قسم الناقد (رولان بارت) في تصنيف النص بوصفه جنساً له كينونته الخاصة باتجاهين، الأول اسماه ( الظاهر ) وهو المولد (بكسر اللام) ويعني السياقات اللفظية العامة في النص و الثاني الباطن ويعني المولد (بفتح اللام) ويعني ما يخرج من معاني ودلالات منها، ويؤكد (بارت) على أهمية المدلول فهو الذي سيبقي الأثر فاعلا من خلال اللغة، حيث ( تبدأ الكتابة التي أصبح بارت يسميها بالنصوصية، بناءً على اللغة هي التي تتكلم وليس المؤلف )(1)
لذلك فإن (بارت) يحاول أن يعطي للنص مساحة مميزة بوصفه يظم ( نسيج من الدلائل والعلامات التي تشكل العمل الأدبي ، مادام النص هو مايثمره)(2)، وعليه فإن المؤلف (علي العبادي) في نصه “دكة غسل الموتى” اقترب كثيراً إلى هذا المفهوم النصي الذي أكده (بارت) في قراءته للنص واستلاله الأثر المتحقق منه من خلال الانساق اللفظية التي يتميز بها المتن العام للنص، كعادته (العبادي) يستحضر الفكرة العامة لنصه ويدخلها في مختبر الدهشة والمغايرة، سعياً منه لكشف النظم العلاماتية في انساقه المتوالية القريبة من الهم العام لهذا الواقع الذي يتحرك بشكل عشوائي أو ربما منفلت في أكثر الأحيان، لذلك اختار في ظاهر رؤيته(دكة الموتى) بوصفها موروث شعبي وكما قال النواب: ” تتحرك دكة غسل الموتى .. أما أنتم فلا تهتز لكم قصبة “، هذا المكان الذي يعد بداية النهاية في هذا العالم فهو يفسر فلسفة الموت ذلك الذي اختلف في تفسيره فلاسفة الكون، حيث يقول (كانط): “ليس الموت إلا القناع الذي يخفي نشاطاً أكثر عمقاً، وإن ما يسميه قانون الموت هو المظهر المرئي لحياتي، وهذه الحياة هي الحياة الأخلاقية “، وعلى العموم فالموت رهبة ونتاج حتمي لكل ذلك النشاط المرئي المهووس بالحركة والتفاعل، شخصان في مكان غسل الموتى، تحديداً على الدكة الخاصة بالغسل يبدأن بالغسل في مشهد طقسوي مرعب وكأنهما شبحان يجسدان نهاية العذابات التي مر بها الإنسان طيلة فترة وجودة بهذه الحياة، وفي حوار يقترب إلى الهذيان واللامبالاة، إذ يفتتح (العبادي) نصه وهم في حالة الغسل وقد بدى عليهما الانهماك..
الرجل الأول: (وهو منهمك بالتنظيف) أعتقد الآن أصبح أفضل من السابق، أليس كذلك؟
الرجل الثاني: (وهو منهمك بالتنظيف) على ما أعتقد.
وهذا التأسيس السري الغارق في العلامات المضمرة يشدك الى البحث عن سرية الخطاب وانية الدلالة لتستبطن الأثر الفاعل بوصفه تأسيسا أولياً ، ومن خلال السياقات اللفظية تتدحرج المعاني لتبدأ الحكاية برص جملا اسقاطية يستفهم منها انها تعطي صورة بانورامية لواقع المؤلف الذي يقراه بحسب ما يراه هو أو يتفق مع البعض في وصفه وقراءته لهذا الواقع الذي أصبح فيه الموت هو المهيمن الأول ، بل هو الايقونة التي تتجول في الازقة والشوارع باحثة عن اتساق لمن تستطيع أن تتسق به لتنتشله من هذا الضياع ، ثم لنكتشف أن هذين العاملين في هذا المكان الوحشي وان كان مقدسا وفيه من الرهبانية يعملان في غير تخصصهما وليس مايقومان به هو من مهنتم الحقيقية..
الرجل الأول: (منتفضاً) هذه ليست مهنتي.
الرجل الثاني: (متفاجئاً) إذن ماهي مهنتك؟
الرجل الأول: عازف كمان .
وهذه المفارقة تشكل بتقديري تساؤلات جمة وتعيد قراءة الفكرة من جديد ، ما علاقة هكذا شخصية فنية بهكذا مكان موحش؟؟! ، وبالتأكيد فان الحوار فيه شيء من السخرية والكوميديا السوداء ، ولعل هذا النمط في السياقات اللفظية لبناء النص مقصود يرمي _ بحسب اعتقادي_ إلى هدفين :
الأول : عدم المقبولية من سائر الأحداث وعدها مخالفة للأسس الأخلاقية والإنسانية وإنما ما يجري هو خارج المألوف.
الثاني : المحاولة في إيصال المعاني، وبالتالي الخطاب بطريقة يمكن أن يتقبلها المتلقي.
ويستمر الجدل مابين الشخصيتين خصوصا بعد أن يدخل التابوت كعلامة من العلامات المركزية في النص من خلال مجموعة شباب حيث يكشف المؤلف أن هذين الشخصيتين إنما جدالهما أقرب إلى الفانتازيا والغرائبية، فهما يجادلان حول إبنيهما اللذان فقداهما منذ زمن بعيد، لكنهما لا يريدان الاعتراف بذلك، ونلحظ من السياق انهما ماتا بطريقة تشير إلى طريقة القتل التي تحدث في واقعنا الراهن، وهذا هو الاسقاط المعاصر الذي يجسده (علي العبادي) في أغلب نصوص المسرحية..
الرجل الأول: هناك ثمة جثث قادمة لتتزين.
الرجل الثاني: لم يتبقَ إلا القليل.
الرجل الأول: قُتِل ؟
الرجل الثاني: لا أعرف؟
الرجل الأول: انتحر ؟
الرجل الثاني: لا أعرف؟
الرجل الأول: خُطِف ؟
الرجل الثاني: لا أعرف؟
وهذه إشارات لفظية توضح ما ذهبنا إليه في إرسال صورة واضحة من دكة الغسل بوصفها سونار يستطيع أن يحدد طبيعة الموت القادم ، وهو في ذات الوقت بتقديري كمكان يظم الوطن برمته، وهو يمثل خارطة الموت التي بنت تضاريسها على عموم هذا البلد خلال الفترات المتعاقبة من حياته، وفي كل مرة كانت ثمة ضحايا، وهؤلاء هم أبناء الوطن الذين يتساقطون نتيجة العهر السياسي ولرغبات شيطانية في الاستحواذ والتسلط وممارسة القهر والهيمنة بأي لون كان، لذلك تجد التابوت يخبىء كل تلك الالام والانكسارات ..
الرجل الأول: (بحزن وهو ينظر إلى الصندوق) فيه ابنك أم ابني؟
الرجل الثاني: (بحزن) سأفتح الغطاء وأعرف.
الرجل الأول: أنا أرفض وبشدة.
الرجل الثاني: لماذا؟
الرجل الأول: لا يوجد أي مبرر يجعلك أنت الأول الذي يفتح الغطاء.
وهذا الجدل الذي يحاول المؤلف أن يكسيه الغطاء الفلسفي مقترباً إلى فلسفة العبث ليوصل رسالة مفادها عبثية الذي يحصل، إنما هذا واقع مزدرئ وعلى الجميع تقع مسؤولية المعالجة والتغيير ، لكن المؤلف يعود ليصدمنا من خلال صاحب المغتسل الذي يدخل على الحدث ويوبخ الشخصيتين العاملتين اللتين في جوهرهما إحدى ضاحايا هذا الواقع ، ليخبرهما أن عليهما أن يتوقفا من هذا الهذيان، وإن ولديهما قد تم غسلهما على هذه الدكة منذ سنوات كما أشرنا في البداية، إذن فالفرضية التي اشتغل عليها المؤلف مصاحبا هذا الفعل الغرائبي يمكن أن يسجل لنا عدة مؤشرات وهي على النحو الآتي:
أولاً : تحديد المكان بــ(دكة غسل الموتى) جاء ليعزز من فاعلية الحدث الظاهري، ليستبط المعاني الباطنية المستترة.
ثانياً : أشار المكان عبر الأحداث المتصاعدة إلى( الوطن ) بوصفه يظم كل ما حدث من تلك الانتكاسات التي وردت تباعاً.
ثالثاً : العلامات التي شكلها النص كانت كافية لدرجة مقبوليتها كي توصل الخطاب إلى الآخر ومنها (الدكة ، التابوت، الأشخاص، الفضاء العام ).
رابعاً : استخدام السياق الكوميدي ومزجه بالسخرية كانت أحد أهم الرهانات التي استبطنت العديد من المعاني وسهلت مهمة الإرسال والإستقبال.
خامساً : النص كشف عبر توليداته الدلالية قدرة المؤلف في الإحاطة بمجمل الأحداث المتشابكة والمتصارعة بأدوات بسيطة يقرأ من خلالها واقع سقيم مضطرب.
أخيراً استطاع المؤلف أن يوظف اللغة التي امتازت بالقصر والتكثيف والتداولية مع عمق الفكرة جوهرياً وبساطتها ظاهرياً، من أن ينتج نصاً قابل للتمركز داخل بؤر التواصل، التي تقتحم اخيلة وفكر المتلقي لما فيه من إجابات ومرجعيات، وشبكة من علامات متشظية قومت عضد الخطاب المرسل، وعززت مهيمناته الجمالية.
الاحالات:
*وصل هذا النص إلى القائمة القصيرة في جائزة (يسري الجندي) ضمن فئة النص المسرحي القصير والتي اقامها مهرجان شرم الشيخ الدولي للمسرح الشبابي الدورة السابعة 2022.
**حيدر جبر الأسدي: مخرج وناقد مسرحي.
المصادر
1/ الخطيئة والتكفير ، عبد الله الغذامي ص:66
2/ درس السيمولوجيا ، رولان بارت ، ص: 14.