اختلف النقاد والدارسون ، بل وحتى المنظرون حول جنس فن المسرح ونوعه، وتمحورت الإشكالية حول سؤال جوهري هو : هل المسرح أدب أم ليس أدبا ؟ ما هي حدود الأدبية واللا أدبية في فن المسرح ؟ وطبيعي أن تتباين الرؤى إذا اختلفت المنطلقات .
فالذين يصنفون المسرح ضمن أطروحة الأشكال والقوالب الأدبية يستندون إلى فكرة أن المسرح نص مادته الكلمة وموضوعه الإنسان . أما الذين يصنفونه ضمن أطروحة أنواع الفنون فإنهم يستندون إلى فكرة أن المسرح عرض تتداخل في تكوينه مجموعة من الوسائط من نص وممثل وسينوغرافيا وغيرها ولذلك عادة ما يكنى عن فن المسرح بكناية الفن الرابع . وكأي إشكالية فإننا نجد دائما رأيا وسطا يقول به التوفيقيون مفاده أن المسرح فن زئبقي أدبي ولا أدبي ، فهو شكل أدبي إذا اعتدنا بالنص بعيدا عن الخشبة والإخراج قريبا من الكتابة والتأليف وانطلاقا من هذا يعد شكسبير مثلا أديبا ويعد نص مسرحيته : ( هاملت ) نصا يقرأ على المستوى الأدبي ، وكذلك الشأن بالنسبة لمسرحيات أحمد شوقي التاريخية التي كتبت بلغة أدبية زادتها الأوزان والقوافي رفعة وحلاوة . أما إذا اعتدنا بالعرض المسرحي بعيدا عن التأليف النصي الذي قد يكون جماعيا أو ارتجاليا ، قريبا من ثنائية العرض والجمهور فإن ذلك يبعده عن المستوى الأدبي ويجعله فنا قائما بذاته .
لقد قدم الباحثون والمخرجون مجهودات جبارة لتحديد علاقة المسرح كبنية مكانية وزمانية لإقامة العرض بالنص المسرحي كبنية نصية تستند إلى مرجعية لغوية فالمسرحي العالمي أنطونين آرتو في كتابه : ( المسرح وشبيهه LeThéatre et son double ) يرفض أن تقوم هذه العلاقة على السبب والنتيجة ، ويرفض أكثر أن تكون الخشبة مصنعا لتحويل ما هو نصي أي النص المسرحي إلى بنية محاكاتية فعلية عن طريق الإخراج و بالتالي يصبح الإخراج تابعا للتأليف ، بل يرى أن النص يجب أن يكون لاحقا بالممارسة الإخراجية ، وهكذا فإن علاقة النص بالعرض هي علاقة الجزء بالكل .
كما أن جروتوفسكي يتحدث عن مسرح المختبر أو ما يعرف عند النقاد باسم المسرح الفقير وهو مسرح خال من أي بنية لغوية تستند إلى الكلمة ، فهو مسرح يعتمد أساسا على تفجير طاقات الممثل الجسدية في التنويع والتعبير الحركي وبعيدا عن مجمل هذه الرؤى التي حاولت تحديد ما هو أدبي وما هو غير أدبي في المسرح فإن العلاقة بين النص المسرحي والمسرح هي علاقة تشبه الزواج ، وما المسرح إلا صورة متغيرة وما الكاتب المسرحي إلا ذات متغيرة . ويصف علي عقلة عرسان في كتابه : (سياسة في المسرح ) هذه العلاقة بأنها علاقة جنسية لا يمكن أن تفرز إلا قمة النشوة وروعة الجمال .
إن الكتابة المسرحية ليست صيغة أدبية يمكن أن يستمتع بها الإنسان كما يستمتع بقراءة الشعر أو الرواية ذلك لأن الأدب يكرس علاقة الإنسان بالورق فيتحقق فعل الاستمتاع من خلال فعل القراءة ، أما المسرح فإنه يكرس علاقة الإنسان بالعرض فيتحقق فعل الاستمتاع من خلال فعل المشاهدة والتفرج . فالمسرح كما يعرفه أرسطو : محاكاة لعمل وإن هذا المفهوم ينطوي على ثلاثة عناصر هي : التمثيل والتشخيص والفعل ، وهي العناصر التي تخرج النص المسرحي من سجن الكلمات وسكون الصور إلى فضاء الفعل والحركة .
ورغم أن الأديب المصري توفيق الحكيم قد حاول في كتاباته المسرحية أن يدجن فن المسرح ويجعله شكلا أدبيا من خلال فكرة المسرح المقروء في أعماله المختلفة مثل : (شهرزاد )أو ( أهل الكهف ) أو (يا طالع الشجرة ) فإن توفيق الحكيم لا يمكن له أن يتجاهل وبأي حال من الأحوال الفضاء المسرحي والذي بدونه لا يمكننا الحديث عن تجربة مسرحية ، فالكاتب الحقيقي يجب أن يكون على دراية واسعة بكل مقومات وعناصر وأسس المسرح والعرض ونفسية الجمهور الذي يفترض أن يكون مرسلا إليه ، بل وحتى بقدرات الفرق المسرحية وإمكانياتها المعنوية والمادية . لقد كان موليير يصور البعد الجسدي لشخصيات مسرحياته توافقا مع البعد الجسدي الحقيقي لممثلي فرقته ، فكان يجعل البطل طويل القامة ومريضا بداء السل ويسعل باستمرار ، وإن هذه الملامح الجسدية تتوفر في شخص موليير ذاته . كل هذا لأن الكاتب المسرحي يدرك أن ما يكتبه سيظل بدون معنى إن لم يتحول إلى عرض مسرحي يقوم بإخراجه مخرج يستعين بفريق من الممثلين والسينوغراف . ندرك هذا من خلال تلك النصوص الجانبية A part والتي يضمنها الكاتب المسرحي توجيهات وإرشادات للمخرج عن كيفية تصميم الفعل والتمثيل والتشخيص ، ولذلك فإن دراسة الأعمال المسرحية بعيدا عن المسرح أمر يتعارض مع مفهوم المسرح ذاته من حيث أنه يتشكل من مجموعة من الوسائط اللغوية الدرامية من كلمة وحركة وديكور وفضاء وموسيقى وإنارة ورؤية إخراجية ، فهذه الوسائط هي التي تحدد مسافة العمل المسرحي والعمل اللامسرحي لأن الإخراج المسرحي هو الذي يضع النص الدرامي ضمن سياق حركي [ عرض ] وبالتالي فإن الذي ينظر للمسرح على أنه شكل أدبي فإنه يشوه حقيقة المسرح وهي أنه فن تتداخل في تشكيله مجموعة من الفنون المختلفة الأدوات من رسم أداته الخط واللون وموسيقى أداتها الإيقاع والصوت وأدب أداته اللغة و رقص أداته الحركات ونقش ونحت وغيرها، ولذلك عادة ما نطلق على المسرح عبارة : (أبو الفنون ).
