بدأ برتولد برشت ومذ أن فكر بتغييرٍ في المسرح، مستندا بأفكاره على نظريات بسكاتور، وما اقتبسه من المسرح الشرقي، يطور شكله الخاص من المسرح الملحمي, لأنه يعتبر الدراما شكلا من علم الاجتماع العملي, وكان يهدف لتغيير المجتمع عن طريق أيدولوجياته للفحص الدقيق المتأني، لذلك اعتنى كثيرا في المتفرج وما يقدم له، ليس في مجال الكتابة فقط بل في مجال (الواسطة/المرسل)، واقصد هنا ركز على من يقوم بنقل افكاره، وإيصالها بطريقة لا اقول مختلفة عن الجميع ولكن حسب ما يراها هو تختلف عما قدم في فترة من الفترات التي مر بها المسرح، لان المسرح ومنذ نشأته لم يتوقف عند حد ما، بل كان يسير وبسرعة من اجل التقدم والنماء.
كما حاول ومن خلال تجاربه المستمرة تبديل مشاعر الجمهور, حيث كان يهدف إلى أثاره رد فعل بدل تشجيع لون الإذعان السلبي الموجود في المسارح البرجوازية القديمة حسب اعتقاده , وكان يعمد دائما إلى أعاده كتابه المسرحية ,إثناء العرض, وهذا يؤكد ان برشت الذي كثف جهوده التجريبية من اجل جمهوره الذي يحاول تغييرة،ان يتابعه اثناء العرض وبعده ليرى ردود افعاله، ويرى ماذا فعل العرض من تغيير عليه، لا اقصد على تفكيره وعقليته، ولكن ما هي ردود الافعال اتجاه ما قُدم له، من افكار على خشبة المسرح، هل كانت ردوده سلبية ام ايجابية، من خلال المناقشات والطروحات التي تتم بين الجمهور انفسهم، وهنا يعرف ان الجمهور كان يتابع العرض ويتابع الرسائل المطروحة على خشبة المسرح، ومن الممكن عن طريق مناقشته شخصيا في ما قدم، وعن الابعاد الفكرية التي اراد تقديمها، يعطي وجهة نظره ويفسر ويحلل ما عرض امامه وهذا ما يطمح له برشت من تقديم العرض، ويطمح ايضاً ان يرى الجمهور يناقش العروض لا ان يكن مستمعا لها، وهذا يدفعنا للقول ان برشت يريد جمهورا مثقفا، لان الانسان البسيط لا يمكنه ان يقوم بدور المفسر والمحلل، ما لم تكن لديه ثقافة بقدر ما تمكنه من فهم الافكار التي طرحت امامه، إن تكنيك برشت هو (إصلاحي) ومسرحياته التي كان يصفها دائما بأنها (تجارب ) أو (محاولات) هي من كل إعمال المسرح التجريبي, هو يريد شكلا من إشكال المسرح لا ينسى المتفرجين فيه أبدا أنهم في صالة مسرح يشهدون إعادة تمثيل الماضي.
ففي ليله افتتاح عرض (طبول في الليل), عام 1921، حاول إن يجعل الجمهور الذي جاء إلى المسرح, جمهورا مشروطا، يتبنى اتجاهات مثاليه لا علاقة له بالحياة الواقعة, فكانت الصالة مغطاة بالإعلانات, وكان ثمة قمر صناعي يتوهج في كل مره يدخل فيها ( البطل) إلى المسرح، اذن لو امعنا النظر في كلمة برشت(مشروطا) لفهمنا انه يريد جمهورا خاصان جمهورا يحمل من العقل، والتفكير، والوعي ما يمكنه فك شفرات العرض المسرحي الذي يضمّنه برشت الغازا ومعان يقصد من ورائها ان يُغير مسيرة ما، او ايديولوجية ما، في مجتمع يريد منه ان يتغير، او ان يكون فاعلا، اذن يجب ان يكون هذا الجمهور مدركا وواعيا وعارفا، وليس جمهورا جامدا يأتي يقضي وقتا لكي يستمتع.
لذلك كان مسرحه التعليمي، وهو مسرح واسع لا يرتبط بنوع مسرحي محدد، فهو يشمل كل مسرحيه لها بعد توجيهي أو تربوي، من اجل صناعة جمهور واع ومثقف يعرف الحياة الواقعية بكل ما موجود فيها من تفاصيل، ويعرف الحياة على خشبة المسرح وما يقدم بها من تفاصيل هي الاخرى.
وكذلك المسرح اليوناني القديم اخذ بعدا تعليميا، لأنه كان يهدف إلى تربيه المواطن الصالح في المدينة الوليدة في القرن الخامس قبل الميلاد, والمسرح الأوربي في القرون الوسطى وعلى الأخص المسرح الديني ولد من الرغبة في تثبيت ونشر تعاليم الدين المسيحي من خلال عرض المفاهيم الأخلاقية المجردة عبر الشخصيات المجازية, أو من خلال الامثولة , ومسرح الطفل، ومسرح المدرسة، كان عموما مسرحا تعليميا .
اما في القرن الثامن عشر فقد استمر التوجه نحو التأكيد على البعد التعليمي للمسرح وهذا ما يظهر بشكل واضح في كتابات الفرنسي (ديتي ديدرو) الذي اعتبر إن دور المسرح هو بث الفضيلة، واعتبارا من القرن التاسع عشر اخذ البعد التعليمي في المسرح توجها جديدا تجلى في الاهتمام بالقضايا الاجتماعية والسياسية, ولكن الهدف التعليمي كان يطغى أحيانا على القيمة الفنية للعمل .
لقد أطلق برشت تسميه المسرحيات التعليمية على نوع محدد من المسرحيات التي كتبها بين (1929و1934) وأهمها مسرحيتا (القاعدة والاستثناء) و (القرار)، وقد حاول إن يذهب بالمسرح إلى الجمهور في أماكن تواجده كما اعتمد على مشاركه المتفرجين في صياغة الشكل النهائي للمسرحية, وهذا ما نجده في مسرحيه (الذي يقول نعم, الذي يقول لا) حيث يطلب من الجمهور إن يقترح الخاتمة، وبهذه الطريقة اعطى دروسا لجمهور كان يريد ان يهيئه للمسرح الملحمي، والذي يريده ان يكون جمهورا متعلما، واعيا يعرف ماذا يقدم امامه من مواضيع مرمزة، ويتمكن من حل شفراتها، لا ان يأتي للرفاهية والترفيه.
وقد استخدم برشت العناصر الملحمية بقصد التعليم والدعاية في المسرحيات التعليمية والسياسية التي كتبها ومنها (الذي يقول لا الذي يقول نعم) و(الاستثناء والقاعدة) ، ويرى إن نظرية المسرح الملحمي تتعلق بأداء الممثل وتكنيك خشبة المسرح والنص المسرحي والموسيقى المسرحية واستخدام السينما وغيرها من المسائل التعليمية على خشبة المسرح، وكل هذا بدافع التجريب من اجل ولادة نظرية جديدة او فعل جديد يخدم به الثقافة عموما والمسرح الذي نذر نفسه له، والذي حاول من خلاله ان يغير ما يمكن تغيره.
في المسرح العربي والذي تزامن دخوله مع مرحله النهضة العربية,أكد الرواد على الجانب التعليمي في المسرح واعتبروا إن هذا البعد فيه يساعد على الرقي والتطور وعلى تهذيب الطباع, وهذا ما أكد عليه مارون النقاش (1817-1855) في الكلمة التي ألقاها في افتتاح مسرحه في بيروت,مسرحية (البخيل) وتبعه في ذلك من تلاه من الرواد .
فكان لكتابات الفريد فرج مثلا في مصر الوقع الطيب في التعامل مع التراث من حيث طرح الموضوعات المتعلقة براهن الأوضاع العربية, وكان لسعد الله ونوس في سوريا التناول الفكري المبتكر لتلك الأوضاع العربية الصعبة سياسيا واجتماعيا, وكان الطيب الصديقي في المغرب الجرأة في تحويل المنظور البرشتي وتطويعه إلى خدمه الأدب والتراث العربي من خلال شخوص بديع الزمان، وعبد الرحمن المجدون، والمعري وغيرهم, ولا يذكر المسرح الاحتفالي إلا بذكر قاسم محمد في العراق في تجاربه الخاصة التي أسست لنظريه (المسرح الاحتفالي) كما في (بغداد الأزل بين الجد والهزل) .
ويعد (إبراهيم جلال) من المخرجين التجريبيين الذين لم يلتزمون كثيرا بنص المؤلف, فعمل على إعداد النص وتفسيره وتركيب بنائه الدرامي, ليتناسب والروح الملحمية التي تأثر بها من خلال دراسته المستفيضة لمسرح برشت الملحمي، فكانت معالجته للممثل في مسرحية (البيك والسائق)، تبدأ من كسب ثقته وخلق الالفة بينهما, بعد ذلك يبدأ بمعالجته مع الدور, وهو هنا لا يضع حدا فاصلا بين عمليه إعداد الممثل لنفسه وإعداد الممثل لدوره, فلكلتا العمليتين تسيران جنبا إلى جنب, فيقول: “إن معالجتي للممثل تنصب في مراقبتي له في فعله العضلي والصوتي, إنني لا ادع الممثل ينتقل من حاله إلى أخرى دون إن يكون قد نضج في الحالة الأولى, هذه الخطوة إصر في العمل على تثبيتها، ومعاناتي تكمن في صعوبة تكييف الممثل لهذا المفهوم، لذلك فأنني أبدا معه وكأنه تلميذ”.
واستخدم جلال (السايك) الخلفي لأداء حركات بعض الممثلين, فمن ورائه نشاهد حركاتهم, وكأننا في مسرح خيال الظل بدلا من إن نشاهدهم مباشرة، كما نجده قد ابقي مجاميع الممثلين التي تعمل على تغيير المناظر المسرحية على جانبي المسرح كمستمعين ومشاركين, وإظهارهم إمام الجمهور وان لم يأت دورهم بعد, وجعل شخصية (الطاهي) تظهر بين فتره وأخرى للتعليق على الإحداث, واستغنى عن كثير من الإكسسوارات, واعتبر الممثل هو العنصر الأساسي في ملئ الفراغ وخلق التكوين, وابتعد عن استخدام الكتل الضخمة في المنظر المسرحي, واعتمد أسلوب التحول الدلالي في المنظر المسرحي، كل هذه التجارب من اجل اظهار ما هو جديد من افكار ورأى تخدم الحركة المسرحية، وتبين ان المسرح بدون هذه التجارب لا يمكن ان يتطورن ويخدم المجتمع.
إما الذي فعله عز الدين المدني– تونس– في مسرحية (ثوره صاحب الحمار) ومسرحياته الأخرى, هو في أساسه ما يفعله كل كاتب مسرحي, ففي المشهد الذي يجري بعد هزيمة ثوره صاحب الحمار, يعتمد المدني مبدأ التمثيل على المكشوف, ثم ينهي المدني مسرحيته بلافته مكتوب عليها : يتبع …. سنه ؟؟؟؟؟ . وفي مسرحيه (الحلاج) يجد المدني إن شخصيه الحلاج مركبه, فيحللها إلى ثلاث شخصيات، لقد تمعن المدني في تجارب برشت, ثم فحص كتب التراث وكتب علم النفس, وراقب الناس كيف يضطربون في الحياة ويمشون في الأسواق,ثم خرج من هذا كله برؤيا للشخصية المسرحية, واختار نهجاً في عرض الشخصية هو اقرب إلى فن برتولد برشت.
وبهذا يكون للتجارب المسرحية التي يقوم بها المخرجون الفضل في تقّدم تقنيات العرض المسرحي وتقنيات التأليف، فعند قراءتنا للنصوص المسرحية الحديثة نجد الكثير من المتغيرات الواعية، على مستوى تقنية الكتابة، او تقنية البناء الدرامي، او تقنية الشفرات، فأصبحت تقدم بأسلوب، يحتاج المؤلف من خلالها الى جمهور مراقب واعي ومثقف، وكذلك الاخراج بدأ يبحث من خلال تجاربه الى اساليب عديده من اجل رضا الوعي الذي تمتع به هذا الجمهور، من خلال متابعته لعروض مسرحية متعددة الافكار والرؤى.
المصادر
1/ حسين مصطفى، قاسم محمد، سيد المسرح، اصدارات دائرة الثقافة والاعلام حكومة الشارقة .
2/ د احمد سلمان عطيه، الاتجاهات الإخراجية الحديثة, وعلاقتها بالمنظر المسرحي، مؤسسة دار الصادق الثقافية .
3/ د علي الراعي، المسرح في الوطن العربي، عالم المعرفة, الطبعة الثانية, تقديم: فاروق عبد القادر ، سلسله كتب ثقافيه شهريه يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، اب/1999
4/ احمد شرجي، المسرح العربي, من الاستعارة الى التقليد، مراجعه وتقديم :د تيسير الالوسي، الطبعة الاولى 2،12