كل شيء في الحياة له وجهين، وجه نافع ووجه ضار، وهكذا هو الترحال له مضارة وفوائده، ولكن المهم من يستفاد من الفوائد حين قدومها واستغلالها لصالحة في تنمية قدراته ومواهبة، واستغلال جميع الفرص التي تنتظر في كل محطة من محطاته، فالمسير في الترحال يريك ما لا يمكن ان تراه في الاستقرار، فالحياة المتحركة فيها من الدروس، والمواعظ، والعبر الكثير غير الحياة الساكنة التي فيها يكون النظر قاصرا والتجارب فيها قليلة.
نعم لقد استفاد الفنان عبد الجبار حسين محمد صالح التميمي المولود عام 1953 في العاصمة العراقية بغداد، من ترحاله في مدن العراق، وأكتسب المعرفة، والفن، والثقافة والجمال، حيث كانت عائلته تتنقل في مدن العراق بسبب تنقلات والده الذي كان يعمل موظفا في الدولة العراقية، لقد رأى واستفاد من كل ما راه في رحلته لبغداد والسليمانية واربيل والناصرية والبصرة، مدن عريقة بثقافاتها وعاداتها وتقاليدها، مختلفة ومتفقة، وفيها طاقات الدنيا كلها، وكان على التميمي ان يستفاد من كل هذه الطاقات، وان يتغذى بثقافاتها وفنونها، لان في داخله كان ينمو وعيا بهذا الاتجاه، كان يدفعه دائما باتجاه قاعات العرض والاحتفالات والمسارح، كانت مخيلته تسع كل ما يراه من فنون وآداب، حتى اصبح غذائه المفضل لديه، يبحث عنه اين ما نزلت اقدام عائلته، فبينما هم ينظمون شؤون البيت، تأخذه اقدامه تاركا عائلته الى الشوارع الثقافية والمكتبات يبحث هنا في هذه المدينة وتلك عن كتابا او مسرحية يقرئها، ويزداد حبا وشغفا في كل مضامير الثقافة، حتى قاده العمر الى مدرسة الجمهورية التي كانت تنتظره، وتنتظر مواهبة لكي تنتزعها من ذلك العقل المحمل بكل الخيالات وتنظم له موهبته وتضعها على السكة الصحيحة ليتمكن فيما بعد بالسير قدما على طريق الصيح.
استقبله الاستاذ والمخرج المسرحي مهدي السماوي، وتعامل معه بروح المعلم المخلص والاب الحنون، وراح يصوغ وبدقة عالية كل ما لديه من مواهب اكتسبها خلال ترحاله في مدن العراق، ويشذب بعض الافكار التي تناولها مما صادفه من كتب ومما شاهده في حياته اليومية من فنون وثقافة، وحتى يدخل عالم الفنون بعقلية قوية ومخيلة واسعة لابد من التجربة العملية، فقد اشترك مع الاستاذ السماوي في جميع اعماله التي اخرجها، وجعله يلعب- اي السماوي- جميع الادوار وان يكون دائما في حضن المسرح يرتع منه ما يشاء ويكتسب كل ما يراه جميلا، فقد لعب ادوارا في (مسرحية ابابيل، ومسرحية السلابة، ومسرحية المخاض، ومسرحية الليلة الف)، وكانت هذه المسرحيات بمثابة دروسا عظيمة في العلوم المسرحية التي لم يمارسها سابقا، والذي كان السماوي قد فتح له الابواب واسعة عليها.
عام 1967 كانت الانطلاقة الحقيقة لعمل التميمي على خشبة المسرح، حيث كان يتنقل في اروقة المسارح المتواجدة في محافظة ذي قار ، وبين الفنانين يبحث معهم عن عملا جديدا، وكانت رحلته التالية الاكثر امتاعا ومعرفة، بعد الدروس التي تعلمها من السماوي، كانت هذه الرحلة مع فرقة الاتحاد الوطني لطلبة العراق، حيث تلقى هذه المرة دروسا جديده من قبل المخرج جعفر الحداد، ومن ثم المخرج صالح البدري والمخرج عباس علاوين، حيث كانت هذه الدروس قد اضافت الى تجربته السابقة الشيء الكثير، وهنا تعرف على زملاء جدد في المسرح، واصبحت التجربة غنية في فنون المسرح وعناصره، هنا تعرف على كل فنون المسرح من ديكور وازياء واضاءة، وبدأت ثقافته المسرحية تتجه باتجاه العلوم الاكاديمية .
من ثم عمل مع فرقة (مسرح التربية) في محافظة ذي قار، مع الفنان عزيز عبد الصاحب، صاحب الفضل في تقديمه الى جمهور محافظة ذي قار، حيث كانت التجربة كبيرة والاعمال مستمرة دون انقطاع ، وكانت اولى تجاربه مع الفرقة في مسرحية (الليلة الالف) وهي من تأليف واخراج مهدي السماوي، بعد ذلك شارك في اوبريت (ابو الهيل) تأليف كاظم الركابي واخراج صالح البدري، ومن ثم توالت الاعمال المسرحية وكالتالي:
- اوبريت (جنيات الوادي)، تأليف قيس لفته مراد واخراج صالح البدري
- مسرحية (الفتى حمدان)، تأليف واخراج جعفر حداد
- مسرحية (عملة ومعاميل) تأليف عدنان شلاش واخراج محمد حسين عبد الرزاق
- مسرحية (ابابيل) تأليف واخراج مهدي السوداني
- مسرحية (العروسة بهية) تأليف عبد الاله عبد القادر واخراج جعفر حداد
- مسرحية (السلابة) تأليف واخراج مهدي السماوي
- مسرحية (الجطله) اعداد يقظان الدرويش واخراج بهجت الجبوري
بعدها انتقل للعمل مع جمعية (رعاية الفنون والآداب) في ذي قار، وقدم لهم مجموعة من الاعمال المسرحية القصيرة والتي كانت من اعداده واخراجه، وعرضت جميعها على قاعة بهو البلدية.
كبر طوح التميمي واتسعت التجربة، ولم تعد مدينة الناصرية تسع احلامه، فراح يبحث عن مسرح اكبر، مسرح يكون فيه العمل الاحترافي، وفيه يلتقي مع فنانين كبار، مسرح يمنحه الشهرة ، ويلبي الطموح، فكان الاعلان عن تأسيس فرع للفرقة القومية للتمثيل في محافظة البصرة عام 1973، البشارة في هذا المسرح الذي سيعتلي خشبته ويصفق له الجمهور طويلا، فسارع لتقديم طلب الانضمام للفرقة، وخضع الى اختبار صعب، اجتازه بجدارة، وذلك لخبرته الطويلة في السنين السابقة، التي تعلم من تجاربها الكثير، لم يكن في الاختبار شيء غريب عليه، فقد كانت خشبة المسرح ليست غريبه، فقط انها كانت كبيرة ومرعبة، لكنه تجاوز الخوف واستطاع ان يكون من ضمن الاسماء الاوائل التي احتضنتهم الفرقة، والتي نظمت بعد ذلك دورة تطويرية (لأعداد الممثل)،عام 1974 تحت اشراف الاستاذ سعدون العبيدي، حيث كانت اولى الورش، ورشة الصوت والالقاء، واخرى للتمثيل، وكذلك الرياضة المسرحية (تكنيك الممثل)، ومن اجل العمل المستمر في الفرقة، ترك محل سكنه في ذي قار ليسكن البصرة ويكون متواصلا مع الفرقة التي بدأت عملها حين الانتهاء من الدورة، وكان اول عمل اشترك فيه التميمي هو مسرحية (الشاهد والشهيد والتجربة)، من تأليف عادل كاظم واخراج سعدون العبيدي والتي عرضت للفترة من شهر نيسان الى شهر تموز عام 1976 على قاعة بهو الادارة المحلية في محافظة البصرة، وكانت هذه التجربة الجديدة لها صدى كبير بين المثقفين، وكان الاعلام قد تحدث عن هذه التجربة الفريدة في المحافظة، كون هذه التجربة قدمت من قبل فرقة مسرحية تابعة للدولة، وكان انتاجها بمستوى الطموح، وقد شارك التميمي بعدها في جميع العمال المسرحية والاوبريتات التي قدمتها الفرقة، والتي تنقلت فيها بين محافظات العراق وكذلك قدمت عروضها خارج القطر، في دول عربية وعالمية، والتي تجاوزت اعمال الفرقة المسرحية التي شارك بها التميمي اكثر من (60) عملا فنيا، بين مؤلفٍ ومخرجٍ وممثلْ.
خلال عام 1974 ولاستثمار وجوده في محافظة البصرة وقربه من الفرقة القومية، شارك فرقة (تلفزيون البصرة) مع المخرج طالب جبار في مسرحية (المدمن) من تأليف الرائد المسرحي توفيق البصري ومسرحية (الرواد) من تأليف عبدالله حسين.
لم يتوقف التميمي عند حدود العمل مع الفرقة القومية، فراح يجوب الفرق المسرحية المنتشرة في محافظة البصرة وقد شارك مع (فرقة المسرح الفلاحي) و(فرقة تلفزيون البصرة)، و (فرقة نقابة الفنانين)، وفرق اخرى غيرها.
كذلك لم يقف في حدود التمثيل، فكانت تجربته في المسرح غنية وكبيرة لذلك استثمرها في التأليف المسرحي والدرامي فكان له العديد من الاعمال المسرحية منها:
مسرحية (الخطابة , الصفحة الاخيرة في المنهاج، وغراميات خصاف، و هيه يا بحر، وحرامي البيت، و طائر الحلم، و الرحلة السعيدة، و شمس الانتصار).
اما في مجال الدراما فقد كتب سيناريو مسلسل (للحب فقط)، والذي اخرجه الدكتور حسن الجنابي , سيناريو لفلم (السفر في هموم الذات) اخرجه عبد الجبار ثامر، اما للتلفزيون فقد كتب ثلاثية موال الفرح، ورباعية رصيف الغضب، وتمثيلية العربة، وتمثيلية حكاية فراش، وثلاثية الدرب، ولم نذبح مرتين ، والسفر في هموم الذات، وتمثيلية سائق ليس للأجرة.
لقد تعلم التميمي من خلال رحلاته نكران الذات والتعاون وحب الاخرين، لذلك كان متواصلا مع الجميع وخصوصا الشباب الذين قاسمهم العلم والمعرفة، فلم يبخل يوما عليهم باي معلومة تخص المسرح فكان معهم دائما، يحضر تمارينهم المسرحية، ويشاركهم همومهم ومعاناتهم ويخفف عليهم ويمنحهم طاقة ايجابية من اجل البقاء والاستمرار في العمل المسرحي، علمهم حب المسرح، وحب الاخرين.
بقى التميمي وفيا لزملائه المسرحين، كوفائه وحبه للمسرح، فكان متواصلا معهم من خلال الفعاليات الثقافية التي تقام في المدينة،رغم (تقاعده) من قسم المسارح والفنون في البصرة، التي كتب واخرج لها اعمالا عديد، لكن الفنان لم يتقاعد من الفن ولم ينقطع تواصله معه، لذلك اتجه الى الكتابة واصدر كتابه الاول عام 2021، وهو عبارة عن مجموعة نصوص مسرحية بعنوان (اغنية لطيور الثلج ) الذي سيكون فاتحة خير لكتب قادمة.