مقالات

نقد استقراء المسرح العربي في الدراسات الأكاديمية المعاصرة: قراءة في إشكالية المنهج والمعرفة/ ميشيل الرائي 

تشكل المقاربات المتناقضة التي يتبناها بعض الباحثين المتخصصين في الدراسات المسرحية العليا ظاهرة جديرة بالدراسة النقدية والتحليل المنهجي. إذ نجد أنفسنا أمام خطاب أكاديمي يتأرجح بين إنكار وجود “مسرح عربي” بالمطلق، وبين حصر الظاهرة المسرحية في تجارب محدودة جغرافيًا أو تاريخيًا. هذا التذبذب لا يعكس مجرد اختلاف في الرؤى النقدية، بل يكشف عن قصور معرفي ومنهجي يرتبط بسوء توظيف آليات الاستقراء العلمي ومحدودية الأطر النظرية المستند إليها في البحث.

وفقًا لقواعد المنطق العلمي، لا يمكن لأي استقراء جزئي أن يقود إلى حكم كلي صالح ما لم يُبنَ على قاعدة بيانات شاملة وممثلة للظاهرة محل الدراسة. إصدار حكم كلي ينفي أو يثبت وجود المسرح العربي يتطلب حصرًا وتحليلًا منهجيًا لمجمل الممارسات المسرحية المكتوبة والمُمَسرحة عبر الأزمنة والأمكنة المختلفة، وهو ما لم يتحقق في معظم الدراسات المعاصرة. إن القصور هنا لا يقتصر على ضعف أدوات الاستقراء، بل يمتد ليشمل غياب التعريف الإجرائي للمسرح الذي ينبغي أن يشكل نقطة البداية في أي مقاربة أكاديمية.

إن التمييز بين التعريف اللغوي للمسرح – بما يحمله من شمولية تسمح بتوسيع دائرة الظاهرة المسرحية لتشمل ما قبل المسرح وما بعده – وبين التعريف الاصطلاحي الذي يضبط الظاهرة وفق معايير فن الأداء والتمسرح، يمثل خطوة منهجية أساسية. تجاهل هذا التمييز يُفضي إلى إنتاج أحكام نقدية غير مؤسسة معرفيًا، ويُضعف قدرة الباحث على صياغة استنتاجات متماسكة.

وتظهر هذه الإشكالية بوضوح في المشهد الأكاديمي العربي – والعراقي على نحو خاص – حيث يتم التركيز على أسماء محددة تُقدَّم بوصفها مؤسسي المسرح العربي، مثل مارون النقاش وأبو خليل القباني ويوسف إدريس وتوفيق الحكيم وسعد الله ونوس، دون توسيع الإطار البحثي ليشمل تجارب مسرحية عربية أخرى ذات أثر نوعي في تطوير أشكال الأداء المسرحي، مثل عبد الكريم برشيد (المسرح الاحتفالي)، عز الدين مدني، محمد الكغاط، ريمون جباره ومنير أبو دبس، أنطوان ولطيفة ملتقى، الطيب الصديقي، محمد تيمد، الفريد فرج، والمسرح الجزائري مع رواده عبد القادر علولة وعز الدين مجوبي وغيرهم.

إن غياب هذه الأسماء من المراجع الأكاديمية يعكس – وفق منظور دراسات الثقافة والمسرح – مركزية معرفية ضيقة تعيد إنتاج نفس المرجعيات، وتقصي التجارب التجريبية والهامشية وغير المكتوبة، التي غالبًا ما تحمل طابعًا طليعيًا وقدرة على تجديد الخطاب المسرحي العربي. ويؤدي هذا القصور إلى ما يسميه بيير بورديو “إعادة إنتاج البنية الرمزية المهيمنة”، حيث تتحول المناهج الجامعية إلى فضاء لتكريس سردية واحدة عن المسرح العربي، بدلاً من فتح النقاش على تنوع التجارب وثرائها.

هناك حاجة ملحة لإعادة النظر في الدراسات المسرحية في العالم العربي بشكل منهجي شامل. من الضروري وضع تعريف عملي وواضح للمسرح يجمع بين الجماليات والأداء والسياق الثقافي والاجتماعي. كما يجب توسيع قاعدة المعلومات لتشمل جميع التجارب المسرحية، سواء كانت رسمية أو غير رسمية، مكتوبة أو شفهية، تقليدية أو تجريبية. ويستحسن الاستفادة من تخصصات متعددة مثل السيميائيات ودراسات الأداء ودراسات ما بعد الاستعمار لفهم المسرح العربي في سياقه الثقافي بشكل أوسع. بالإضافة إلى ذلك، من المهم تحليل الخطاب الأكاديمي ذاته للكشف عن أي تحيز أو إقصاء في إعادة تشكيل صورة المسرح العربي. إن هذه المراجعة ليست ترفًا فكريًا، بل شرط أساسي لبناء خطاب أكاديمي دقيق يعكس تنوع وتعقيد المسرح العربي ويتجاوز الأحكام المطلقة أو الجزئية.

Related Articles

Back to top button