مثل رحلة صيف حيوي هادئ، كان المهرجان الدولي للمسرح الجامعي FITUC يتجول من (24ـ 29. يوليوز2023) بشعاره “المسرح و العوالم الإفتراضية“ تجوب منازل منتشرة عبر الدار البيضاء، متشبثا بما حققه وطنيا ودوليا في مسيرة 36 سنة، جاهدا في السعي إلى تحقيق آفاق مستقبلية ممتعة فنيا ومؤنسة ثقافيا، مطيته إليها عروض متنوعة دولية و وطنية وندوة إنصبت على مساءلة المستقبل والطروحات الافتراضية في ظل العوالم المتحولة، التي فرضت نفسها كتحديات تحاكك الحركة المسرحية و الثقافية في شموليتها. عن هذه التحديات والتحولات الذائبة ليل نهار يقول الدكتور رشيد الحضري العميد الجديد لكلية الأداب والعلوم الإنسانية بنمسيك ورئيس المهرجان خلفا للدكتور عبد القادر كنكاي، في حوار أجرته معه المحطة التلفزيونية M1 والمغربية الثانية: ” إننا من خلال هذا الشعار، نطرح أسئلة للحوار حول مستقبل المسرح إستنادا إلى التطورات و المستجدات التي يعرفها العالم ما بعد الجائحة و بناء على التحولات التي يعرفها عالم الذكاء الإصطناعي، الإنسان الآلي، المدن الذكية وإنسان المستقبل. إننا لا ندعي الإجابة عنها، وإنما نطرحها أسئلة مفتوحة للنقاش و الحوار وتبادل وجهات النظر وللبحث والمساءلة في علاقتها بمستقبل المسرح و الفنون كلية… فهذه التسائلات و الأسئلة المفتوحة لخصتها ورقة الندوة التي عقدت بقاعة الندوات عبد الواحد خيري في رحاب كلية الاداب و العلوم الانسانية بنمسيك في أسئلة:
ـ هل يمكن أن نتحدث عن الميتافرس Metaverse باعتباره ثورة في المسرح؟
ـ هل يمكننا الحديث عن تغيير في المسرح في هذا العالم الإفتراضي؟
ـ كيف يؤثر الميتافرس على المسرح بجميع ابعاده؟)
[يعرف أحد الباحثين في علم المستقبليات Metaverse بأنه: ” عبارة عن سلسلة متصلة. مجموعة واسعة من العوالم المعززة رقمياً وبالوقائع ونماذج الأعمال. في السنوات القليلة المقبلة ستحدث ثورة عملية في كل جانب من جوانب حياتنا وعالم الأعمال. سنعمل معا في بيئات إفتراضية – وفي أماكن حقيقية تم إثراءها رقميا. سوف تظهر مجالات عمل جديدة. وسيتغير التفاعل بين الشركات وعملائها. تتجه الشركات بسرعة نحو مستقبل يختلف إختلافًا كبيرا عن المألوف. قريبا ستتعامل الشركات مع العديد من „العوالم الجديدة“: ستنشئ أماكن مادية وإفتراضية جديدة وتقدم خدمات في بيئات الشركات الأخرى. إذا كنت تريد أن تنمو في هذا العالم. فأنت بحاجة إلى إستراتيجية تقوم على المسؤولية. من يملك البيانات؟ ماذا عن الشمولية والتنوع؟ ما مدى عن إستدامة وأمان Metaverse «الخاص بي؟ إنها الأسئلة الجوهرية] فما هو موقع المسرح والفن عامة في هذا المخاض من التحولات؟:.
مثل رحلة صيف منساب كان المهرجان الدولي للمسرح الجامعي FITUC يتجول مثل رحلة سندبادية بين محطات فنية بيضاوية سبعة. ينتقل ببشاراته الفنية بين فضاء عبد الله العروي، فضاء المركب الثقافي سيدي عثمان، المسرح الكبير بنمسيك، المركب الثقافي محمد زفزاف، ستوديو الفنون الحية. عبد الواحد خيري، وقاعات الأوراش المسرحية بكلية الاداب و العلوم الإنسانية بنمسيك. فضاءات حملت وحدة الحلم بمستقبل مسرح حيوي واعد مفتوح على العالم الخارجي، مسرح منفك من حضن الكلية و ظهران الطلبة، مقتربا، ناضجا و بلغا أشهده 35 سنة من جمهور إختلفت مشارب وعيه و تنوع مستويات فهمه الفني المسرحي. „كان المسرح دوما مرتبطا بالمجتمع، متفاعلا مع هموم وأحلام كل الطبقات. ومتأقلما مع كل المستجدات و التحديات التي يعرفها العالم، لهذا و وعيا من المهرجان بهذه الحقيقة، فقد تمحورت دورته حول مواضيع أنية ومستجدة باستمرار في مجالات الإبداع المسرحي.“ يقول مدير المهرجان الدكتور عبد القادر كونكاي في ورقة دفتر المهرجان.
من هنا كان البدأ
في طريقي إلى فندق الدار البيضاء بن جدية، إستقيت تاكسي صغير خارج محطة قطار المسافرين. خلال الطريق سألني السائق: ” إن كنت سأقيم في الفندق، إن كانت هذه أول إقامتي فيه؟” أوضحت له، أنني قادم للمشاركة في فعاليات المهرجان الدولي للمسرح الجامعي. كانت إلى جانب السائق إمرأة ناضجة أثار فضولها جوابي، فتحدثت عن مهرجان الموسيقى الروحية في فاس؟ ودافعت المرأة الفاسية القباجية عن هذا المهرجان وعن عمدته فوزي الصقلي، وانفعلت للوضعية الثقافية التي يعيشها المغرب. حدثتها بدوري عن هذا المهرجان المسرحي الذي أنا في طريقي إليه الآن. سرت القباجية بحديثي وسررت أنا بحماس المرأة وانفعالها للثقافة ودفاعها عن المكتسيات الفنية وانتهى لقائنا بحميمة، شكرت المرأة في الوداع وتمنيت أن يكثر الله امثالها.
دخلت فندق الدار البيضاء وكان خاوي البهو إلا من أناس قلائل جدا يجلسون متفرقين هنا وهناك. لم أكن واثقا إن كانوا مهرجانيين أو زوار الدار البيضاء فقط. لاحقا سأعرف أن بعضهم من الفرقة الإحترافية(بصمات الفن)، التي إستهلت فعاليات المهرجان في المركب الثقافي مولاي رشيد بعرض مسرحي شرفي خارج منافسات جوائز المهرجان، “بورتري“. عمل من نوع مسرح الجريمة يتحدث عن إمرأة سلمتها أمها للتبني و هي طفلة، حتى تجنبها مصيرها الذاتي، الذي إضطرها للدعارة. تتدرج البنت في المراتب الإجتماعية، إلى أن تصبح سيدة مشهورة. حين أرادت ذات يوم كتابة سيرتها الذاتية، إستدعت إلى بيتها، صحفيا متمرسا لكتابة السيرة. أثناء سردها للأحدات تقاطعها مكالمة هاتفية تفسد مزاجها وتضاعف من اضطرابها. فتزيد قسوتها وإزدراءها بخادمها، الذي كان وراء المكالمات الهاتفية الصامتة كما تكتشف هي الأخرى أن هناك مراحل في حياتها يصعب سردها.
ثم أكتشف، أن البعض الآخر من شخوص بهو الفندق من فرقة جامعة الملك سعود التي قدمت عرضها “زهرة الخريف“ بفضاء عبد الله العروي. قصة إمرأة يداهمها لص في بيتها الذي تعيش فيه وحدها، فتتطور الجريمة الى حب بين اللص و المرأة التي تعيش في عزلة عن المجتمع.
حين دخلت غرفتي بالفندق، وصلتني مكالمة من الصديق شعيب خليفي، الذي كنت على موعد لقاء معه. كان لقاء حميما قصدنا فيه متأبطين فطائر“المسمن“ بالجبن وحلويات „الكرواسا“، مقهى شعبي في محيط الفندق، وعلى تذوق طعم الشاي الأخضر بالنعناع ونكهته، تحدثنا ساعتين او تزيد عن الكتابة وقضاياها، هموم الثقافة في هذا البلد السعيد وقمنا بجولة حول كُتاب من الشرق و الغرب وتحدثنا عن لعبة و امرأة النسيان وعن محمد برادة، عن القراءة وآياتها وعن النشر و إشكالاته ثم إفترقنا وضربنا موعدا في الغد حيث إفتتاح المهرجان الدولي للمسرح الجامعي.
كان الإفتتاح حفل إجلال وتبجيل لثلاثة فاعلين ينتمون إلى رحاب الكلية المنظمة للمهرجان كطلبة ثم أساتذة، تفاعلوا مع الفعل المسرحي فرسخوا فيه ولا زالوا بصمات إستقت منها الأجيال اللاحقة شعاع إنطلاقها في مسارها الفني. فكرمهم المهرجان بأكاليل الإعتراف بمجهوداتهم التواصلة سواء في مجال المسرح الهاوي او الجامعي او التكويني او النشاط السينمائي. ميلود بوشايد، محمد فراح وقاسم العلوي العجلاوي.
قبل البداية
أثناء العشاء الأخير وقبل إنطلاق أشغال المهرجان الدولي للمسرح الجامعي، تعرفت على خمسة طلبة من فرقة مسرح برلين الطبيعي تقودهم إلى مشاركتهم الأولى في مهرجان الدار البيضاء، المخرجة والممثلة ريم مكاوي والتي سترشحها لجنة التحكيم برئاسة الممثل والمخرج المسرحي المغربي محمد شوبي وعضوية أستاذة المسرح الرومانية أنكا سيملار، الإعلامية المسرحية بشرى عمور، المخرج وأستاذ المسرح الإيطالي كلاوديو ماكليو والأستاذ الجامعي محمد بن زيدان، إلى ثلاثة جوائز،السينوغافيا، النص، التشخيص وفازت بجائزة الإخراج عن مسرحية “أسطورة”، التي قدمت في المركز الثقافي مولاي رشيد، وتناولت حالة إنسانية أقرب إلى العبث منها إلى الواقع. في سنة 2023 تتهم إمرأة بالسحر فيحرمها هذا الإتهام من الحصول على تأشرة الدخول إلى بلد أوروبي. لقد قدمت الطالبة في مدرسة برلين للتمثيل ريم مكاوي من أصول مغربية عرضا، كتبت نصه وشاركت في تشخيصة إلى جانب ممثل وممثلتين، دقيقا في توزيع الحركة والأضواء، من خلال سيناريو يعتمد على خلاء الفضاء. فعملت على ملِئ فراغ الركح من خلال تأثيته بحضور الممثلين الفاعل القوي. هكذا إعتمدت ريم مكاوي فيما وظفته من مراجع الأدبية والتقنية في إسطورتها، على الموروث الثقافي المغربي من حيث إدخال رموز نسائية في الثرات الشفوي، عايشة قنديشة، والتاريخي، الداهية او الامادي رقصة الركادة وموسيقى كناوة. ” إن العمل المسرحي هو فعل إبداعي، ليس بالضرورة أن يكون باهضة التكلفة. إنما هو قناعات ذاتية” قالت ريم مكاوي في حوار أثناء مناقشة عرضها ضمن حوار العروض في مقهى نصف الليل.
ما أن وضعت أمسية إفتتاح المهرجان الدولي للمسرح الجامعي اوزارها، حتى كان الفندق يعج بأعضاء الفرق المسرحية المشاركة في المهرجان من داخل المغرب و خارجه. مجموعة من المانيا وفرقتان من إيطاليا. الأكاديمية المسرحية لمدينة روما، التي قدمت عرضها المسرحي Apnea وهو الجزء الأخير من ثلاثية المخرج والكاتب المسرحي فابيو أوموداي، عرض يعتمد على حركة أداء الممثلين الجماعية وتقنية الإنارة السوداء ومؤثرات سينوغرافية، تتراوح بين الضوء و العتمة، وخلاء الركح الذي يصبح فضاء المكونات الثابثة للضوء و الظلام. فاز هذا العمل بجائزة كوريغرافيا.“أبنيا“ دراما النهاية البشرية، إثنا عشر من البشر هم الباقون فوق سطح البسيطة، فقدوا مفهوم الحب وبذلك يتفجر بينهم الصراع مع أن هدفهم جميعا واحد، هو البقاء وإعمار الأرض من جديد. الفرقة الإيطالية الثانية هي مسرح صوفيا أمندولا. الذي قدم أعضائه مسرحية „أمطار ناعمة“ كتبها وأخرجها باولو اليساندري. هي الأخرى قصة نهاية الوجود البشري فوق الأرض،عالم ضوء LED وأنوار الهواتف الذكية و مكبرات الصوت. عناصر مسرحية تنبئ بكارثة الإنقطاع الإنساني عن التواصل والإنغماس في العالم الإكتروني من أجل الوصول إلى الإكتفاء الذاتي التام و التزود الشخصي بالضوء والموسيقى من المحيط مباشرة عن طريق الهاتف دون اللجوء إلى الإمكانيات الخارجية. عمل فاز بجائزة السينوغرافيا.
تجتذب العين تلك النساء والرجال وهم يتبخترون وسط بهو الفندق أو خلال فضاءات العروض في لباسهم البراق الشرقي القصي. القادمون من بلد إسلامي بعيد بنكلادش ليقدموا عملهم المسرحي (لم يحن الوقت للفرار). تركيب من أربع لوحات تتحدث عن الإغتصاب وعن التمسك بالسلطة بأسلوب هزلي يعتمد أحيانا على تقنية التشخيص الصامت „ميم“ و محاكات حركات شرلي شيلين. كمشاركة أولى لفرقة من بنكلاديش، يفتقد الإنسان في هذا العمل، ما له علاقة بهوية هذا البلد البعيد جدا عن المغرب. لقد قدم البنكلاديشيون نفحة من ثقافتهم خارج العرض لا في العرض المسرحي.
الحضور المغربي
مثلثه في التنافس على جوائز المهرجان خمس مسرحيات مقابل مثيلاتها الخارجية. مسرحية (ماذا بعد؟) لكلية اللغات والفنون والعلوم الإنسانية السطات، التي حازت على جائزة لجنة التحكيم. موضوعها اللإغتصاب، الذي يمارس على الإنسانية باشكال متعددة، و الذي تقدمه المسرحية من خلال خمس لوحات. مسرحية (زمن الصفر) لكلية الآداب والعلوم الانسانية بنمسيك تتحدث عن معانات كاتب مناضل توجه إليه تهم الإخلال بالنظام العام، لكنه يقاوم هذا الخناق، الذي زج به فيه، فينبعث من جديد بحيوية تبشر بالأمل ودحض براثين الحضار. مسرحية فازت بجائزة أحسن ممثل مناصفة مع مسرحية (جفاف الجلد المصبوغ) كأفضل عرض مسرحي لكلية العلوم بن مسيك بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء. تناولت مسرحية (جفاف الجلد المصبوغ) موضوع زوجين مصابين بمرض المعانات من أشعة الشمس وضوء النهار (أطفال القمر) والإقصاء الذي يواجهانه في المجتمع. إنها قضية تحدي الموت والتشبت بالحياة. فاحدهما يفضل الانتظار والآخر يقرر تحدي الموت والخروج من سجن الظلام. العمل المغربي الرابع هو (خط أسود) التي فازت بجائزة النص المسرحي، موضوعه إنتظار المخلص من الموانع و التعترات، التي تحول دون المضي قدما في الحياة. أما مسرحية (شموخ) فقد انطلق مضمونها من أسماء عالية في تاريخ النضال المغربي من أجل التحرر من قبضة الإستعمارين الفرنسي و الاسباني باسلوب ساخر، أسقط العمل في هوة الإبتدال والكليشهات وسينوغرافيا فارغة المحتوى.
الى سنة أخرى
مثل رحلة مغامرة فوق سفينة تمخر عباب التحديات، الحب و الاكراهات وتعد بلقاء متجدد، ودع المهرجان الدولي للمسرح الجامعي FITUC في حفل الختام ضيوفه، جمهوره وعشاقه إلى جانب كلمات الجهات المنظمة والداعمة، فلم وثائقي عن فعاليات المهرجان، الإعلان عن الجوائز وتقديمها، بأربع لوحات مسرحية قصيرة، كتمرات للورش المسرحية التي عرفتها أقسام كلية الأداب و العلوم الانسانية، و التي شارك فيها، مهتمون بالفعل المسرحي من الوطن وخارجه و التي أطرها كل من الكاتبة و المخرجة سرين الأشقر من فرنسا، المخرج الإيطالي كلاوديو دو ماكليو وادريس الجاي من المانيا اضافة الى إعادة لوحة مسرحية المخرج الإيطالي فابيوأوموداي APNEA . هكذا تمضي دورة أخرى من دورات هذه التضاهرة المسرحية الدولية، حاملة معها رسائل التأخي، والتلاحم الفني تطوف فضاءات و ركح مسرحية خارجية و داخلية، تبشر بميلاد فجر الدورة 36 بنفس جديد وميلاد واعد وتحديات متجددة.