كان الفضل الاكبر والابرز للثالوث الاغريقي في وضع الاسس والملامح والقواعد الاساسية للمسرح الاغريقي، حيث كان دور العباقرة اسخيلوس، وسوفوكلس، ويوبيدس، دورا كبيرا في البدايات الحقيقية للمسرح الاغريقي، ولا يمكن لاحد نسيانه او تجاهله وما اتى بعد ذلك من كُتاب ومخرجين حاولوا من خلال تجاربهم تطوير هذا البناء الرائع العظيم، وكان التنافس بأفكارهم وطروحاتهم التي تخص المجتمع وما يدور من اوضاع سياسية متقلبة.
وما ان جاء القرن السابع عشر حتى أدخل المسرح من قبل المخرجين الباحثين عن التجدد والتطوير، الى القاعات التي صممت من اجله، وبدأت العروض المسرحية تقدم في قاعات مغلقة، هيأت لها المستلزمات التي كانت كفيلة بتقديم عروض ناجحة، وكانت هذه الانتقالة في حينها ثورة كبيرة وانتقاله عظيمة من اجل مسرح حي ومتطور، وقد اشاد الجميع بهذه الخطوة الجبارة، وبدا التنافس من جديد، بإضافة تقنيات للمسرح جديد واستغلالها وتطويرها من قبل مخرجين اخرين، وقد ابهروا الجمهور فيما قدموا.
كبرت الطموحات وتحركت الافكار، وبدأ السعي وراء التجديد كبيرا، في القرن العشرين، حيث الجمهور الذي يحتاج الى مادة وفعاليات بمستوى وعيه وبمستوى طموحه، جمهور مثقف عارف بأمور الحيات، لقد تعلم هذا الجمهور بعد ان كثرت المطابع وكثرت الكتب وعناوينها، واصبح لزاما على الكتاب والمخرجين ان يقدموا اعمالا تليق بهذا الجمهور العارف المدرك للحياة، فراح المخرجون يبحثون عما يحفز عقولهم، ويحرك مشاعرهم، فكان المسرح الشرقي امام عيون المخرجين الباحثين عن الجديد، فكانت هناك رحلات باتجاه الهند، والصين، واليابان من اجل التعرف على كل ما هو جديد ومختلف في مسارحهم عن قرب، وعادو محملين بأفكار تناسب مسارحهم في اوربا، لقد اغراهم كل ما قدم في تلك المسارح، من تقنيات الكتابة والاخراج والتمثيل، وعاد التنافس المحموم من جديد بين الكتاب والمخرجين والباحثين، وكان الشغل الشاغل للجميع هذه المرة هو تثوير المسرح، تثويرا عقلانياً، من اجل تغيير قواعده، وكان تركيزهم جميعا على الجمهور، ماذا يقدمون له؟ وكيف؟ واين؟، وبدأت التجارب على خشبة المسرح، فمنهم من خرج خارج العلبة المسرحية واخذ من المقاهي والشوارع والاماكن العامة مكانا لتقديم عروضه المسرحية، ومنهم من اقتصد في العرض واعتمد على الممثل في ارسال ما يمكن ارساله من مبثوثاته التي ثبتها للعرض، ومنهم من جعل خشبة المسرح بين الجمهور وجعله مشاركا فاعلا معه في العرض، بعلمه او بدون علمه، كان هذا الجمهور فعالا مع الممثلين، ومنهم من الغى الكواليس وجعل الممثل يقوم بكل تغييراته على الخشبة وامام الجمهور، وكل هؤلاء المسرحين لم يطالبوا في تغيير العالم، بل كان همهم تغيير الفرد، الانسان، بل جزء من الجمهور، لانهم لو كانوا قد طالبوا بتغيير العالم، لأوقفوا الحروب العشوائية المدمرة، والتي اكلت كل ما موجود امامها، ولتمكنوا من تقليل الجهل او التسول، او الهجرة، او الانتحار لتمكنوا من وضع حد للمتشردين، ولتمكنوا من ومن ومن….. الخ.
نعم المسرح يُعلم ويطور، وكان هذا هدفه من بداية تكوينه، كان هم جميع العاملين فيه، هو الفائدة والرفاهية، وتمكنوا من ذلك بالفعل، فكان المسرح حياة للكثيرين، وكان المسرح للبعض قاعة درس، وكان للبعض الاخر مكان يجد فيه نفسه من خلال ما يطرح امامه، انهم يقولون ما يريد قوله، انهم يحسون به ويتكلمون نيابة عنه، نعم انه المسرح الذي شغل الكثير من المبدعين، لذلك خرجوا لنا بعد عدة تجارب بنظريات ومدارس تخدم الجمهور تسلية وتعلمه، فكان من بين الطروحات والتجارب الجديدة، ولادة مسرح كان دافع الحربين العالميتين السبب الاكبر في انبثاقه، لإحساس الجمهور بعدمية الحياة،- فكانوا يرددون ما فائدة الحياة اذا كنا نولد لكي نموت في الحروب-، انه مسرح العبث الذي كان الناقد الانكليزي ( مارتن أسلن ) هو أول من أطلق هذاالمصطلح ( العبث ) عام 1962, عندما جمع كتابات (بكت, يونسكو, ينتر,جان جنيه) في كتاب اسماه مسرح العبث، بعد إن وجد في هذه الكتابات شيئا مختلفا تماما عما هو سائد من كتابات آنذاك، الكتابات الجديدة التي رفضت طهرانية الحياة, سارت لإبراز (الجدوى) التي يعيش فيها الإنسان من خلال عبثيه اليومي والعام, وقبل تلك الكتابات كان الكاتب الفرنسي ( ألبير كامو) قد استعمل كلمه ( العبث) في كتاب أسطورة سيزيف .
وعلمنا جميعا بأن ارتباط العبث في القرن العشرين بحوادث تاريخيه كوارثيه ودموية متمثلة في الحربين العالميتين، فأدب العبث في غياب الترابط المنطقي بين أجزاء العمل وانقلاب الزمان والمكان, ورفض مظاهر الإرث الكلاسيكي في الكتابة ما يؤدي إلى اضطراب المعنى, والعمل فيه ينح منحى الغرابة وعدم العقلانية, وهذا يبدو منطقيا.
يقول الأستاذ (ليونارد كابل برونكو) في تحديده لأركان الوجود يقول (العبث غير المعقول هو نسيج حياة الإنسان، فالمرء في لحظات نزاهته وصفاء ذهنه يدرك حياته ليس لها غرض مطلق وإنما عليه إن يعيش وكأنه في خواء، والعدم له بالمرصاد يهدده).
وكانت من التجارب العالمية لمسرح العبث هي التجربة التي تصدى لها المخرج العالمي (هربت بلوH BLAU ) في مسرحية (في انتظار جود) لمؤلفها صومؤيل بكيت سنة 1960، , على مسرح بروكسل, لقد تحدثت المسرحية إلى الأشخاص الأذكياء والحساسين من أبناء جيل ما بين الحربين, على كل من جانب الأطلنطي، وقد وصفت المسرحية بأنها واحده من أكثر المسرحيات آنذاك أثاره …. أثاره الأمل المخدوع والمؤجل ولكنه الأمل الذي لا يخمد أبدا ، مسرحيه مشبعة بالعطف على جماع مأزق الإنسانية وحيرتها ….. فما صنع استجابة معينه إلى الوضع النفسي للشك الليبرالي, وهو الوضع النفسي السائد في أوربا الغربية الحديثة .
وقد تصدى الطيب الصديقي لمسرح العبث، بعد تجربته في المسرح العمالي وامتلاكه هويته المسرحية كصانع جمال ماهر ومتمكن, ومؤثر في حركه المسرح المغربي التي بدأت تتلمس خطوات وجودها الفعلية بعد الاستقلال 1956، وبعد الاستقلال بعام عاد إلى بلده, بعد إن انهي تكوينه المسرحي.
اخذ الصديقي الفكرة الفلسفية للنص الأصلي لمسرحيه (في انتظار كودو), وأسقطها على الواقع المغربي بمهارة كبيره لان الوضع متشابه, كون المغرب في ذلك الوقت يعاني من تداعيات الاستعمار الفرنسي, البس العرض لباسا مغربيا ابتداء من الشخصيات وانتهاء بلغه العرض التي كانت اللهجة المغربية الدارجة, وقد اقتربت كثيرا من لغة (بكيت) الفوتوغرافية المقتضبة, وهذا يكون أول حضور لمسرح العبث في المسرح المغربي .
بعد تجربته في انتظار كودو عاد ليؤكد رسوخ تيار مسرح العبث في تجربته المسرحية فأقدم لإخراج مسرحيه يونسكو (أمديه أو كيف نتخلص منه) والتي نجد في حكايتها بعدا حقيقيا عن المجتمع المغربي, وعن مشاكله وهمومه اليومية، وهي حكاية زوج وزوجته لم يغادرا منزلهم منذ خمسة عشر عاما, يحصلون على طعامهم من خلال النافذة .
الصديقي لجأ لاقتباس معظم أفكار المسرحية وأضاف عليها الجو الكوميدي, من اجل تبسيطها للمتفرج المغربي, وأيضا لكونها مسرحيه ثقيلة بحكايتها وفكرتها, لكنه حافظ على فكرتها الفلسفية .
وفي العراق أعجب الأستاذ الكبير سامي عبد الحميد بكتابات جان جنيه, وقام بإخراج مسرحيته (السود) عام 1982، وعلى العكس من إرشادات المؤلف وضع العمل في مسرح دائري في صالة صغيره, ووضع شخصيات الزنوج تتحرك داخل الحلبة, بينما تحيط بهم وتحاصرهم شخصيات البيض حول المحيط, يتحركون دائريا, يستغرقون في رحلتهم, وكان الجمهور يحيط بالشخوص جميعا, وهو ما حاول إدخاله في الطقس من اللحظات الأولى للعرض وحتى النهاية, وحاول إخضاع النص لمتطلبات التجريب, ورغم تماسك الحبكة فقد وجد إن هناك تفاصيل يمكن الاستغناء عنها للإبقاء على التوتر والإيقاع المشدود.
هل توقف التجريب؟ كلا، لم يتوقف مطلقاً، مازال هناك جمهور يدفع باتجاه الثقافة وتطوير العقل، مازال هناك جمهور يبحث عن المتعة والاثارة، مازال هناك جمهور يحب ان يتعلم، ولأنه الاساس في المسرح، ولان المسرح لا وجود له بدون جمهور، اذن سيدفع كل العاملين فيه الى التجريب، وتطوير ما موجود من تقنيات، في مجان الكتابة والاخراج والتمثيل، واخل عليها فيما بعد تقنيات العرض المسرحي، من ديكور وازياء واكسسوارات، ومكياج، وقد كان البعض يجرب في ادخال التقنيات الرقمية في العرض المسرحي، وقد ادخلت بالفعل، وبدأ الاشتغال عليها، واصبح الان لزاما على هؤلاء ان يطوروا ما بدأوه، وان تكون للتقنية الرقمية دورا كبيرا في فاعلية العرض المسرحي، وان تستغل استغلال كاملا في الديكور والاضاءة، فهي ستعطي العرض بعدا ذهنيا كبيران حيث تزيد من متعة وانبهار الجمهور الذي دخل القاعة وكانت واحدة من المهام التي قادته ان يرى عرضا مسرحيا يبقى راسخا في الذاكرة، عرضا يشغل تفكيره واحساسه ومشاعرة، ويجعله يتحدث عنه مع نفسه قبل الاخرين.
المصادر
- د عليالراعي، المسرح في الوطن العربي، عالم المعرفة, الطبعة الثانية, تقديم: فاروق عبد القادر ، سلسله كتب ثقافيه شهريه يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، اب/1999
- احمدشرجي، المسرح العربي,من الاستعارة الى التقليد، مراجعه وتقديم :د تيسير الالوسي، الطبعة الاولى 2012
- يوسف عبد المسيح ثروت، مسرح الامعقول, وقضايا أخرى، بيروت، شباط 1975
- جونجاستر، المسرح في مفترق الطرق، ترجمه :سامي خشبه
- د سامي عبد الحميد، تجربتي في المسرح،دار الشؤن الثقافية العامة، بغداد2،،8