طائر السنونو نوع من أنواع الطيور التي تنتمي لعائلة الطيور المُغرّدة، كما أنها طيورًا مهاجرة، تتواصل فيما بينها من خلال تغريدات قصيرة، بالإضافة إلى قدرته على التغريد بأصوات عالية، كما انه يتصف بسريعة التدفق والجريان؛ كالشلالات والمنحدرات.
(قاسم حول) هذا الطائر العنيد الذي هاجر من بلد الى بلد، من اجل البحث لا عن الطعام والراحة بل من اجل تحقيق حلمه الكبير الذي كان يحلم به عندما كان طفلا في قضاء المّدَينه، الا هو حلم السينما، هذا الحلم الذي التصق في رأسه منذ ان شاهد الفلمالكارتوني(ميكي وماوس) الذي تعرضه (الفرقة الامريكية الرابعة) عام 1946 ، شاهد اول صورة تتحرك ولم يزل عمره ست سنوات، شاهد الفلم وهو جالس في حضن والده يترقب الاحداث بشغف كبير ، ومن ثم شاهد المجلة السينمائية المصورة والتي تعرض لأول مرة- التي كان يجهل اسمها حينما –ظلت شخصية (ونستون تشرشل)([1]) والتي ظهرت له اول مرة عالقة في ذهنه الكبير، لم يكن مستمتعا بما يُعرض امامه كمتعة الاخرين من الاطفال، بل كان يشغله (الصوت، والصورة، والتمثيل)، لم يستطع ان يجد حينها سبباً عن امكانية تحرك الاشياء على قطعة القماش التي علقوها بين عمودين، وكيف تخرج الاصوات من نفس المكان ، من يحركهم ، وهل هذه الاصوات تخرج من الممثلين ام هناك اخرون يصدرون الصوت نيابة عنهم قابعين خلف الشاشة*، ظل هذا الفلم شغله الشاغل كان معه اينما يذهب، عندما يجلس على شط الفرات ويرمي سنارته بالنهر ليصطاد لأهله وجبة الغداء، كان يغطس مع السنارة في عمق النهر ليتمكن من معرفة الاشياء كيف تحدث، لا بد لوجود سبب لكل ما يحصل في الكون، كان ينظر الى البعيد الى الطيور الملحقة في سماء قضاء المّدَيْنه والسابحة في نهرها الجميل، وكان يتمنى لو تمكن من تصويرها ولكن كيف وبماذا يصور، وهو لا يملك قوت يومه، وهو يعتاش على ما يصطاده من سمك، او لحين عودة والده الذي يعمل في الكويت، كان كلما يمر في الاسواق يستمع الى اصوات المكائن، ويتخيل كيف يمكن توظيفها في فلم او أي عمل يستطيع ان ينفذه، كما مر عليه في فلم (ميكي ماوس)، لكن القدرة تعوزه على فهم الاشياء، كان راسه مشغولا في كل ما يراه، حتى عندما كان يذهب للجدة (جنيزي) مع زملائه لتحكي لهم حكايات جميلة عن الملوك، وعن الفقراء، والعشاق، والساحرات، وعن قصص الغدر، والخيانة، والبطولة، والكرم ، كان زملائه ينامون اثناء ما تقص عليهم الجدة قصتها اليومية، لانهم متعبون من اللعب، الا هو ينبهر فيما تحكي، ويتخيل الاشياء تحدث امامه، كان يرى الاشياء امامة بلقطة (كبيرة او متوسطة او بعيدة)، ويرى ان كان بإمكانه ان يعمل مثلما عملت الفرقة الرابعة الامريكية، كان يغالب النعاس لحين ما تنتهي الجدة من الحكاية ، ليجد نفسه نائما دون شعورا منه.
لم ينسى هذا السنونو عندما شاهد في شوارع المعقل محل سكنهم الجديد، رجلا كان يلف الكوفية على راسه ويحمل على ظهره صندوقا وينادي (هذا صندوق الدنيا ، تعال وشوف، تعال وشوف ياسلام)، وكان يرى الاطفال يركضون ورائه، دفعة فضول الطفولة ليركض معهم وراء هذا الرجل ليعرف ماذا لديه، وشارك الاطفال فرحهم وهو يسمع رجل الصندوق يادي على الاطفال، لكن فرحته لم تكتمل عنما عرف ان عليه دفع مبلغا لكي يشاهد ما في الصندوق، ذهب لوالده وطلب منه المبلغ وحقق حلم المشاهدة الاولى، واصبح لديه ادمان في مشاهدة هذا الصندوق وما بداخله ، فراح يعمل في بيع السكائر من اجل ان يكسب مبلغا يعطيه لصاحب الصندوق هذا من اجل مشاهده لمدة عدة ثوان.
دخل المدرسة الامريكية بعدها لقربها من محل سكناهم الجديد في محلة الساعي، ولكون الدراسة فيها مجانية، وهنا تغيرت الرؤيا، بتغير المكان القريب من السينمات، لم يكن الحلم بعد مشاهدة صندوق الدنيا، بل الدخول الى سنما، هذه البناية التي يجهل ما بداخلها الا بعدما اصطحبه اخوه اول مرة لشاهد فلم (عنتر وعبله) عام 1948 لم يصدق ما رأى، لم يستوعب ما شاهده على الشاشة ، والتي ثبتت في مكان، يختلف عن الشاشة التي راها في ناحية المّدَيْنه، حتى حجمها يختلف فهي كبيرة لدرجة انه يشعر ان الممثل يقف بقربة، لم يفارق السينما بعد ذلك بحيث انه شاهد هذا الفلم عدة مرات ولم يرتوي.
وزاد شغفه للسينما عندما حصل عام 1955على (عزيزي شاري) للكاتب المصري (كامل التلمساني)، وحدث تحول في تفكيره فبعد قراءته للكتاب احب التمثيل، والاخراج وأحب الكتابة عن هذا الجنس الفني الجميل، كما احب كل العناصر الفنية التي تصاحب انتاج الفلم، بدا يفكر في عقلية تختلف عما كان عليه، لقربه من مشاهدة الافلام السينمائية بأن يعرف كثير من الامور التي كان يجهلها ، من خلال القراءة المستمرة عن السينما، كان يتمنى ان يكون هو فلما سينمائيا كاملا، يتمنى ان يدخل الشاشة ولا يخرج منها.
هذا الشغف لم ينسه دراسته فقد انتقل الى مدرسة عتبة بن غزوان ، وهنا كانت الاساس الذي يؤهله الى ان يدخل الشاشة الكبيرة ويحقق حلمه ، هنا تعلم المسرح ، وهو في الصف الرابع الابتدائي، هنا كانت البداية للتعرف على هذا الجنس الذي سيقوده فيما بعد ليكون كاتبا وممثلا ومخرجا محترفا، حيث كانت البداية عند مشاهدته مسرحية (الوفاء بالعهد) عام 1951، ثم عرض اخر لزملائه داخل المدرسة ، لينقله فيما بعد مع زملائه ويعرضه في احد بيوت اصدقائه بعد ما وفر له كل مستلزمات العرض وبعد ان صنعوا ستارة المسرح من (العباءات النسائية) التي جمعها له شريكه في العرض ، ولكن لم يتمكنوا من عرض مسرحيتهم ( الحلاق والزبون) وذلك لان النسوة احتجن العباءات وارجعن كل المستلزمات التي اخذها صديقه من البيت.
وتمضي الايام طويلة على الفنان قاسم حول ، ليعمل بعدها مع المخرج المسرحي توفيق البصري في مسرحية (لو بالسراجين لو بالظلمة) من تأليف يوسف العاني، فلعب دور الصبي في هذا العمل ومن ثم لعب دور (الفدائي) في المسرحية التي اخرجها البصري، والتي اعدها عن (الفدائي حسن) للكاتب السوري خليل الهنداوي، وقد اسماها( من ثورة العشرين).
بعد ان انهى دراسته الثانوية ذهب الى بغداد، من اجل ان يتلقى العلوم المسرحية في معهد الفنون الجميلة ، لكنه لم يوفق، فعاد الى مدينته البصرة ليعمل في معمل (الكوكا كولا)، وهذا مهد الطريق له ليتفرغ للعمل المسرحي، والذي جعله يتسلم مسرح (نادي الطلبة) وشكل فرقة مسرحية اسماها فرقة (مسرح النور) والتي ضمت (علي فوزي، وصبري سالم، وضياء ناجي واحمد مظلوم ومؤيد ابو رغيف، وسلام القيسي وجميل مذكور وكامل سالم الراضي ومحي…)([2])،قدموا خلالها عروضا مسرحيات عديده منها مسرحية (فلوس الدوا) ليوسف العاني، ومسرحية (الخبز المسموم)، ومسرحية (درويش افندي) التي أعدها للمسرح قاسم حول عن قصة (تباريح بائس) ثم مسرحية (لحظات حاسمة) من تأليف قاسم حول، وهذه الاعمال جميعها من اخراج الكاتب والمخرج قاسم حول، بعدها كتب الفنان قاسم حول مسرحية (البدلة الخاكي) ومسرحية (الكراج الخامس) والتي اصدرها في كتاب فيما بعد.
لم ينسى السينما طوال عمله في المسرح كان مجرد حلم مؤجل، ولأنه يعتقد (ان المسرح هو المدرسة التي تقوده نحو سينما صحيحة)([3])، لذلك عاود الذهاب الى بغداد من اجل التقديم على معهد الفنون الجميلة ، ودرس على ايدي اساتذة الفن والجمال، وعمل في اغلب الاعمال المسرحية التي قدما الاساتذة والطلبة الخريجين, وعاد الى البصرة حاملا الجمال والعلوم المسرحية عام 1964.
غادر العراق لأول مرة في تموز عام 1963،ثم عاد في تشرين الثاني من نفس العام، وغادره مرة ثانية عام 1970 ليعود له ثانية عام 1970، ولاشتداد الوضع السياسي عليه غادر مرة ثالثة عام 1977، ليعود بعدها لاخراج فلم (المغني) عام 2009، وكل سنين الغربة هذه لم ينسى اهله وناسه وأصدقائه الذين عاش معهم في العراق، فهو يتواصل من مقره الاخير في هولندا دائما، من خلال تغريداته الجميلة ، كانت الابتسامة دائما تسبق السؤال، كان يسأل عن اخر اخبارهم، يسأل عن الثقافة والفن والى اين استطاعوا ان يصلوا به او الى اين يأخذهم، كان هذا الفنان والاديب دائما ما يغرد بصوت عالي وهو يبحث عن السينما في الدول التي رحل اليها ( فلسطين ، لبنان، سوريا، ليبيا، اليمن، اليونان، هولندا) يحمل في جعبته افكاره يبحث عن وعاء يستوعبها ليقدمها لمحبيه، ولكونه كالشلال، لم يتوقف عن تحقيق حلمه في السينما لعدم وجود مستلزماتها ، راح يكتب وينظر لها، فعمل في الصحف والمجلات، يكتب عن هذا الكائن الذي شغل كل حواسه لأنه يحتاج لها ، فعمل محررا في عدد من الصحف ورئيسا لتحرير الصفحات الثقافية ، كما ترأس تحرير مجلة (السينما اليوم) عام 1968، كما كتب واصدر العديد من المؤلفات في السينما- السينما الفلسطينية، ثلاث افلام عن القضية الفلسطينية، بستان السينما، السينما حلم الواقع-([4])،ولان السينما لا تحتاج للقلم فقط ، بل تحتاج لجميع الحواس لتتمكن من تحقيق الصورة المثالية كونها أي السينما فن الواقع ، سعى وبجهده الخاص وبمساعدة بعض اصدقائه لإنتاج فلمه الاول (الاهوار) ومن ثم توالت الاعمال التي اخرجها ولمختلف الجهات، وتحقق الحلم الذي ادخله في راسه(ميكي ماوس)، وغذته الجدة (جنيزي) بحكاياتها الجميلة عن الجميلات والحب، والشجاعة، وسقاهابماء الفرات العذب الذي كان يصطاد منه السمك ليتغدى به، واستفاد من اصوات المكائن والآلات ووظفها في افلامه التي انتجها.
الإحــالات:
[1]) قاسم حول، مذكراتي،طريق الحرير للطباعة والنشر، 1920،ص21.
*هذا ما كان يحصل في بداية ظهور السينما ، قبل ان يكتشف الصوت ويضاف الى شريط الفلم ، وطبعا عرفها قاسم حول فيما بعد عندما اصبحت القراءة عن السينما هاجسه الاول(الباحث).
[2]) قاسم حول، المصدر نفسه،ص77.
[3]) مقابلة شخصية اجراها الباحث مع قاسم حول عبر الوتس اب.
[4]) قاسم حول، المصدر نفسه ،ص615.