إن الكشف عن علاقة المكان أو الفضاء المادي الطارئ بتباين الأداء التمثيلي في عروض مسرح الشارع وتقنيات الأداء التي تتناسب وطبيعة الفضاء ورصد التقنيات الثابتة والمتغيرة التي تفرضها خصوصية هذا الفضاء الطارئ . ستعين الباحثين والدارسين وصناع مسرح الشارع علي فهم العلاقة بين المكان والأداء وطاقة الممثل وأهم تقنيات الأداء التي تفرضها طبيعة هذا الفضاء، فالمكان المسرح هو :” الحيز أو الفضاء المادي الطارئ لمشغول من خلال وجود المؤديين وعلاقاتهم بالجمهور او المتلقيين”،
حيث إن طبيعة المكان الغير ثابتة في مسرح الشارع تخلق تلقائيا جوا من التحفيز ينطلق من حيوية الشارع ومسرحه الذي يتبني شعار إستخدام كل المساحة المتاحة جغرافيا، ودون تقسيم بين منطقة الأداء، ومنطقة التلقي التي تذوب في عروض مسرح الشارع ،
فإن وضع المتلقي في عروض مسرح الشارع ذلك المكان المحايد خلق تحديا أمام صناع مسرح الشارع ينبغي بحثه جيدا قبل الشروع في تنفيذ عروض مسرح الشارع، وكيف تمنحه إحساس مغاير لوضعه وهو يشاهد عرض مسرحي في قاعة مسرحيه؟ مما يعني الزج بهذا المتلقي داخل رقعة الحركة والتمثيل من أجل إخضاعه لتجربة مغايرة بها نوع من الصعوبة، والمتعة، وإحساس التشاركية التي يجد المتلقي نفسه جزء من نسيج العرض. إن هذه التشاركية هي، امتزاج كل عناصر المسرح في منطقة فضائية واحده هي فضاء الشارع الذي يدخل في حالة صيرورة الإندماج الذاتي مع عناصره مكونا سينوغرافيا طبيعية قائمة بذاتها. ولذا فالخيال الذي يخلقه، او يصنعه الممثل في مسرح الشارع، يتحول تلقائيا الي مدرك حسي بطبيعة المكان وحدوده الجغرافية والزمانية.
ـ إن إدراك المتلقي لخصوصية المكان عامة يحدث التحول في ذهنيته من مجرد تصور اللعبة التشخيصية التي تحدث امامه الي وعي بأن ما يشاهده حقيقة، ومن هنا يصبح المكان الممسرح في الشارع والذي ليس وظيفته الأصلية العرض المسرحي مكان يعتمد التجسيد الخيالي من خلال التوظيف الأشاري لهذا المكان الفارغ العشوائي.
ـ إن التعارض بين العرض والمكان عادة ما يؤدي الي تحييد تأثير العرض(1) ذلك ان قابلية تحول المكان الي مكان ممسرح تتسق مع الرسالة والموضوع الذي يكرسه المكان في اسلوبه، فإذا تم طرح مشكلة وضع المقاعد علي الأرصفة خارج المقهي وكيف تؤثر علي حركة المارة علي الرصيف وتعرضهم للخطر اثناء سيرهم في الشارع؟ فإن الرسالة التي يطرحها هذا المكان العارض بوضعه المقاعد علي الأرصفة هي، رسالة دعائية لجذب المارة، ليكونوا من رواد المقهي لكن الرسالة الأصلية هي رسالة الشارع الذي يصبح الرصيف فيه ملاذ لكل المارة، فإذا كان العرض المقدم في المقهي متفق مع موضوعه ومتسقا في اسلوبه مع النظام الذي يكرسه المكان (رصيف الشارع) ازدادت قوة تأثير العرض.
ـ إن المؤدين في مسرح الشارع عليهم ان يجذبوا المشاهدين وأن يكونوا حيز العرض،ولذا فإن المكان في الشارع اصبح بعد مسرحته مكان مادي مشغول بالمؤدين والمتلقيين واكتسب صفة الفضاء المسرحي الذي يشترط لتحقق هذه المسرحة هو حركة الممثل فيه ووجود الجمهور داخل حيزه معتمدا علي نمط عشوائيته او شكل تكوينه الطبيعي او المعماري ولذا فإن فضاء الشارع الممسرح هو فضاء محدد وسينوجرافيته (2) سوف تشمل منطقتين هما منطقة الأداء ومنطقة التلقي اللتين تذوبيين في لحظة تتمحور حول أبعاد قيمية وإنسانية.
فالمكان في مسرح الشارع لا يعطي المتلقي احساس انه يشاهد عرضا او لعبا متأثر ة بالفضاء التخيلي او الوهمي ويرجع ذلك لأن عروض الشارع لا يستخدم فيها الإضاءة المسرحية وعادة ما تعرض نهارا فتنتفي الفضاءات الوهمية والنفسية والتخيلية حتي لو تم استخدام الإضاءة المسرحية، فإن الفضاء في مسرح الشارع اصبح وحدة واحدة مندمجة لعدم الفصل بين المتلقي وممثل مسرح الشارع ان العشوائية الجغرافيه تبقي علي حالها في شكل ومحتوي المكان المختار للعرض، وبالتالي فطاقة الممثل تتناسب طرديا وتلك العشوائيه. فطاقة الممثل في عروض مسرح الشارع كمكان ممسرح بعشوائيته الجغرافية قد يعطيه الانفلات في الإرتجال وقد يدفع الممثل الي التمرد والمشاكسة علي الإرتجال والذي يعني فن الخلق في لحظة التنفيذ وهذا الإنفلات الإرتجالي نابع من هواجس صناع مسرح الشارع القائمة علي إمكانية توليد علامات متدفقة، فالمكان في مسرح الشارع غايته توليد إشارات مسرحيه بلا حدود لتدل علي معاني متناهية ناتجه عن التشكيل في المكان او الفضاء او حيز الشارع .
وهذا التشكيل في مساحة المكان لا يهتم بالمساحة من الناحية النظرية بل يهتم لكونها اصبحت أداة تميز لنشوء علاقة بين الممثل والمتلقي لا تتحقق إلا بالتركيز الذي لن يتأتي إلا إذا توحدت الرؤية في ظل ظروف موضوعية بين المساحة والأداء. ولذا فإن طبيعة الأداء في الشارع تكون ذات خلق وارتباط المبدع بالمكان ذاته.
فالمكان في مسرح الشارع يشكل العرض ويشكل طبيعة الأداء وبالتالي فإن المكان في مسرح الشارع يعتمد قيمة ما يقدم من شكل ومضمون للعرض وقيمة اداء الممثل لبلوغ الغايات الدلاليه لعرض مسرح الشارع .
ـ يتباين الأداء التمثيلي بتباين مناهج التمثيل ، فمنها ما يركز على تجسيد الصفات الداخلية الشعورية باعثا على تجسيد الصفات الخارجية للدور المسرحي ( ستانسلافسكي) ، ومنها ىما يركز على الفعل _ الصفة الخارجية للحركة الآلية مولدا للشعور ( مايرهولد ) ، ومنها ما يجنب المعايشة ويقصر الأداء على تصوير الصفة الاجتماعية الطبقية التي تنتمي إليها الشخصية ( التغريب الملحمي البريختي).
ومعنى ذلك أن الأداء التمثيلي يتفرع في عدة فروع أحدهما يعايش الشخصية بمشاعرها حتى يصدق في تجسيد أفعالها، والثاني يفعل آلية الحركة لدي الشخصية وسيلة لإظهار الشعور . ومنهج ثالث يشخص الصفة الاجتماعية للشخصية بمعنى تصويرها عن بعد باعتبارها نائبة عن طبقة إجتماعية ما تنتمي إليها ،
ولكن يثار أمر هام بعد هذا الموجز المختصر لمناهج التمثيل وهو متي ينبغي علي الممثل اختيار أي الأدائين «التشخيصي أو التجسيدي » ؟ ويفرق د. أبو الحسن سلام(3) في دراسة بحثية له بين مادة التشخيص ومادة التجسيد في فن التمثيل ” نحن حين نتكلم عن التشخيص أو التجسيد في دور مسرحي فإننا نبدأ من حيث المادة التي سينبني عليها أي من الأدائين ( التشخيصي ، والتجسيدي ) فالممثل يؤسس إبداعه على مادة أبدعها غيره من قبل ( النص) وتوجيهات المخرج الذي يعد عمله أيضا مؤسسا على مادة سابقة (إبداع المؤلف) ، فهما كتناغمان التشكيلي الذي يبدأ عمله من حيث وجود مادة خام – مع الفارق طبعا – من هنا فإننا نؤكد أن الممثل لا يشخص إلا موقفا أو شخصيه بنيت لتؤدى بالتشخيص، وهو إذ يجسد شخصية أو موقفا أو شعورا – يعايش ذلك – تأسيسا على موقف أو على شخصية كتبت لتجسد لا لتشخص ” ولكن هل يختلف السؤال المطروح بالنسبة لممثل مسرح الشارع ؟ فهل تقنية الاداء في مسرح الشارع تختلف عن غيرها؟
الإجابة علي هذا السؤال تتطلب معرفة ما هي تقنيات الإداء التمثيلي(4) اولا والتي تتلخص في تسعة تقنيات هي: (الجسد- الصوت- الإيقاع- والانتباه والإصغاء -التكيف-الذاكره الإنفعالية -التركيز- الإرتجال- إلإنتقال من حالة تشخيصيه إلي حالة تشخيصيه اخري ).
إن مهمة الممثل عموما هي مهمة مزدوجة ، فعليه أن يكون هو نفسه ويكون ذاته في نفس الوقت وعليه أن يبدو شخصاً آخر, أي يتظاهر وأن يخفي ذاته تحت الشخصية المؤدية ، وعليه أن يوازن وأن يفكر بالتوازن عبر تقنيات الأداء, وهذا التقنيات قابلة للتغيير لكي تصنع استمرارية من أرسال العلامات الى المتلقي والتي هدفها أثارة الجمهور فكرياً، أنه مجموعة من الوضعيات الفعلية الجسمانية والصوتية كلها تدخل في عملية التمثيل, وعلى الممثل أن يسقط قناعة بين الفينة والأخرى ويكشف عن وجهه الحقيقي, ولكنه لا يستطيع أن يبقي القناع بعيداً عن وجهه لمدة طويلة إذ سرعان ما يرتديه من أجل أرسال علامة أخرى مكملة للعرض في اللحظة الأنية .