؟
كيف يمكن لنا أن نموضع تجربة سيّدة الرقص المعاصر التونسية في المشهد المسرحي العربي؟
تنطلق قراءتنا للمسار من العامّ لتصل إلى الخاصّ و من الكلّ الشامل إلى الجزء التفصيلي، في محاولة لتأكيد فرضية أنّ مسار نوال اسكندراني يحمل في طياته مشروعا شاملا في بعد ما بعد درامي لا يناصر فنّا على حساب غيره فهي لا تقدّم عروضا راقصة فحسب بل تطرح أشكالا مغايرة و جماليات مختلفة مناصرة للقضايا الإنسانية الآنيّة و الحارقة في كلّ العروض المقدّمة مع التركيز على أعمالها في الفترة التاريخية الممتدّة من 2003 إلى 2023 و التي تميزت بظهور الصورة الرقمية أي في العشرين سنة المنقضية مع دراسة تحليلة تطبيقية للعرض التونسي الفلسطيني “إلى حدّ الماء” (2013) و هو ما سنخصص له الباب الثاني من البحث.
تنقسم إذَا هذه الدّراسة إلى ثلاثة محاور كبرى أسميناها بالأبواب لرمزية الكلمة، إذ يأخذنا كلّ باب إلى ثلاثة عناصر صغرى حيث يتسنّى للمتقبّل رصد مسار الكوريغراف التّونسية بكل جزئياته وتفاصيله التاريخية وتناقضاته إذ كأي مسار فني لا بدّ من وجود متناقضات تحملنا إلى تشظيات تمكّننا من دراسته استئناسا بما ذهب إليه كلّ من باتريس بافيس، آن ايبرسفلد، رولان بارت وجاك دريدا، مارتن جولي و رومان ياكوبسون في تحليل الصورة والحركة والصوت والإيقاع.
في محاولة استقراء التجارب الفنية التي خاضتها نوال اسكندراني، يتمحور الباب الأوّل حول بداياتها و ثورتها على الكلاسيكي منذ عودتها من الغرب و استقرارها في تونس حتّى معايشتها للثورة التونسية و مابعد الأزمة الصحية العالمية اخترنا عنونته ب: ” شعرية الجسد و جمالية الصورة ” والذي يحمل في طياته مدخلا إلى المفاهيم الكبرى التي نتناولها بالدراسة إضافة إلى كشف أولي عام لمسار “نوال اسكندراني” استنادا لبعض التجارب كنماذج عامّة حيث يحمل العنصر الأوّل عنوان “الفنانة المواطنة و إشكالات الجسد العربي” وفيه سنقوم بتحديد الكلمات المفاتيح للبحث مع مدخل لمسار نوال اسكندراني في تونس والبلاد العربية كالمواطنة والهوية غيرها من مرجعيات الإنتماء الوطني وأسس المشروع الفني المقترح مع التركيز على الجانب المسرحي في اعمالها.
أمّا العنصر الثاني المعنون ب: “الجسد فكر و مقاومة” فهو يركّز على الخصوصيات الفكرية التي يترجمها الجسد في الفضاء المسرحي من فنون أدائية وعلاقتها بشعرية الجسد لنطرح جدلية الفن والفكر من خلال الجسد الشعري على الرّكح وهو المفهوم الذي نعتمده في المغرب العربي للدلالة على الخشبة أو المنصة لنصل إلى العنصر الثالث : من الجسد إلى الصورة وفيه نعود إلى الأسس والمرجعيات بين الحركي والرّقمي في علاقة بالسؤال التالي هل يكمّل الجسد الصورة ام الصورة هي المكملة للجسد أم أنّ الجسد والصورة ينسجمان في خدمة الفكرة و الطرح؟
من ذلك ننتقل إلى الجانب التطبيقي في الباب الثاني من البحث وذلك من خلال قراءة تجمع بين السيميولوجي والهرمونيطيقيفي السياق السوسيوثقافي العامّ، باعتماد استراتيجيا تفكيكية لتجربة تطبيقية نموذجية تحمل عصارة أفكارها وجماليتها وهي تجربة العرض الفني متعدّد الإختصاصات “إلى حدّ الماء” ولعلّ اختيارنا لهذه التّجربة يعود لما تحمله الفنانة من انتماء انساني وجداني وفكري للقضية الفلسطينية في إطار طرح مسألة المياه في المنطقة العربية وهو ما تعانيه بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط وبالخصوص البلاد التونسية إثر عشر سنوات من إنتاج هذا الإنتاج التونسي الفلسطيني المشترك من جهة، لتعدّد وتنوّع الوسائط الفنية مما يؤدي إلى كثافة سميولوجية عالية المستوى من جهة أخرى. فالعلامات المكثفة على الركح تسمح لنا بدراسة “إنشائية العرض متعدد الإختصاصات في التجربة النموذجية إلى حدّ الماء” والذي يجمع بدوره بين ثلاثة عناصر تحليلية كالآتي: في مستوى أوّل “هندسة الفضاء” وفيه نتحدث عن ثلاثة أنواع من الفضاءات: المنصي، الحركي والرّقمي وفيه تركيز أولي على تفكيك أنواع الصورة ورصد مدلولاتها في مستوى ثان نتناول ” التشكيل الجسدي بين الثابت والمتحوّل” وفيه ندرس الأداء بمكوّناته ومرجعياته ورموزه أي دراسة الحركة والجمود في العرض ودلالاتها بمعناها الهرمونيطيقي وكيفية انسجامه مع مكوّنات الفضاء المسرحي، أما المستوى الثالث يمثله العنصر الأخير من هذا الباب بعنوان”دراماتورجيا الصوت والإيقاع” وفيه نرصد النظام الصوتي أو فونولوجيا العرض حسب تمشي رومان ياكوبسون في دراسة وظائف الصوت.
في الباب الثالث المعنون ب”في تجاوز الحدود”سنقدّم قراءة لترنسندالية المعنى من الجسد إلى الصوت لتكوين صورة إيقاعية متحركة في “الثالوث المسرحي: الجسد-الصوت-الإيقاع” لنصل إلى الإجابة على الفرضية التي تطرحها إشكالية البحث حول مسار نوال اسكندراني في “تجليات مسرح ما بعد الدراما ” بالعودة إلى هانس ليمان الذي بلور هذا المفهوم في كتابه مسرح ما بعد الدراما، وذلك من خلال التجربة التطبيقية وتموضعها في كامل المسار فنقدّم استنتاجاتنا التي نبلورها في آخر عنصر ألا وهو “راهنية العرض المختبر و رهاناته” في العلاقة بين متطلبات العصر، الالتزام الفكري والجماليات المقترحة لرصد آفاق مشروعها العامّ الذي يحمل بين طياته تصميم الحركة والإدارة الفنية والرّقص كفرجة وتكوين“.