شط العرب، وبساتين النخيل، وبيوت القصب، عناصر ثلاث تكون موقع الطيبة والمحبة منطقة (نهير الليل)- الذي اصبح فيما بعد بـ – الرباط الكبير- هذا الحي الجميل الذي ترى طيبة اهله على وجوههم المبتسمة دائما ، في هذا الحي ولد الفنان موسى جاسب راهي زويد الحلفي عام 1948، والذي نهل من هذا النهر، ومن صفاء ماء شط العرب كل الحب والجمال، فراح يسعى بين ثقافاتها لتتشكل لديه بعدها ثقافة عالية في مجال المسرح، فقد تنقل بين الفرق المسرحية فيما بعد ، بعد ان درس وتعلم على ايدي استاذة محترفين في هذا الجنس الذي كان له دور كبير في تشكيل ثقافة مدينة البصرة.
تولع ومنذ الصغر بسماع حكايات امه والجدات، فكان يستمع لها بشغف كبير، لأنه سيقصها على زملائه في اليوم التالي، وطبعا لم يترك القصة على حالها فكان يضيف ويعدل عليها من مخيلته التي كانت تسعفه كثيرا في ترميم الحكاية، كان اصدقائه من اطفال المحلة يلتفون حوله ويسمعون ما يقص عليهم من حكايات شيقة.
كبر هو وزملائه وازداد حبهم للحكايات ولكن هذه المرة ليس من الامهات، ولا الجدات بل كانوا يقطعون المسافات من اجل الوصول الى دور السينما التي وجدوا ضالتهم بها، هنا كان الدور الكبير للحلفي بتوجيه اصدقائه باتجاه الفلم الذي يشاهدونه، كانوا يعبرون (الجسر الحمر) باتجاه العشار مركز مدينة البصرة، ودائما ما يتحسسون جيوبهم خوفا ان تقع نقودهم التي لا تتجاوز عند البعض منهم (مائة فلس)، وكانوا يقطعون تذكرة لمن لم يحصل على مبلغها (الاربعون فلسا)، وكانوا يجمعون ما تبقى للأكل والشرب ، كانت تستهويهم افلام (الكابوي، والافلام العربية)، لأنها لغتهم التي يفهمونها ، ولكثرة مشاهداتهم وولعهم في الافلام كانوا يحفظون اسماء اكثر الممثلين الذين شاهدوهم ( شاري شابلن، لورين وهاردي، كاري كوبر، حيف شاندلر، ليكس باركر، انتوني كوين، صوفيا لورين، بريجيت باردو، مارلين مونرو……….).
لم يكتفوا بمشاهدة الفلم والاستمتاع به في السينما فقط، بل كانوا يعيدون حكاية الفلم اثناء عودتهم الى بيوتهم، فكانوا يتبارون بأداء الشخصيات التي شاهدوها ويمثلون ما حفظت ذاكراتهم من مشاهد وحوارات، ويعيدونها مرة اخرى الى اصدقائهم الذين لم يذهبوا معهم بهذه النزهة الجميلة.
في عام 1958 وكان عمره عشر سنوات، انتقل سكن عائلته الى منطقة (الفيصلية)- حي الجمهورية حاليا- ليكمل دراسته الابتدائية في مدرسة (الصباح) في نفس المحلة-والتي عمل فيها معلما بعد ان انهى دراسته في معهد اعداد المعلمين- ثم أكمل دراسته المتوسطة في (متوسطة الجمهورية)، وهنا حصل تحول كبير في ثقافته ووعيه، حيث بدأ بمشاهدة الاعمال المسرحية التي كانت تعرض في المحلة وفي داخل المدارس، مما دفعة لمشاركة زملائه في التمثيل احيانا، واحيانا اخرى في الفرق الانشادية التي كانت تقدم الاناشيد في المناسبات الرسمية داخل المدرسة، ولم يمنعه هذا من متابعة الافلام السينمائية ولكن حدث تحول في مشاهداته فهذه المرة بدا بمتابعة الافلام الانسانية والاجتماعية بدل افلام الكاوبوي، مثل(احدب نوتردام ، والحرب والسلام، وزوربا، والوسادة الخالية……)، وعندما توجد صعوبة في مشاهدة الافلام السينمائية لأي سبب كان فهو يلجأ الى المسرح فهو عشقه الثاني الذي يغذي وينمي به افكاره .
في منتصف الستينات اكمل دراسته الاعدادية في (الاعدادية المركزية) في العشار مركز محافظة البصرة، والتي كان في جوارها قاعة التربية- قاعة عتبة بن غزوان حاليا-، والتي كان تشغلها مديرية النشاط المدرسي التابعة الى تربية البصرة، اصبحت لديه فرصة كبيرة لمشاهدة العروض المسرحية التي تقام على هذه القاعة عند خروجه من الاعدادية ، فشكلت لديه هذه المشاهدات شغفا في متابعة المسرح بل والعمل فيه، لقد شاهد مسرحية “غراب” ومسرحية “الديدان”، والذي عرف فيما بعد انها للفنان علي الاطرش الذي كان مؤلفا ومخرجا وممثلا لها.
لم تدفعه هذه المشاهدات كلها في السينما او المسرح لتشكيل فرقة مسرحية، او التفكير في اخراج عمل مسرحي او حتى التمثيل فيه ، بل لجأ للتعبير عن حبه للمسرح بالكتابة، فكتب اول عمل مسرحي له مسرحية “الخلود في الجنة” وسجل تاريخ ميلادها عام 1966، ولم يتوقف لان العمل لم ينجز بل كتب عمله الثاني “طبيب مجانا” بنفس العام ولذي قام بإخراجه زميله في الاعدادية (محمد علي فردريك)، لكن فرحة بمنجزاته هذه لم تكتمل لديه، فقد اعتقل في مديرية امن البصرة عام 1979 بسبب انتمائه السياسي، وهذا كان سببا كافيا الى والده بأحراق كافة الكتب والمجلات والصحف التي كان يتزود منها العلم والمعرفة، وضاع معها اول مولود له في الكتابة المسرحية.
عام 1967 تخرج من الاعدادية المركزية ، وكانت بغداد بعيدة عنه ، و(اليد قصيرة)كما يقولون، لذلك لم يكتمل حلمه بإكمال دراسته الاكاديمية في كلية الفنون الجميلة، قسم الفنون المسرحية، لذلك اتجه الى معهد المعلمين في البصرة، حيث وجد ضالته هنا في الدورة المسرحية التي اقترحها احد الاساتذة في المعهد، فسارع بالتسجيل فيها وكان يشاركه حينها صديقه سعيد الماكي الذي كان طالبا في نفس المعهد، وقد كانت الدورة بأشراف الفنان المسرحي عبد المنعم شاكر، والذي كان مسؤولا عن دروس التمثيل والالقاء، امادروس التقنيات كانت على يد الاستاذ الفنان التشكيلي علي طالب، والفنان الموسيقي باسل محمود، كان يزودنابدروس التذوق الموسيقي،وكان نتاج هذه الدورة عرض مسرحية “ثم غاب القمر” لمؤلفها جون شتاينيك، وفي العام الثاني من دراستي قدمنا مسرحية “روي سالف الذكر”، وقد اسند لي دور الحاجب (ماكونا تشي) والمسرحيتان كانتا من اخراج الاستاذ عبد منعم شاكر.
عام 1968 تخرج الفنان موسى جاسب الحلفي من معهد المعلمين ، ولم ينتظر كثيرا فراح وزملائه بتشكيل فرقة (الطليعة) المسرحية وكان اعضائها اغلبهم نتاج الدورة المسرح في معهد المعلمين، وقد تراس الفرقة استاذهم عبد المنعم شاكر، وكانت باكورة اعمال الفرقة مسرحية “الفداء”، وتم عرضها على قاعة التربية-عتبة بن غزوان حاليا-.
فيما بعد تم التعاون مع فرقة (مسرح الرواد) الذي كان يقودها الفنان عبد الامير السماوي بعرض مسرحية “شعواط” وعلى اثرها تم دمج الفرقتين بفرقة مسرحية كبيرة تحت اسم فرقة (مسرح اليوم)- التي اسسها الفنان قاسم حول- وهي فرعا للفرقة المركزية في بغداد والتي كان يرأسها الفنان (جعفر علي) حيث قدمت الفرقة اول عمل لها في البصرة مسرحية “حطحوط” من اعداد واخراج الفنان عبد الامير السماوي وهنا الحديث للفنان الحلفي الذي يقول: اسند لي في هذا العمل دور (الخاطب عبود)، بعدها تم انتاج مسرحية “عودة السنونو” وهي من تأليف الفنان قاسم حول واخراج الفنان عبد المنعم شاكر، وقد شاركنا في التمثيل الفنان طالب جبار.
كان الفنان الحلفي يتصارع مع الزمن، لم يترك له مجال بان يسبقه، فقد اخذ عهدا على نفسه ان يكون دائما في المقدمة، لذلك لم يتوقف عن العمل في المسرح ، فراح يجوب بين غرفة الواسعة ، فمرة يكتب للمسرح ويطرح القضايا الانسانية والاجتماعية ، من مآسي وفرح ، ومرة نجده شامخا على خشبة المسرح ممثلا ، فقد لعب ادوارا عديده ، وان توقف هذا وذاك لجأ لكتابة التمثيليات والمسلسلات الاذاعية، والتي تناوب على اخراجها في اذاعة البصرة الفنانون ( محمد وهيب، والفنان عبد الجبار ثامر، والفنان صلاح كرم، والفنان نصير عوده)،وفي بغداد الفنانون (فاضل صابر، والفنان عزيز كريم)، وكان دائما مع اعماله لا يفصله عنها شيئا فقد لعب ادوارا في هذه المسلسلات الاذاعية وقد ابدع بها، وكان ختامها مسكا في محافظة البصرة مع الفنان عبد الامير السلمي الذي التقى معه في مسرحية “لعبة الامبراطور والسراق”، ليشد الرحال بعدها الى العاصمة العراقية بغداد عام 1985 ، حيث المسارح والنوادي والشهرة التي يبحث عنها كل فنان.
بغداد والشعراء والصور، فتجت ذراعيها لاستقبال الحلفي هذا الفنان الذي اعطى من فنه للبصرة ، بغداد تعرفه جيدا لم يكن غريبا عليها فقد سمعت عنه الكثير، لذلك فتحت الطريق امامه مع فرقة (مسرح اليوم)، حيث شارك مع رفيق الفن عبد الامير السماوي في مسرحية “المجنون” عام 1990 وهي من تأليف وفاء عبد الوهاب واخراج الفنان عادل كوركيس، والتي دقت صافرة التوقف عن الاعمال المسرحية ، بسبب حرب الخليج ومن ثم الحصار الجائر الذي فرض على الشعب العراقي.
توقف عن المسرح وراح مع همومه يمارس وضيفة في تربية الرصافة/الاولى في بغداد، ولأنه لا يعرف الكسل، قرر ان يفتح مكتبة لبيع الكتب والقرطاسية ، وكان يمارس فيها الخط العربي ،حيث كانت له ممارسات كثيرة في مجال الخط، وهو عضو في جمعية الخطاطين العراقيين، علاوة على عضويته في نقابة الفنانين منذ عام 1975 ،احتضن كتبه كلها في هذه المكتبة يقلب صفحاتها ويدون كل ما يصادفه من معاناة ومأسي ، ليطرحها في وقتها ان سمح له الوقت،فكتب العديد من الاعمال المسرحية التي عالج فيها هذه الهموم وهذه المآسي، انتقل بعدها محل سكنه الى قضاء( الحسينية) وهناك حصل تعاون بينه وبين النشاط المدرس، فقدم لهم نصوصا للأطفال عديده.
لم تنقطع انفاسه وهو يلهث وراء خشبة المسرح، ولم يتوقف عن العطاء، ولكي يمنح عطاءه كله للأجيال، فعكف على اصدار مجاميع مسرحية عديده منها للأطفال،ومنها للكبار، منها الشعبي، ومنها الغنائي، هذا هو الفنان موسى جاسب الحلفي لم يدع مجالا للزمن ان يسبقه، فكان سريع الخطى ومحب للعمل وصادقا معه.