على مسارح مختلفة من محافظات العراق منها في محافظات بغداد والبصرة وكربلاء والديوانية قدمت (فرقة مسرح السراج للمكفوفين) التي تنشط في محافظة كربلاء المقدسة؛ عرضا مسرحيا بعنوان OVER BROVA)) (أوفر بروفا) من:إخراج الدكتور علي الشيباني. والفرقة المذكورة تضم (45) ممثلا جميعهم من المكفوفين الذين لم يعرفوا المسرح إلا من خلال تجربتهم في هذه الفرقة ؛ لذا فإن العمل مع مثل هذه المجموعة يتطلب جهودا مضنية أنبرى لها – بجدارة واقتدار وصبر – الدكتور علي الشيباني الحاصل على شهادة الدكتوراه في الإخراج المسرحي؛ ولديه تجارب عديدة أخرى في مسرح الشارع والمسرح الاحتفالي فضلا عن تمثيله وإخراجه للعديد من الأعمال المسرحية التي تنتمي في غالبيتها الى المسرح التجريبي؛ والتي تحمل بصمة مميزة تنطبع بطابع التوثب والتجديد والمغايرة التي أعتاد هذا المخرج المجدد النزوع إليها.
تصدى المخرج (الشيباني) في عمله مع (فرقة مسرح السراج للمكفوفين) لمجموعة من الهواة الذين لم يألفوا المسرح ولم تكن لهم أية خبرة فيه؛ ولم يكن دافعهم للعمل سوى أثبات وجودهم وفعاليتهم في المجتمع عبر نشاط يُلفت إليهم الأنظار؛ فلم يكن من (الشيباني) الذي عُرف بنزعته الإنسانية والتربوية إلا أن يأخذ بأيد
يدي هؤلاء الهواة ويجعلهم يثبتون وجودهم وفعاليتهم أمام مجتمع المبصرين الذين يعتقدون صعوبة أن يقدم مثل هؤلاء عملا عيانيا أمام الناس ؛ معلنين على أنهم لا يقلون أبصاراً عن الآخرين ؛ وأنهم قادرين على أن يقدموا ما يمكن أن يتعلم منه المبصرون ؛ وهكذا خاض المخرج وأعضاء هذه الفرقة؛ مغامرة عمادها الصبر والإصرار على اقتحام المجهول بالنسبة للطرفين؛ هم من جهة بوصفهم سيشتغلون في عالم يهاب حتى المبصرين الاشتغال فيه لما فيه من صعوبات وما يتطلبه من جهود ؛ و لـ(الشيباني) بوصفه مخرجا ومدربا ومعلما يخوض في عالم من الظلام لأول مرة؛ عالمٍ لا هداية فيه إلا للبصيرة. إنها بلا شك مغامرة تكتنفها العديد من المخاطر والصعوبات؛ وهذه المخاطر والصعوبات لا تقتصر على أن المخرج – هنا – يتعامل مع هواة يعتلون المسرح أول مرة؛ بل هناك صعوبات ومخاطر شتى أشد وقعا وخطورة من أهمها أن العرض المسرحي يتطلب تعاملا مع الصور البصرية والرسائل السمعية التي يبثها العرض المسرحي؛ إذ أن المسرح – كما هو معروف – يدخل ضمن منظومة الفنون البصرية والسمعية؛ في حين أن العاملين – هنا – يفتقرون الى البصر؛ ومعنى ذلك أن العمل مع هؤلاء يفتقر الى ركن من أركان هذا الفن ؛ فهم لا يرون الصورة فكيف لهم أن يخلقوها أو يجسدوها على المسرح؟ .وقد أثبتت آخر الدراسات العلمية على أن حاسة البصر تتقدم بقية الحواس في عمليات الإدراك البشري؛ إذ تبلغ حاسة البصر نسبة 83% مقارنة بالحواس الأخرى؛ وأن حاسة السمع تشكل نسبة 11%؛ في حين تأخذ بقية الحواس (الشم واللمس والذوق) ما نسبته 6% من عمليات الإدراك البشري؛ ومعنى ذلك أن المخرج (الشيباني) ومجموعة ممثلي هذه الفرقة فقدوا فعالية 83% من قدرة الحواس لأدراك الأشياء؛ وتعاملوا مع ما نسبته 17% فقط من قدرة الحواس على توصيل المدركات؛ وهذا ما يجعل هذه المغامرة محفوفة بالمخاطر الجسيمة فعلا؛ ومن الصعوبات الأخرى المرتبطة بالبصر: هي كيفية توصيل المخرج لهذه المجموعة رؤياه البصرية لهم؛ وهم لا يبصرون؟ وكيفية تعاملهم هم مع فضاء المسرح وهم لا يشاهدون هذا الفضاء ولا يرون مداخله ومخارجه؛ ولا يدركون مناطقه وجغرافيته وكيفية تنقلهم على خشبة المسرح؟ وكيفية تحسسهم لبقع الإضاءة وكيفية التعامل معها؟ وغيرها من الصعوبات التفصيلية التي يعرفها العاملون في المسرح وتخفى على المتلقين؛ بخاصة وأن (الشيباني) لم يستعن بأخصائيين أو مدربين أو معلمين من معاهد المكفوفين؛ بل أعتمد – كلية – على نفسه للقيام بكل المهام التي تحيل هؤلاء من عالم مظلم الى عالم مضيء مليء بالصور.
إن مشروع (مسرح السراج للمكفوفين) هو مشروع طموح أعتمد الجرأة وأصر على الإنجاز بروح جادة تعرف أهمية الخروج من عالم الظلام الى عالم النور؛ وتدرك أهمية المسرح كممارسة تربوية اجتماعية تُعلي من شأن الفرد؛ وترفع من مستوى طموحاته؛ وتجعل منه عضوا فاعلا في مجتمعه يُبصر هموم مجتمعه ويُبصّر بها؛ مشخصا العيوب ومقترحا الحلول؛ بوصفه يتصدى لمهمة إرشادية توعوية يعمد العاملون فيها الى النهوض بالمجتمع؛ ولا يكونون عالة عليه. إنها – وأيم الحق – مهمة أخلاقية وتربوية وإنسانية؛ بل وحتى انها مهمة وطنية تلك التي تصدى لها– بجرأة – الفنان والمخرج المبدع المميز في إشتغالاته الدكتور(علي الشيباني) الذي ضمن تفرده وتفرد فرقته في الاشتغال بهذا المشروع الرائد الذي يشهده العراق لأول مرة ؛ ولربما يشهده الوطن العربي – إن لم أكن مبالغا أو مجانبا للحقيقة!! علما بأن هذا المشروع مستمر وقدم عرضا مسرحيا آخر بعنوان (بوصلة) من إعداد وإخراج الدكتور (الشيباني) نفسه؛ الذي أشرك فيه عددا أخر من المكفوفين؛ مستضيفا بعض الممثلين المبصرين. علما بأن الفرقة تلقت عدة دعوات لعرض مسرحية (أوفر بروفا) من عدة بلدان عربية من بينها الإمارات العربية؛ لكن الفرقة في حينها لم تستطع تلبية تلك الدعوات بسبب الظروف الصحية التي رافقت جائحة كورونا.
ولكي نقدم قراءة موضوعية لعرض مسرحية (أوفر بروفا) التي أتيحت لنا فرصة مشاهدتها في بغداد والبصرة؛ نقول الآتي:
اعتمد عرض مسرحية (أوفر بروفا) على مشاهد مرتجلة أبتكرها أعضاء الفرقة من المكفوفين؛ وجمعها ونسق بينها وأعدها للمسرح المخرج (علي الشيباني) ؛ وانطلقت فكرة العرض من فكرة مسرحية (ست شخصيات تبحث عن مؤلف) للإيطالي (لويجي بيرانديلو) ؛ لكنها اتخذت مسارا مغايرا للمسرحية الإيطالية ؛ ذلك لأن مسرحية (أوفر بروفا) اتخذت من الهم العراقي الجماعي ثيمة مركزية لموضوعاتها المتعددة ؛ كما أنها اتخذت من نمط الكوميديا الساخرة أسلوبا لها. وحكاية المسرحية تتلخص في أن مجموعة من المكفوفين تطلب من أحد المخرجين الحاصل على شهادة (الدكتوراه) في اختصاص (الإخراج المسرحي) أن ينجز بهم عرضا مسرحيا؛ ولأن فن المسرح يعتمد الصورة المرئية ويعتمد على ممثلين مبصرين يرون فضاء المسرح ويتحركون في جنباته تحت إضاءة تنير لهم حركاتهم وخطواتهم؛ فأن الفكرة بدت مستحيلة على المخرج ؛ لكن إصرار المكفوفين ؛ وإثباتهم بأنهم لا يقلون قدرة وطاقة مبدعة عن المبصرين؛ جعلت المخرج يمضي – على خوف وتردد – في مجاراة هؤلاء المكفوفين؛ مشترطا عليهم أن تبقى التجربة في إطار التمرين أو (البروفة)؛ وبعد مساجلات ونقاشات مطولة يثبت بها المكفوفون أحقيتهم في التعامل معهم كفنانين مسرحيين يعشقون فن المسرح؛ يوافق المخرج على الفكرة عاداً إياها لعبة فنية استهوته وقرر المضي بها ؛ بالرغم من تحفظه عليها. وهكذا تتحول المسرحية المعروضة من (المسرحية الإطار) هذه الى (المسرحية الداخلية) التي تدور حول رقعة شطرنج تتوسط خشبة المسرح يمثل عليها الممثلون أدوارا مماثلة لأدوار أحجار رقعة الشطرنج؛ ويكون الصراع الأساسي في المسرحية الداخلية هو صراع من أجل الوصول الى السلطة وتولي المناصب العليا (الملك والوزير)، وما يتطلبه ذلك الوصول من مؤامرات ونفاق وصعود على أكتاف الآخرين؛ وما يتطلبه من إزاحة للأخر واتهامه وتخوينه وتشويه سمعته؛ فضلا على أن المسرحية في استعراضها لتلك الثيم اختارت هموما عراقية يومية مثل (التفجيرات والمفخخات؛ أزمة الكهرباء، المياه الملوثة؛ غرق العبارة في الموصل، سرقات السياسيين، دجل مدعي الإسلام من الملتحين، مجازر الإرهاب، ألوان الفساد وأشكاله، السجناء السياسيين الحقيقيين الذين لم ينالوا حقوقهم بينما نالها الأدعياء والكاذبون والمرتشون) وغيرها من الموضوعات التي تنشغل بها الذاكرة العراقية الشعبية في حياتنا الراهنة؛ كل ذلك جاء في عرض متماسك كان يجري بانسيابية جمالية راقية؛ وانضباطية عالية من الممثلين المكفوفين؛ الذين كانوا يتنقلون بين مربعات رقعة الشطرنج؛ وبين جنبات المسرح بدقة عالية محسوبة بعناية بالغة. ومع أن أسلوب الأداء التمثيلي هيمنت عليه سمة الكوميديا الساخرة؛ غير أن العرض لم يخلو من المشاهد العاطفية التي تثير مشاعر الحزن والألم على مصائر العراقيين في وضعهم الراهن؛ ومن أبرز تلك المشاهد هو مشهد الصبي الكفيف الذي فقد بصره وفقد والديه في تفجير إحدى المفخخات؛ وقد أجاد الممثل – الصبي أداء ذلك المشهد بحرفية الممثل العارف لأدواته والقادر على توصيل ما تشعر به الشخصية من انفعالات نفسية ومشاعر إنسانية.
أنها بحق تجربة غير مسبوقة سواء على صعيد العراق أو الوطن العربي ؛ فمع اشتغالي بالمسرح ودراستي وتدريسي له خلال ما يقرب من نصف قرن لم أقرأ أو أسمع عن فرقة مسرحية في الوطن العربي؛ كل ممثليها من المكفوفين؛ وإن كان هناك من يعرف معلومة مثل هذه؛ فليتفضل بالإشارة إليها ؛ مع قناعتي الشخصية بعدم جدوى المحاولة؛ فهذه فرقة متفردة هي الأولى من نوعها؛ أثبتت بالدليل القاطع أن الممثل المكفوف لا يقل مهارة وطاقة عن أشد الممثلين أبصارا؛ وأثبتت بأن الإبداع لا يعترف بأي نوع من أنواع الإعاقة؛ وإن الإبداع يقترن بالإرادة والإصرار على بلوغ الغايات الكبرى؛ وأن الصورة الجمالية لا تصنعها العين البصيرة فحسب؛ بل يمكن للبصيرة أن تفوق العين– أحيانا – في صنع الجمال؛ وبهذا فأن هذا العرض يقدم دروسا تربوية وأخلاقية وإنسانية وجمالية وفلسفية؛ قلما نجدها في عمل فني؛ إذ يتمثل الدرس التربوي في جعل هذه الشريحة المهمشة في المجتمع؛ شريحة فاعلة ومؤثرة فيه؛ ويتمثل الدرس الأخلاقي في أن لا ننظر الى هذه الشريحة نظرة العطف؛ بل ننظر إليها بنظرة التقدير والاحترام، ويتمثل الدور الإنساني في أن الإنسانية لا يصنعها الأصحاء فقط؛ بل يمكن أن يصنعها حتى غير الأصحاء ومنهم المكفوفون؛ أما الدرس الجمالي فهو أن الجمال يمكن أن يولد ويعلو من رحم المعاناة؛ أما أبلغ الدروس تأثيراً وأهمية هو الدرس الفلسفي الذي يتمثل في حكمة صاغها هذا العرض هي : ((أن البصيرة هي أكثر أبصاراً من العين)) .
ثلاثة عشر ممثلا قدموا لنا شخصيات متنوعة؛ نجحوا – جميعا – بإقناع المتلقين بأنهم يشاهدون عرضا مسرحيا ممتعا يتضمن كل أنواع (التزيين الفني) التي نادى بها المسرحيون مذ أرسطو الى الآن: فهنالك الغناء والموسيقى وجمال الإضاءة وفضاء السينوغرافيا الذي أطر العرض بمفردات بسيطة توحي بدلالات متعددة سواء تلك الكراسي ذات الخلفيات العالية التي أعطت صورا متنوعة فتارة هي كراسٍ للسلطة ومرة شكلت صورة للقبور؛ ومرة صورة لشواهد مختلفة … وغيرها من الصور، ورقعة الشطرنج التي كانت تحدد مربعاتها بنشرة ضوئية وضِعت تحت أقدام الممثلين الذين كانوا يعبرونها برشاقة لافتة دون أن يعثروا بها، والدراجة الهوائية المقلوبة، التي تدور عجلاتها بين حين آخر، لتوحي بدوران عجلة الزمن تارة، وبدوران الأحداث وتسارعها تارة؛ وبدوران عجلة التاريخ تارة ثالثة، وبدوران المصائر تارة رابعة؛ وبدوراننا نحن في عالم متقلب لا استقرار فيه؛ وغير ذلك من الدورانات.
في عرض كهذا الذي أضاء المسارح المختلفة بالإبداع؛ لا نبحث عن فذلكات إخراجية؛ بقدر ما نبحث عن جهد إخراجي خلاق يجعل من مهمة مستحيلة تتحقق على أرض الواقع؛ وتلك المهمة لا تتمثل فقط في تدريب الممثلين وتوزيعهم على المسرح وتحريكهم في فضاءه؛ ولا تتمثل في جماليات عناصر العرض؛ وانضباطية أدواته الموحية؛ بل تتمثل في تجسيد المكفوفين صورا جمالية مرئية تضاهي في جمالياتها؛ بل تتفوق عما يقدمه المبصرون في بعض الأحيان؛ إن الإخراج لهذه المسرحية حقق معادلة جديدة تنتمي بعنوانها الى (ثقافة ما بعد الحداثة) التي تنادي بنسف المركز وأعلاء شأن الهامش؛ وهذه المهمة نهض بها المخرج المبدع (علي الشيباني) باقتدار كبير؛ عندما نقل هؤلاء الذين يقبعون في الهامش؛ وجعلهم يتوسطون المركز، لنكون لهم نحن المتلقين المبصرين؛ الهامش الذي يتلقى منهم العطاء.
تحية تقدير وإكبار لقناديل كربلاء الذين أضاءوا ببصيرتهم مسارح بغداد والبصرة والديوانية وكربلاء؛ تحية تقدير وإكبار لقناديل السراج الذين أزاحوا بضوئهم ظلمة العقول.