ضمن المهرجان المسرحي – دورة الفنان شفاء العمري –كلية الفنون الجميلة –جامعة الموصل – اخراج : د. بشار عبد الغني
يعد العرض المسرحي “خريف الماعز” حاملا لتمثلات الاسرة الواحدة كجزء من المجتمع ومكملا له في اغلب المجتمعات ويكون عمادا لكل اسرة هما الاب والام ، ويمكن ان تكون على سياق خطين وينعكس من هذين الخطين، خط واحد ام الفضيلة او الرذيلة، وبالتالي تصبح السمة التي تطغى على الاسرة وعلى الاولاد، فمرة تفعلها الظروف ومرة اخرى بفعل فاعل وهذا الفاعل هو اما الام او الاب.
اذ تنطلق فكرة مسرحية “خريف الماعز” ان هناك بيتا يضم اما وبنتين يتركهما الاب ويصبحن لقمة سائغة لكل من هب ودب، وتعاني الام التي تحرص على الحفاظ على عفتها وشرفها وعدم انتهاك بكارة ابنتيها وضياع شرفهن على طريق الرذيلة. ولكن ليس عن طريق التقبل والرضا وعن قناعة، وانما من خلال انسياق الحال وانكبابه نحو الضياع الذي طالما ناضلت من اجله، الا ان محاذير الحياة وتوالي الشياطين التي تمثلت برجل غريب يستغل غياب الاب ليشبع رغباته الجنسية عبر غواياته ليستغل امرأة ليس لها معين يفضحها جمالها وجمال ابنتيها الشابتين وهي تضمر رغبة مكبوتة جراء افتقادها لحظن دافيء يضيء لها الليل الذي يوعز بالالم ، وهذه الحال بدوامة مع الزمن للقاء حميم لا يقع تمقته الام بصبرها وحرصها وان كان في مواطن الضعف وغواية الرجل الغريب خارج الاطار الشرعي، افتضاح يسلم اليه من قبل اي امرأة مهما كانت قوتها وامكاناتها وموقعها وشأنها ،فهي بعد الهجر احر من الجمر وحينما يطبق الليل ستاره يصبحن سواسيه، فتستعين بصور الماضي والليالي الدافئة في حضن الجليد القاسي، وهذه الرغبة التي تتحول الى عدوانية تعكسه على من حولها، بنتيها الوحيدتين وقد تصل الى مرحلة الغيرة القاتلة، لكن هذه الغيرة وهذه المأساة الجندرية المصورة في النسوة تنقلب في نهاية المشهد الى انتقام وخلاص بإعدام المتسبب والمتعدي الغاوي الذي اقترب في بعض الاوقات من القلب والقريب الذي يشتكى له، فيموت على يد هذه المراة لتحيا انوثتها وتحفظ رغبتها داخل اسوار الكبت وتبقى رهن من تحب وتريد هي فقط لا غير.
اما عن الاخراج المسرحي للعرض . اذ كانت قصدية الرؤية التشكيلية البصرية بحتة هي اطار لغوي مفتعل يطرح العفة ويحافظ عليها بالخمار الابيض فيما تهوي في مشاهد اخر تنزلق بعضهن باقتناص البكارة باللون الاحمر القاني الذي شاع وصور الفضاء باكمله في اغلب الاوقات، وفي نهاية كل مشهد تقريبا في تزاحم انثوي توسم به المكان. فثلاثة نساء على محك الرغبة وعلى رأسهن الام وهكذا دواليك تصل احداهن نحو الهاوية وتقع في مصيدة الرجل الغريب وتنقذها الاخرى من خطر المحذور. فهي حكاية صورية بصرية سيميائية لبيت مهلهل يحيطه ستار غير مستور وسقف متهرئ بات عرضة للاختراق وقرينته الرغبة الجنسية المتوحشة امام القادم من الخارج، فقد اسست الصور اللونية المكثفة لبداية ونهاية وجسدت الذروة باختزالات علاماتية ودلالات مختزلة باستعارات معنى الخريف الذي يملأ المكان سحرا باوراق الاشجار الصفراء المتساقطة في ذهنية ا المتلقي فيما الواقع يوحي بشحوبة وجوه امرأة مالت للضياع بمخاطر اللون الاحمر والاصوات الموسيقية التي تعبر عن ظلمة النفس والاغتراب والعزلة والرغبة المقترنة بالضياع .
اذ اخذ المنظر جانبا في تشكيل البصري عبر التكوينات الصورية التي فسرت رؤية المخرج في عرض مسرحية “خريف الماعز” متنوعا ضم العناصر المسرحية التي تؤدي وظائف جمالية وتعكس الابهار بذات التشكيلات اللونية والاوركسترا الضوئية المتغيرة في اللحظات الانية للفعل لاسيما النفسي والتحول الداخلي في مخالفات متنوعة تسمو على التغيرات والاستعارات الدلالية في المتغير الاني ضمن اطار للتشكيل المشهدي المرمز مع تنسيق وتزامن الزي ومدلولاته لدى المجموعة ومنها بيان العذرية حسب الميول والتحول النفسي المبني على فعل الرغبة والتهاب الشهوة ، فضلا عن عنصر الاضاءة المتزامنة والمتناغمة مع الحدث ومنحنيات الافعال التي تجلت مقدماتها وبواطنها لدى الشخصيات على الشاشة المنعكسة على الجدار الابيض في خلفية المسرح، كما كان لمجموعة من الشبابيك الخشبية التي علقت على سقف المسرح كدلالة على الانكشاف والاختراق اثر غياب رب الاسرة ، فضلا عن قطعة واحدة من الاثاث وظفت نحو اشتغالات متعددة فمرة السرير الذي يفضح رغبة كل انثى في البيت ومرة لمواجهات داخلية نفسية بين الرجل والمراة، وهناك شباك جانبي للانفتاح على الشارع اذ يتحدث من خلاله افراد الاسرة الى من في الخارج ويرون عبره الطارق والعابر والقادم، وهكذا بدى الفضاء المسرحي كله بيتا لأسرة تتمثل بثلاثة نساء لا يمكن يملكن فيه الا الانوثة والرغبة المكبوتة والمشاعر الدفينة التي ايقض بعضها الرجل الغريب.
وللأداء التمثيلي اشتغالات مهمة، فقد كانت الحركات الدلالية والاشارات ذات المعاني القصدية التي زخرت بالمشاعر الساخنة. اذ قدم الممثل (وسام بربر) دور الرجل الغريب المتحذلق الذي يتحين الفرص لغياب الاب واستغلال ذلك الغياب لتنفيذ مأربه الغريزية، فكان ذا رغبة قاتلة بالام والتي لعبت دورها الممثلة (تمارا نزار)، اذ قدمت دور الام اجتماعيا اي انها تقربت من الدور لشخصية المرأة المهجورة والمهمومة وقد تبنت الدور لاتطابقت معه. اذ تشبهت بقناع الام التي تحافظ على عفتها وتحمي ابنتيها تحت سطوة الشغف الداخلي للرجل الذي ابتعد عنها وبقيت رهينة فراق الهجر والحميمية ، فضلا عن خوفها المتصاعد ازاء ابنتيها الشابتين الحالمتين بالحب والمضطهدتين بفعل ضغط امهما ان لا ينزلقا وتضيع عذريتهن هباءا من قبل الغريب.
اذ كان (بربر) يعبر عن رغبته بالانقضاض على كل واحدة في البيت بمشهد يسرد فيه قصة عنوانها الاقناع بالحيلة، بينما هو امام الجمهور موسوم بالغواية وعبر بعض الضحات التي توحي بسلوكيات منحرفة واحكام مسبقة حول الجنس. اذ يتخذ اوضاع المتحذلق والمارق ويعطي غير ما يبطن بفعل تورياته اللفظية وايماءاته الشيطانية التي واجهتها الام بفطنة وقوة رغم مكامن الضعف لديها ، فيما وقعت ابنتها الكبرى بغياهب الرجل وانساقت نحوه، الا البنت الصغرى التي عاشت قصة حب عذري صادق ولم تقع في شرك الدنس.
منذ الوهلة الاولى من زمن العرض فقد وظف المخرج السينوغرافيا في كل مفاصل العرض، اذ اصبح الفضاء مشبعا بالضوء الذي كان حاضرا في كل زاوية معبرا عن انطباعات محددة قد اثارت الادهاش المحموم بالتساؤل حول المعاني الجمالية والفكرية، التي اشتغلت بشكل واسع سيما وان التعامل مع نص محوره موضوعة اجتماعية، الا انه لم يخلو من التأمل ويحفز على الامعان اكثر واكثر .
فقد اوسع المخرج بالامساك في اطراف فكرة النص متكفلا بما هو ساكن وما يتحرك حتى بدى الحس الفني والبعد الجمالي في البناء الرمزي المعمق والدلالات المكثفة التي لم تك من السهل ان تجذب المشاهد لو لا اشتغال التوظيف اللوني والصوتي على البعد الحسي واللعب المسرحي المنظم المنضبط على تضمين الفراغات بما يمليها فعلا فنيا واتصالا تفاعليا في شبكة العلاقات فيما بين العناصر المسرحية التي تسيدها تنبي الادوار التمثيلية واسنادها بالمنظومة البصرية اوركسترا الضوء والزي.
علاوة على تلك القماشات البيضاء الطويلة التي وظفت بمعاني عدة بدءا من اغمارها في الماء من قبل مجموعة البنات (6 ممثلات) اللواتي وضعن القطع القماشية البيضاء في اواني مليئة بالماء للدلالة على الطهر والعفة في مستهل العرض كإشارة لما سيحصل للنسوة وما يفعلنه بهذه القطع في تقييد الرجل الغريب وشنقه، وكأنها مصيدة بعد ان شتت وحدتهن واثار صراعا مخفيا بينهن في ايقاع متباين وفقا للرغبات المخفية في داخل كل من الام وابنتيها الحائرات والكابتات للمشاعر ، فان الحركات التي جسدت لوحة لدى المجموعة التي ضمت لتكمل مضمون القصة قد سمحت بإظهار الصراع النفسي الداخلي لكل شخصية. اذ تجسدت بجانب الافعال هناك ترميز للموسيقى والمؤثرات الصوتية كمنبه السيارة من خارج المنزل واصوات الرعد التي اضفت نوعا من السريالية في التفكر على الرغم من ان الواقعية كانت حاضرة. وان ثيمة العرض هي الدافع البشري المعروف فقد يقرأ كل امرئ عمقه الطبيعي ودوافعه واثارة عواطفه ورغباته التي تجاوزت حد المألوف عبر اي مشهد في عرض “خريف الماعز”.