في قاعة باذخة من قاعات مدينة تطوان الجميلة، إنبعث فوق الركح عرض مسرحي رائق حمل عنوان ” فطائر التفاح” لفرقة دوز تمسرح من مراكش، وذلك في إطار المهرجان الوطني للمسرح المقام بتطوان في دورته 23 . المسرحية تجمع بين السينوغراف يوسف العرقوبي و الممثلين زينب الناجم، رجاء خرماز، نور الدين سعدان و الموسيقي زكرياء الحدوشي، وكان توقيع العمل من طرف المخرج عبد الجبار خمران.
يقترح العرض إحياء نص عربي إختار المخرج أن يكون للكاتب السوداني أمجد أبو العلا، وهو مشروع بدأ العمل عليه سنتين قبل هاته، حيث كان يرغب أن يولد في دولة الإمارات العربية المتحدة، لكن الظروف شاءت أن يكون مغربي الجنسية، وأن تؤدي أطواره أسماء مغربية وازنة خبرت مع نفس المخرج تجارب مسرحية سابقة، لتتحول فرقة دوزتمسرح إلى مختبر وعائلة فنية لها عنوان بارز في المشهد المسرحي المغربي.
المسرحية هي عمل فني متكامل يزاوج بين البعد الفكري و رمزيات متعددة تنطلق من البداية الأولى حيث آدم و حواء ، وتحكي برمزية سلسة تفاصيل وعوالم نجح المخرج بجدارة أن ينسجها.
قصة العرض كما يحكيه ملخص المسرحية الموزع في كتيب المهرجان، يتمحور حول شخصية آدم المصاب بسرطان. ومع تلاشي الجسد والذاكرة يتضح أننا في زمن حرج من وجوه حيث أنها ليلته الأخيرة في هذه الحياة… زوجة آدم نموذج حي حيوي من النساء، تريد الحياة و تسعى لإقتناص ملذاتها التي تنكسر طيلة أطوار المسرحية على صخرة العجز الرهيب الذي تخلقه شخصية آدم المعلولة.
ينطلق بناء العرض على مستوى المشهدية من خلال الفراغ، وفكرة التفضية من الناحية الإخراجية والسينوغرافية في الغالب تكون مجازفة خطيرة، لكن الواضح أن العرض استطاع أن يربح هذا الرهان وخلق من الفضاء الفارغ ركيزة أساسية للتعبير عن الطروحات القوية التي ستواكب العرض .
لا شك أن قوة الأداء فيما يخص الممثل كان المفتاح الأساسي لربح هذا الرهان، رجاء خرماز/ حواء و نور الدين سعدان/ آدم، هما الشخصيتان الأساسيتان لحركية العرض المسرحي، لكن تفاصيل العرض تقلب هذا التصور بالتأكيد، فلا وجود لحواء إنما نحن أمام ثنائية في تشخيص الدور، فحواء / رجاء خرماز، هي ظل زينب الناجم و آدم/ نور الدين سعدان له ظل يشخصه زكرياء الحدوشي، وظل هذا الأخير سيفارقه معظم العرض لأنه سيتخذ صفة الموسيقي المرافق. إنها ترانيم المسرحية التي يعزفها بطلنا آدم من خلال قرينه .
اختار العرض أن يكون جد متقشف في العناصر السينوغرافية، فكان عزاء المتفرج في قطع أكسسوارات دالة : أوراق ( آدم شخصية لكاتب)، نصف إطار أبيض ( استخدم في مشهد تذكر صورة الزواج)، وشاح أحمر ( استخدم في الرقصة الكوريغرافية و مشهد احتجاج الزوجة على برود آدم).
إذن، فالخشبة في العرض المسرحي هو فضاء لخلق المعنى دون إسراف أو مبالغة، و الألوان هي الأخرى كانت على ذات المنوال، بين الأسود لباس الظلين / رجاء و زكرياء ، واللون الأحمر في جيبة jupe لبستها زينب الناجم فيما لبس آدم لونا يثير في المتفرج حالة الآسى و تعكر الصفو، لعله الأحمر المقترب من البنفسجي.
كان للتموضع على الخشبة طعم خاص مع وجود موسيقى مصاحبة في بعض لحظات العرض، وكان المميز في العرض هو شخصية آدم / نور الدين سعدان الذي أتقن لعبة التقمص، من خلال حركة جسد بطيء أو متباطئ ورأس حليق وصوت معبر، وهو عكس الآداء الذي شخصته رجاء / حواء ، التي تفيض حياة و حركة، تعشق التفاح و تحاول جاهدة صنع فطيرة تفاح، لكن لا جدوى …. الفطيرة دائما تحترق…. إنها بلاغة ركحية على إحتراق هذه العلاقة الغير متكافئة بين جسد أنثوي يلتمس العناية حد الشبق ليجد الطرف الآخر جسد عليلا يتسمر دائما حين يلتصق به الجسد الأنثوي … “دون جدوى” هو عنوان ما بين السطور الذي سيفضح لاحقا في مشهد ترمي فيه حواء/ رجاء، أوراق ومخطوطات آدم على الوشاح الممد على الأرض مستنكرة مضاجعته أوراقه عوض مضاجعتها.
يحبل العرض بعدد غير يسير من الفرجويات الركحية، حيث يتحول العرض إلى لوحة رائعة أدتها حواء/ زينب الناجم من خلال الجسد في رقصة باذخة على إيقاع موسيقي لزكرياء الحدوشي جمع بين نغمات كناوة و الكدرة، و هو ما تجسد بصريا في الآداء الراقص الذي استعمل الوشاح تارة على طريقة رقصة الكدرة وتارة بأريحية الراقص المتمرس، وهو ما أعطى للعرض طعما آخر، جمع في لذته بين ليونة الآداء وسلاسته من خلال إيقاع إخراجي مضبوط و طعم التفاح الملغوم بأسئلة فلسفية و أبعاد فكرية مهمة.
مسرحية “فطائر التفاح” هي عرض وآدائية متنوعة في تفاصيل حكيها، و يصعب الإحاطة بكل معالمها من خلال مشاهدة وحيدة لما تحمل من ألغاز بين ثنايا معالجتها الدرامية و الركحية، لكنها بلا منازع عرض مسرحي تابعه المتفرج بشغف، دون ملل و بكل أريحية رغم حمولته الحارقة خاصة وأن آدم ستنطفئ شمعته بعد مشهد ينزع ملابسه ليتطهر في الحمام آخر مرة. إنه الغسل الأخير الذي تنتهي معه أطوار المسرحية وهو يضع رأسه على ركبة حواء و يغطيه الوشاح المختلط لونه بين الأحمر والأبيض..
تنتهي المسرحية وتبقى النغمات الأخيرة في ذاكرة المتفرج مزاوجة للنهاية المحتومة لآدم، ويكتب فريق العمل عرضا متميزا في سجل أعماله، من خلال مخرج استطاع أن يضم الفرجة الراقية إلى مربع الأفكارالفلسفية العميقة التي يحبل بها نص الكاتب.
* أسامة السروت / كاتب و باحث مسرحي