قضاءَ القرنة* ، قضاءُ هادئٌ جميلٌ ، يحتضنهُ نهريْ دجلةَ والفراتِ ، يلتقيانِ على مقربةٍ منْ نخيلهِ السامقَ ، ملتقى للطيورِ ، والأحبةُ ، تعشقُ مجتمعهُ لما يحملهُ منْ كرمٍ وطيبٍ ونخوةٍ ، منْ هنا ولدَ الفنانِ باقرْ عبدِ لواحدِ عبيدْ سلمانْ عامُ 1940 ، بينَ الناسِ الكرماءِ ، بينَ الناسِ الذينَ يحملونَ أصالةُ الماضي وعبقِ الحاضرِ ، ولدَ وتفردَ عنهمْ رغمَ ما يحملونهُ منْ وعيٍ وثقافةٍ ، امتازَ عنهمْ بحبِ الحياةِ وفلسفتها فراحَ يبحثُ عنْ أسرارِ وجودها وجمالها ، فوجدَ المسرحُ خيرَ وسيطٍ يوصلهُ إلى حقيقةِ الوجودِ ، ويقربهُ منْ المجتمعِ بروحِ صافيةٍ نقيةٍ ، لمْ تأخذهُ الرياضةُ التي كانَ يمارسها بينَ الحينِ والآخرِ كهوايةٍ لصقتْ في مخيلتهِ ، لكنَ خيالهُ كانَ جامحا باتجاهَ فنِ المسرحِ ، أكثرَ ، فسرقةُ الأخيرِ منْ هواياتهِ الرياضيةِ ليلقيهُ على خشبةِ المسرحِ متأملاً لها ومتفاعلاً معها .
كانَ الأصغرَ منْ بينِ إخوتهِ ، ومدللاً لأنهُ كذلكَ ، وكانَ والدهُ مختارْ المحلةَ ، يلبي لهذا الأصغرِ رغباتهِ ، ولمْ يقفْ أمامَ رغباتهِ في مزاولةِ هواياتهِ الرياضةِ ، حيثُ كانَ عبدُ الواحدْ يمارسُ موهبتهُ في لعبةِ القدمِ معَ أطفالِ المحلةِ وبقتْ لصيقةً بهِ إلى أنَ دخلَ المدرسةِ الابتدائيةِ ، حيثُ أضافَ لها لعبةُ الساحةِ والميدانِ ، ولأنهُ ملكا ، أضافَ لعبةَ الملوكِ إلى هواياتهِ ، لعبةُ الشطرنجِ ، لينسحب بعدَ ذلكَ باتجاهِ القراءةِ ومطالعةِ الكتبِ ، حيثُ كانتْ تستهويهُ الفنيةُ منها والثقافيةَ والدينيةِ ، ولكنْ وبدون شعورِ منهُ انسلخَ منْ هواياتهِ الرياضةِ ، ليلتصق بالفنِ ، أحبهُ كثيرا ، كانَ شغلهُ الشاغلُ ، كانَ ينتظرُ شهر محرمٍ الحرامِ ، ليكونَ على رأسِ زملائهِ في إخراجِ واقعةِ الطفْ ، يجمعَ أطفالُ المحلةِ ، وزملائهِ الطلابِ ، ليقدموا عرضا مسرحيةً في ساحةٍ قريبةٍ منْ محلتهمْ .
كبرُ حلمهِ ، وعشق المسرحُ ، الذي كانَ يمارسهُ معَ زملائهِ داخلَ المدرسةِ في المناسباتِ الرسميةِ والاحتفالاتِ ، حيثُ أسسَ خلالَ دراستهِ فرقةً ( الملتقى ) للتمثيلِ عندما كانَ تلميذا في إعداديةِ القرنة ، ليعلق في ذهنهِ بعدَ كلِ هذا معهدُ الفنونِ الجميلةِ ، رغبةٌ منهُ في تنميةِ موهبتهِ ، وانْ يضعُ قدمهُ على الطريقِ الصحيحِ في عالمِ الفنِ والشهرةِ ، ما هيَ إلا سنواتٍ أعدها بسرعةٍ ، تجاهلُ الزمنِ لكيْ لا تطولُ عليهِ السنونَ ، ويكونَ أحدُ طلبةِ معهدِ الفنونِ في بغدادَ ، بغداد العاصمةِ التي لا يتوقفُ فيها الفنُ في كلِ مجالاتهِ ، حيثُ وجدَ المسرحُ بكاملهِ ، وجدَ المسرحُ بستائرهِ وقاعاتهَ المجهزةَ بأجهزةِ الإضاءةِ ، والمقاعدُ المريحةُ ، التي لمْ يكنْ يحلمُ بها ، لأنهُ أفضلُ كرسيٍ كانَ يجلسُ عليهِ كانَ ( رحلةُ المدرسةِ ) وأفضلِ خشبةٍ كانَ يرتقي عليها هوَ وزملاؤهُ ، يصممونها منْ (الصبوراتِ ومنضدةِ المدرسةِ ) ، زادَ حبهُ للمسرحِ ، بلْ كانَ يقضي جلُ وقتهِ يتمرنُ ويدرسُ ، فاكتسبَ المهاراتِ النظريةَ والعمليةَ ، كما عملَ هناكَ في بغدادِ الثقافةِ معَ فرقِ مسرحيةِ إضافةٍ إلى مشاركتهِ في العروضِ التي قدمها زملائهِ في المعهدِ ، فقدْ كانَ أحدُ أعضاءِ فرقةِ المسرحِ الفنيِ الحديثِ في بغدادَ للفترةِ منْ 1963 إلى عامِ 1964 . عامُ 1965 يعودُ إلى مدينتهِ بعدَ تخرجهِ منْ معهدِ الفنونِ ، وفي مخيلتهِ مشاريعَ كبيرةً ، ولأولِ مرةٍ كانَ زملائهِ ينادونهُ بالفنانِ وكانَ يحسُ بالنشوةِ تملأُ صدرهُ ، وتدفعهُ إلى أنْ يكونَ جديرٌ بهذهِ الصفةِ . كانَ يحملُ في جعبتهِ الكثيرَ منْ الأفكارِ التي طرحها على زملائهِ منْ بقيَ منْ أعضاءِ فرقةِ السابقةِ ، ويضيفَ إليهمْ أعدادا جديدةً ليقدمَ أعمالاً مسرحيةً ، تختلفَ هذهِ المرةِ عما قدموهُ في السابقِ ، حيثُ كانتْ تحملُ موضوعاتٍ عالميةً وعربيةً ، وكانتْ طريقةُ إخراجهِ تختلفُ عما كانَ سابقا ، فهذهِ المرةُ بدأَ بإعطاءِ الإرشاداتِ الأكاديميةِ والحرفيةِ للممثلِ ، وبدأَ يتحدثُ عنْ الديكورِ والأزياءِ ، وأهميةُ هذهِ العناصرِ للعرضِ المسرحيِ ، كلُ هذا كانَ عندما أعادَ إخراجُ واقعةِ الطفْ معَ زملائهِ القدماءِ . وبنفسَ العامِ أصبحَ مدرسا في إعداديةِ القرنة ، ليعيدَ فيها الذكرياتُ القديمةُ ، عملٌ على تقديمِ عروضِ مسرحيةٍ عديدةٍ معَ ثلةٍ منْ الطلبةِ الموهوبينَ.
ولأنَ مراكزَ المدنِ أكثرَ نشاطا منْ الأقضيةِ والنواحي ، لما تتمتعُ بهِ منْ اهتمامِ منْ المسؤولينَ ، ولوجودَ بنى تحتيةٍ عديدةٍ لتقدمِ ما ينتجُ منْ أعمالٍ فنيةٍ ، لذلكَ انتقلَ الفنانُ باقرْ عبدِ الواحدْ معَ عائلتهِ عامَ 1977 إلى مركزِ محافظةِ البصرةِ ، ليلتقيَ هناكَ بفناني المدينةِ المعروفينَ ، وكانتْ حينها فرحتهُ لا توصفُ بما وجدهُ منْ تعاونِ منْ قبلُ جميعِ الفنانينَ اللذينِ كانوا عونا لهُ في فسحِ المجالِ أمامهُ منْ أجلٍ تقيمُ كلَ ما في مخيلتهِ منْ مشاريعَ فنيةٍ ، لذلكَ قامَ وبالتعاونِ معهمْ في تقديمِ أعمالاً مسرحيةً عديدةً على مسارحِ المحافظةِ ، وقدْ ساعدهُ أكثرُ عملهِ في النشاطِ المدرسيِ التابعِ إلى مديريةٍ تريبة البصرةُ الذي عملَ فيهِ بصفةِ مدربٍ فنيٍ ، حيثُ وجدَ عددٌ منْ الفنانينَ المحترفينَ هناكَ ، والقسمُ الأكبرُ منهمْ كانَ زميلهُ في معهدِ الفنونِ الجميلةِ في بغدادَ أثناءَ تواجدهِ فيهِ ، وكانَ منْ بينهمْ ( الفنانُ محمدْ وهيبْ ، والفنانُ عبدُ الأميرِ السماويِ ، والفنانُ عبدُ الأميرِ السلميِ ، والفنانُ محمدْ البياتي . . . وآخرينَ ) ليتعاونوا فيما بعدُ بتقديمِ عروضِ مسرحيةِ لصالحِ مديريةِ التربيةِ ، كما التقى معَ الفنانينَ المتواجدينَ في نقابةٍ الفنانينَ فرعِ البصرةِ لكونهِ أحدَ أعضائها ، ولكيْ تكونَ خيرَ مكانٍ يتواجدُ فيهِ ، والتعرفُ على باقي الفنانينَ ، ويكونَ لهُ حظوةٌ كبيرةٌ بعدها في أنْ يشغلَ منصبُ رئيسِ نقابةٍ الفنانينَ فرعِ البصرةِ للفترةِ منْ 1979 إلى عامِ 1981 ، وقبلُ هذا كانَ أحدُ أعضاءِ الهيئةِ الإداريةِ للنقابةِ منْ عامِ 1975 ، وفي العامِ نفسهِ شغلَ منصبُ مدربٍ للفنونِ المسرحيةِ لجامعةِ البصرةِ لغايةِ 1978 ، وفي عامِ 1976 كانَ أحدُ الأعضاءِ المؤسسينَ لفرقةِ البصرةِ للتمثيلِ عندَ تشكيلها لأولِ مرةٍ ، وليكونَ هوَ على رأسِ الهرمِ في قيادةِ هذهِ الفرقةِ الكبيرةِ والتي مثلتْ محافظةَ البصرةِ في المحافلِ الثقافيةِ والفنيةِ في جميعِ الدولِ العربيةِ والعالميةِ ، وفي عامِ 1979 شغلِ منصبِ مديرِ تلفزيونِ البصرةِ ، قدمَ خلالَ هذهِ الفترةِ عروضا مسرحيةَ لصالحِ الجهاتِ التي ترأسها وغيرها ، وكانَ النقادُ حريصونَ على متابعةِ أعمالهِ لما تحملهُ منْ أبعادا جماليةً وفنيةً في ملتقياتهمْ الأدبيةِ ، وقدْ كتبوا عنها دراساتٌ ونقوداتْ عديدةً ، مما ساعدهُ لتقديمِ أعمالاً لصالحَ إذاعةِ وتلفزيونِ البصرةِ الذي كانَ يديرهما حينها الأديبَ والفنانَ إحسانْ وفيقْ السامرائي* ، ازدادتْ شهرةَ عبدِ الواحدْ بينَ أقرانهِ ، ليحصل على دعوةٍ منْ جامعةِ البصرةِ ، ليكونَ مدربا مسرحيا للنشاطاتِ الطلابيةِ ، وليقدمْ منْ خلالهمْ عروضُ مسرحيةٍ عديدةٍ .
كانَ لفرقةٍ ( البصرةُ للتمثيلِ )*دورا كبير في تعريفِ الفنانِ باقرْ عبدِ الواحدْ في المحافلِ المحليةِ والعربيةِ والعالميةِ ، منْ خلالِ مشاركةِ زملائهِ الفنانينَ العديدَ منْ الأعمالِ المسرحيةِ ممثلاً ، كما وأخرجَ البعضُ منها برؤى وأفكارٍ جديدةٍ تليقُ بالفرقةِ وبمنْ ينتمي إليها ، حيثُ قدمَ عصارةَ أفكارهِ الأكاديميةِ ، وحاولَ أنْ يقدمَ كلُ ما درسهُ وتعلمهُ في معهدِ الفنونِ الجميلةِ ، عنْ المدارسِ والمذاهبِ المسرحيةِ ، فقدمَ أعمالاً مسرحيةً لا زالتْ في ذاكرةِ محبيهِ منْ فنانينَ ومعجبينَ.
الإحــالات:
*أطلقَ على القرنة اسم ( كورني ) و ( كورنا ) ، و ( قلعةٌ قرنوا ) ، ثمَ سميتْ ( الجوازرْ ) ، ثمَ سميتْ ( العليةَ ) تيمنا باسمٍ ( علي باشا افروسيابْ ) . تولى الحكامُ عليها حتى أصبحتْ أحدُ أقضيةِ البصرةِ المهمةِ ، وضمتْ تحتَ إدارتها ( المدينةُ ( قضاءٌ حاليا ) ، والشرشْ ( ناحيةً حاليا ) ، والنهيراتُ ، والهويرْ ( ناحيةً حاليا ) ، ومزيرعة ، والسويبْ ) ، تقعَ القرنة على ملتقى دجلةَ والفراتِ اللذانِ يشكلانِ مياهُ شطِ العربِ ( ( إحسانْ وفيقْ السامرائي ، عبيرْ والتوابلِ والموانئْ البعيدةَ)
*إحسانْ وفيقْ السامرائي : ولدَ في سامراءْ عامَ 1940 ، شغلُ منصبِ مديرٍ عامٍ الإذاعةِ والتلفزيونِ في البصرةِ ، وهوَ عضوُ اتحادِ الأدباءِ والكتابِ العراقيينَ ، وعضوَ جمعيةِ التشكيليينَ العراقيينَ ، وعضوَ نقابةٍ الفنانينَ ، وعضوَ نقابةٍ الصحفيينَ العراقيينَ ، وعضوَ اتحادِ السينمائيينَ العراقيينَ ، وعضوَ مؤتمرٍ ( لايبزكْ ) السينمائيِ الدوليِ منْ 1972 – 1979 ن وعضوُ مؤتمرِ الإذاعاتِ العربيةِ ، شغلَ منصبُ رئيسِ تحريرِ وسكرتيرِ تحريرٍ ومستشارِ ومديرِ إدارةِ وعضوِ تحريرٍ لعددٍ منْ الصحفِ والمجلاتِ العراقيةِ ، وصدرتْ لهُ مجموعةٍ منْ الرواياتِ والقصصِ والدراساتِ السينمائيةِ والتشكيليةِ ( مجيدْ عبدَ الواحدْ النجارْ ، تاريخُ معهدِ الفنونِ الجميلةِ في البصرةِ ، دارُ الجنوبِ للطباعةِ والنشرِ ، البصرةُ ، 2019) .
*فرقةُ البصرةِ للتمثيلِ : في عامِ 1976 تشكلتْ الفرقةُ وهيَ تابعةٌ للفرقةِ القوميةِ الأمِ في بغدادَ ، وتفرغَ كادرها للعملِ المسرحيِ ، منْ الدوائرِ التي كانوا يعملونَ بها بصفةِ موظفٍ ( المصدرُ نفسهُ)