
عن مؤسسة لبان للنشر المعرفة، صدر للكاتب العماني سعيد السيابي كتابا يضم خمس مسرحيات مونودرامية بعنوان” على رقعة شطرنج”.
يحتوي الكتاب على مقدمة انجزها المسرحي عبد الرزاق الربيعي تحت عنوان: “مسرحيات (سعيد السيّابي): شخوص جريحة تبتسم وسط العتمة”. جاءت كالاتي:
“ ارتبط فن المونودراما ببدايات المسرح ونشأته لدى اليونانيين، كما يؤكّد دارسو المسرح، وذلك بعد أن خرج من المعبد مغادرا منطقة الطقوس الدينية التي ولد في رحمها، فانتقل من مرحلة إلقاء النصوص على الجمهور إلى تشخيص تلك النصوص التي كانت تنتمي للمسرح الشعري، كما أصطلح على تسميته لاحقا، ومع ظهور ثيسبيس أوّل ممثّل في التاريخ، وهو شاعر يوناني، دخل المسرح مرحلة جديدة هي مرحلة التمثيل، عندما خرج ثيسبيس عن جوقة ديونيسوس، وأدّى شخصية في العرض راحت تجري حوارا مع الجوقة، مثلما استخدم الأقنعة، حدث ذلك بحدود عام 534 ق. م، ويرجّح الدراسون أن للشاعر اليوناني يوربيديس قصب السبق في كتابة مسرحيات تعطي مساحة واسعة في بدايتها لممثّل واحد، هذه المساحة يتحدّث خلالها مع الجمهور، أو مع نفسه، أو مع الجوقة عن الأحداث السابقة للعرض الذي تنطلق منه أحداثه، من خلال سردها، فيقدّم ملخّصا، ويمكن اعتبار هذه المقدمات بدايات لعروض (المونودراما) .
بعد ذلك شهد المسرح تطورات عديدة استمرّت إلى يومنا هذا، وبقيت عروض الممثل الواحد تحتلّ حيّزا على خشبة المسرح، وبين حين وآخر تقام مهرجانات خاصّة بها، رغم أن مخرجا كبيرا كبيتر بروك يتحفّظ عليها، لأنّها تفتقر لعنصر التفاعل الذي يقوم “بين ممثّل أوّل، وممثّل ثان ضمن ثنائية الأخذ والرد، التي تؤسّس لفعل درامي حقيقي على الخشبة” كما يقول وهذا “يفقد المسرح الكثير من ألقه، ووهجه الخاص، فهو يعتمد الممثل الواحد الذي ينبني عليه العرض بأكمله”، لكنّ ظهور العديد من الكتّاب والمخرجين، والممثّلين القادرين على ملء خشبة المسرح بالكثير من الأحداث التي تقف على أكتاف ممثّل واحد ضمنت لفن (المونودراما) الاستمراريّة، من خلال تقديم عروض بقيت في ذاكرة الجمهور، ومن بينها مسرحيّة(الحصان) للكاتب كرم النجار والمخرج أحمد زكي، وقدّمتها الفنّانة الكبيرة سناء جميل، وقد افتتح بها “مسرح المنصور” في بغداد مطلع الثمانينيّات، حيث وقفت الممثلة بمفردها لتؤدي شخصية (د. أميمة القناوي) على خشبة المسرح على مدى حوالي ساعة ونصف.
ولعلّ الصعوبات الجمّة التي يواجهها المسرحيّون في فن المونودراما، هي التي تجعلهم ينصرفون عنه، ووجه الصعوبة أن ّ المونودراما فن يحتاج الى ممثل محترف يمتلك قدرة على ملء خشبة المسرح لتقديم عرض كامل بمفرده، ويسعى بكل أدواته لشدّ أنظار الجمهور اليه، دون أن يشعروا بالملل، لذا فالذين تصدّوا لهذا النوع من المسرح أغلبهم من الممثّلين المقتدرين، بل أن البعض يفضّله على العروض التي تشترك فيها المجاميع، يقول الفنّان عبد الحكيم الصالحي الذي قدّم عرض (مجرّد نفايات) للمخرج خالد العامري، والكاتب قاسم مطرود، ونال عنه جائزة أفضل ممثل في مهرجان المسرح الجامعي الخامس الذي أقامته جماعة المسرح في جامعة السلطان قابوس عام 2009، وجائزة أفضل أداء عن مسرحيّة(الحيّالة): “أجد في المونودراما مساحة واسعة لإظهار قدراتي الفنّيّة، في التعبير الحركي، بينما لا يتوفّر لي هذا في المسرحيات التي تعتمد على المجاميع، ففي المونودراما أجد نفسي ملكا يحكم مملكة هي خشبة المسرح، لذا فهو أقرب الفنون المسرحيّة إلى قلبي”.
ومثلما (المونودراما) أقرب الفنون المسرحية إلى قلب الفنان عبدالحكيم الصالحي، ممثلا، فهي أقرب الفنون المسرحية للدكتور سعيد السيابي كاتبا، فقد كتب عددا من النصوص المسرحيّة التي تنتمي لفن( المونودراما)، عرض بعضها على خشبات المسارح، وقد قام باختيار خمسة نصوص مسرحيّة لينشرها في كتاب، فكان (جسر على رقعة شطرنج)، والمسرحيات هي: امرأة في مهبّ الحبّ، وبين الجسور، جسر على رقعة شطرنج، جميلة والوردة، ومنشار.
حين نقرأ الكتاب تأسرنا عذوبة السرد، فقد استفاد السيّابي من تجربته السرديّة، فقد سبق له أن أصدر عدة مجاميع قصصية هي : مجموعة “رغيف أسود”، دار الغشام للنشر والترجمة، مسقط 2015. و”أحلام الإشارة الضوئية”، الجمعية العمانية للكتاب 2017. و”المبرأة والقلم”، دار الغشام للنشر، والترجمة، مسقط 2018. و”مشا..كيك”، وروايات هي :”جبرين.. وشاء الهوى”، 2016. ورواية “الصيرة تحكي”، دار اللبان، مسقط 2020، و”جابر الوصية الأخيرة” 2023م إصدارات النادي الثقافي، وقد استفاد في مسرحيّته (جسر على رقعة شطرنج) التي حمل الكتاب اسمها، من قصة قصيرة قام بمسرحتها، ليؤكد لنا أن القصة والمسرحية تخرجان من رحم واحد هو السرد.
وتعالج المسرحيات عدّة قضايا إنسانية، ففي مسرحية (امرأة في مهبّ الحب) ينفتح الستار على امرأة في أواخر الثلاثينيات(مريم) داخل غرفة علاج نفسي وجهها متعب.، وشخصيتها يتجسّد فيها الألم، ولهفة الشوق، تجلس على كرسي متوهّمة جلوسها أمام طبيبتها النفسية، تخاطب الطبيبة تارة، ونفسها تارة أخرى، ورجلا غائبا، موصوما بالخيانة مع صديقتها، أما نص (بين الجسور) فهو يتحدّث عن أم تعيش ببقايا منزل مهدم، وسط صور شخصية للحفيد وللأبناء ترى بأن مصيرها معلّق على جسر ما وهي تصغي إلى أصوات آلات الحفر وهي تحفر لبناء الجسر، فتهدم كل ما في طريقها وحين اعترضت قالوا لها “أن المصلحة العامة فوق أي اعتبار، لم يتوانوا عن هدم كل شيء يقف أمامهم، ها هم اليوم يحفرون دون أن يوقفهم أحد، إنهم لا يحفرون الأرض، بل يحفرون قلبي النابض بالذكريات المحمولة على الجدار”.
ويتحدّث نص (جسر على رقعة شطرنج) الذي أعدّه عن قصة (المعلم والجسر المعلّق) المنشورة في مجموعته (رغيف أسود) فتبدأ من قرار إحالة معلّم إلى التقاعد وما رافق ذلك من آلام، فهو يرى أنه بيدق آخر صار خارج الرقعة، فيقول” عشت أزحف لا لانتصر، بل لأمنح الآخرين لذة النهوض ونعمة الإبصار في العتمة”
ويستلهم أحداث نص (جميلة والوردة) من حياة المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد، وينطلق العرض من داخل سجنها فتظهر للجمهور مرتدية ثياب السجن تتحدّى جلّاديها، وتخاطب سجّانيها “أذناي ما عادتا تتحملان وقع أقدامكم.. خطواتكم تدك ذكرياتنا… أحلامنا بعد أن دكّت أرضنا وداست اجسامنا. اعترفي، كرّرتموها آلاف المرات، وفي كل مرة ما كنت أخاف أو أخجل أو اندم على ما قمت به” أما نص (منشار)، فبطله رجل أعمال طاعن في السن، مريض ومشلول جزئيًا، يرقد على سرير المستشفى) تمر على وجوده في المستشفى سبعة شهور دون أن يمر به زائر، حتى يشعر أن الصمت هو زائره الوحيد، فقد نسيه الجميع حتى ظلّه، كما يقول، بعد أن كان يُشار له بالبنان، يقول” قالوا الصديق وقت الضيق لكنهم نسوا أن الضيق طويل، وأن بعض الأصدقاء لا يقفون في الطابور كان لدي الكثير أو هكذا خُيّل لي عندما مرضت، تذكرتهم جميعًا، لكن لم يطرق بابي أحد هل كانوا خيالًا؟ أم كنت أنا الوهم؟”.
إنّ قوة التعاطف الإنساني هي القاسم المشترك الأعظم في شخوص مسرحيّات د. سعيد السيابي، المعذّبة، القلقة، التي تعاني من الشعور بالعزلة، لكنّها لم تستسلم لمصيرها، بل تتحدّى الظروف التي وجدت نفسها تعيش إزاءها، فـ(مريم) في مسرحيّة (امرأة في مهبّ ريح) ترفض أن تبقى “أسيرة ذاكرة مشوهة” وفي النهاية تثور على نفسها وتقول” لن أكون بعد اليوم ورقة في مهبّ الريح… لن أكون ظلًا في انتظار الشمس… الحب الذي لا يقاتل للبقاء، ليس حبًا، والريح التي تأخذ ولا تعيد، ليست ريحي… حان وقتي لأكون أنا العاصفة!”
وفي مسرحية (بين الجسور) تقول الأم ابنتها بكلّ قوّة وإصرار “اكتبي على شاهد قبري حين يستخرجون جثتي من الهدم: “هذا موطن امرأة رفضت أن يمرّ الجسر على ذكريات جدتها، أبنائها حفدتها… الجسور تبنى ولا تهدم…لا تتخذوا قبرها مزارا، إنها ترقد في روضة وليس مقبرة”. اكتبيها وعلميها لأبنائك من بعدك، سأموت شامخةً على أثر الذكريات. قولي لهم هنا ماتت أمي التي رفضت جسر الهدم وطالبت بجسر الحياة . وعندما يفتتحون الجسور الجديدة علقي على اسيجتها لافِتة تقول: هنا عاشت أمي المحبة لبيتها يا قادة وطني العظيم قبل أن تبنوا جسّورا للعربات شيدوا جسرا قويا يربط بين المواطن والوطن”.
وفي مسرحية (جسر على رقعة شطرنج) يقول المعلّم “كلّ مربع تخطّيته كان درسا. وكل كبوة كانت سؤالا …. أثر أقدامي تدلّ عليّ، غادرت الرقعة ولن أغادر اللعبة، سأتمّم مهمّتي في صمت وكبرياء. البيدق لم يطلب التاج يوما، ولكن على الدوام يفتح الطريق”، وفي النهاية يخاطب نفسه: “هيا يا رجل انسحب في صمت ارفع وصايتك عن جيل يتجدد…زمنك فات وزمنهم آت. نحن نلد اجدادنا…والأخرون يخلّفون الأحفاد… ليتني كنت جسرا، لحملت الأولاد والبنات واحدا تلو الآخر، جيلا بعد جيل نحو ضفة الحروف، نحو دفات الدفاتر، نحو ظل المعنى”
ولم يكسر السجن في مسرحيّة (جميلة والوردة) ابتسامة (جميلة بوحيرد) بل ظلّت ترافقها القوة والكبرياء، فحين يشتدّ تعذيب الجلّادين لها، تخاطب نفسها “اصمدي ولا تستسلمي مهما فعلوا سيأتي يوم تنمو فيه الورود في كل بيت في وطني – تنبت فوق الانقاض… وسنحلم جميعا بوطن بلا محتل.. سنحلم بالانتصار القريب” وهذا ما تحقّق للشعب الجزائري حين ثار على المحتل الفرنسي في الأول من نوفمبر 1954 م بعد 124 سنة من الاستعمار.
وفي مسرحيّة (منشار) يظلّ البطل يبحث عن الأمل، والخلاص، ففي قمّة شعوره بالعزلة والوحشة، يشرق الأمل، فهو يقول “بالأمس فقط رأيت صرصارًا يمشي فوق سريري. ضحكت.. لأول مرة منذ زمن طويل، شعرتُ أن أحدًا يشاركني المكان، حتى لو كان حشرة”، وهذه الصورة القاسية أحالتني إلى أحد مشاهد فيلم (الفراشة) الذي أنتج عام 1973م لستيف ماكوين وداستن هوفمان فحين يعاقب البطل (بابيلون) بالحبس الانفرادي يرى خنفساء، فيشعر بالسعادة لأن كائنا حيّا صار يقاسمه المكان، فغمرته السعادة مثلما غمرتنا، ونحن نقرأ مسرحيات د. سعيد السيّابي، ذات اللغة الشعريّة العذبة، وكم ستتضاعف متعتنا لو رأيناها مجسّدة على خشبة المسرح! “



