كتاب الخميس (الحلقة الثامنة والخمسون) / عرض وقراءة: نجيب محبوب

**************
التعدد : أبعاده و دلالاته في فكر و شخصية رضوان احدادو
قراءة في كتاب” رضوان احدادو في تعدديته : من الكتابة الدرامية إلى التأريخ للمسرح بالشمال”.
للناقد المسرحي الدكتور محمد محبوب
مما لاشك فيه أن المسرح يعد أحد الأشكال التعبيرية التي تواكب تحولات المجتمع، وتجسد نبضه الثقافي والفكري، ويمكن أن يكتسب طابعا خاصا حين يزاوج بين الإبداع الفني والبعد التاريخي، كما هو الحال في التجربة المسرحية بالشمال المغربي.
في هذا السياق المنفتح يندرج كتاب ” رضوان حدادو في تعدديته- من الكتابة الدرامية إلى التأريخ للمسرح بالشمال-” للناقد المسرحي الدكتور محمد محبوب، كعمل نقدي استثنائي يسعى إلى تسليط الضوء على تجربة أحد أبرز الأسماء الفاعلة في الساحة المسرحية بالشمال، ويتتبع مساره، ليس فقط كمبدع درامي، بل كفاعل ثقافي ساهم في توثيق وتحريك الذاكرة المسرحية للمنطقة. رغم أنه ليس من السهل مقاربة تجربة مسرحية مثل تجربة رضوان احدادو، لما تنطوي عليه من تعددية مختلف الشكل والدلالة والأوجه، ذلك أن حدادو يحضر على مستوى الابداع الراقي وعلى مستوى التأريخ العميق والرصين، والكتابة الدرامية المتميزة وهو بذلك يرسم صورة المثقف الغزير المعرفة، والواسع الاطلاع. لكن السمة الأساسية والدلالة العميقة لهذا التعدد تتمثل في العطاء المتنوع، فهو الكاتب الدرامي المبدع الأصيل، وهو المؤرخ الواسع المعرفة، المتمكن من أدواته، والمحصن بثقافته ومعرفته التاريخية ومصادره ومراجعه، وهو المنظر الاحتفالي العارف بأسرار الركح المنفتح على الحياة برحابتها وتعدد تجاربها، وهو السياسي المتشبع بالقيم التعادلية النبيلة التي تشربها في حضن الحركة الوطنية ص 18 . وإذا كانت تعددية الرجل غير قابلة للاختزال في اتجاه واحد. فهو كما يكشف منجزه، لا يشتغل ضمن القوالب المألوفة، بل يغامر في فضاءات تتقاطع فيها الهواجس الإبداعية بالقلق الفكري، ويتجاوز فيها الحكي بالتمسرح، والواقعي بالتجريدي، دون أن يفقد خطه الخاص الذي يعنى بالسؤال أكثر من العبرة، وبالتحول أكثر من الاطمئنان.
من هنا كانت الحاجة إلى هذا الكتاب النقدي، لا بصفته حصيلة توثيقية لمسار مسرحي، بل كدعوة للتفكير في هذه التجربة من زوايا متعددة، توازي تعددية النصوص والعروض والرهانات التي تراكمت عبر السنوات.
ومحاولة جادة لإعادة قراءة إنتاج رضوان احدادو من زاوايا مختلفة : إبداعية وتاريخية ونقدية، إذ تلامس التداخل بين الكتابة الدرامية التي مارسها احدادو بتنوعها الفني، وبين اهتمامه بتوثيق التجربة المسرحية في الشمال المغربي، مما يجعل من هذا العمل النقدي المميز وثيقة ذات قيمة مزدوجة: جمالية وتاريخية ونقدية.
و لأن التحليل النقدي لا يكتمل دون تمثل تعددية التجربة، فقد جاء الكتاب موزعا على محاور الآتية:
- محور الكتابة التاريخية : مقوماتها ومقصديتها ومنهجها. و قد بين الناقد محمد محبوب من خلال هذا المحور أن الكتابة لدى رضوان حدادو تخضع لقواعد وضوابط البحث العلمي، من حيث اعتمادها على الأرشفة والتوثيق والتصنيف.
أما المنهج التأريخي فقد استند إلى تتبع السيرورة التطورية بغية رصد الدينامية المسرحية بالشمال. لكنه انفتح على مناهج أخرى وخاصة المنهج السوسيولوجي لغاية ربط الظواهر الفنية المسرحية بالسياقات التاريخية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية. أما عن المقصدية فإن التأريخ لدى رضوان حدادو يهدف إلى احياء ذاكرة المسرح بالشمال وإعادة النظر في مجموعة من المغالطات وتصحيح تصورات راسخة وجاهزة في التاريخ والذاكرة المسرحية المغربية، والتصدي لمحاولة طمس ومحو معالم الحركية المسرحية في الشمال.
- محور الكتابة الدرامية : خصائصها الفنية ومقوماتها الجمالية وحمولتها الدلالية. وقد رسم من خلالها الناقد عناصر التجديد على مستوى الكتابة الدرامية لرضوان حدادو، مثل توظيف التغريب والتأرخة، واعتماد الادهاش، وادماج الشخصيات التراثية في محيط العصر ومتغيرات الواقع بقصد مساءلته للواقع وقراءته نقديا.
أما محور تعامل النقد مع المنجز الدرامي، فقد لاحظ المؤلف نذرة في التعامل مع نصوصه. ذلك أنه رغم التطور الذي عرفه النقد بالمغرب ككتابة ومناهج، فإنه يظل محكوما بمنطق الصداقات والعلاقات الشخصية. وقد مثل الأستاذ محمد محبوب لتعامل النقد مع كتابات رضوان حدادو بنموذج الناقد الدكتور حسن الصغيري الذي قارب موضوع المدينة في المنجز الدرامي لرضوان حدادو عبر استخدام نموذج المنهج الموضوعاتي في المقاربة المذكورة.
إن هذا الكتاب، رغم ما يزعمه صاحبه بأنه لا يدعي الإحاطة بالتجربة الشاملة لاحدادو، إلا أنه استطاع أن يبرز باقتدار كبير البعد الثقافي والسياسي الذي ميز مسار هذه الرجل، وينجح في مقاربة تجربته عبر مفاصل كاشفة أضاءت منجزه كمؤلف ومؤرخ وفاعل ثقافي ظل وفيا لفكرة “المسرح باعتباره تساؤلا وقلقا دائما.
إن كتاب ” رضوان احدادو في تعدديته ” ليس شهادة في رجل، ولا جردا لمسار، بل هو محاولة لقراءة تجربة فنية لا يمكن فهمها دون التوقف عند تعددية احدادو في الكتابة، وهي تعددية لا تقتصر على الشكل أو الجنس المسرحي، بل تمتد إلى المنطلقات الفكرية التي تؤطر اشتغالاته.
و إذا كان المسرح لحظة كثافة، فإن احدادو من أولائك القلائل الذين يحولون الكثافة إلى رؤية، والرؤية إلى قلق، والقلق إلى كتابة.
ورغم ما يحمله الكتاب من بعد إنساني واضح، ونزعة وفاء لقيم الوفاء والاعتراف. وتجسيد جلي لضرورة توثيق تجارب رواد الثقافة المغربية وهم أحياء، لا بعد رحيلهم. فإن الدكتور محمد محبوب يبرز كناقد ذو نزعة توثيقية دقيقة وموسوعية، يعيد الاعتبار للكاتب مسرحي موهوب ولفضاءات جهوية (مثل الشمال المغربي ) عادة ما يتم تهميشها في التأريخ المركزي للفن المسرحي. وهو واع بأهمية التاريخ الثقافي المحلي، ويعتبره جزءا لا يتجزأ من المشروع الوطني لتثبيت هوية المسرح المغربي. هذا يجعله قريبا في منهجه من “النقد الثقافي” حيث لا يكتفي بتحليل النصوص، بل يبحث في السياقات، البنيات ، والمؤسسات.
و من ثم فالدكتور محمد محبوب لا يقدم من خلال هذا الكتاب قراءة سيميائية و منهجية حديثة بحثة، بل يتعامل مع تجربة رضوان احدادو كمادة ثقافية- ابداعية مركبة تجمع بين الكتابة و الفعل السياسي و الهوية المتوسطية و الذاكرة النضالية.