“كونتينر” مسرحية تبدع في طرح ومواجهة الأفكار / عبدالله العطية

تألقت مسرحية “كونتينر” على خشبة مسرح جمعية الثقافة والفنون بالأحساء ليلة البارحة، وقد أبدع الفنان كميل العلي والفنانة مريم حسين في تقديم المشاهد باحترافية مدهشة، وهذا ما شهده الجمهور خلال العرض، ورغم أن هذه المسرحية تعرض للمرة الثالثة في الأحساء إلا أن المسرح كان ممتلئًا تمامًا، مما ينبئ أن الجمهور يرغب في مشاهدة فنًا مسرحيًّا حقيقيًّا، وهذا ما لمسته فعليًّا من خلال التفاعل والاندماج مع الأحداث.
الكونتينر يحيلنا على دلالة التنقل؛ الانتقال من زمان أو مكانٍ إلى آخر، ومن الخطأ تأويل العنوان في مستواه الدلالي المباشر، لأنك لو قلت الحاوية التي تنقل البضائع، لتعارض هذا المعنى مع الأحداث، مع أني أجد أن الستارة المعلقة تشير إلى دلالة العنوان والمكان، ولا أريد أن أحمل المعنى أكثر مما يحتمل.
زوجان ساقتهما الأقدار إلى الوقوف على قارعة طريقٍ مجهولةٍ، يتذكران الحياة الرغيدة التي عاشوها بعدما تسرب صوت الموسيقى من المعلمة العازفة بالمعهد إلى قلب الصيدلاني أثناء خروجه من الصيدلية للتدخين، وتحضر التناقضات المغلفة بالمشاعر بين الذات الحالمة، والذات المشبعة بالخيبة، والقرارات التي يتخذها الطرفان والتي تسهم في تحولات الحدث، تتسارع الأحداث محملةً بمعاناة الزوج من المسؤوليات الملقاة على عاتقه التي دفعته إلى اتخاذ قرارات خاطئة تغير مسار حياته.
ولم أنظر إلى موضوع المسرحية الهادف والقضية التي تعالجها في سبيل نشر الوعي الفكري بقدر ما هالني أداء الفنان كميل العلي في رسم البعد النفسي للشخصية، الخوف من كل شيء…، القلق المستمر من الواقع والمستقبل الذي خلفته تراكمات الماضي المأساوية، إضافة إلى حركة الشخصية في الفضاء المسرحي، ولم أغفل عن التغذية البصرية التي قدمتها السينوغرافيا على مستوى الإضاء، وألوان الملابس، والعزف بالورد مع الصوت الموسيقي، والمرايا المستخدمة ودورها في جذب انتباه المتفرج للحوارات المحتدمة بين الطرفين، مما وضعته في مواقف الدهشة، إنها حقًّا لوحة فنية بديعة!
المسرحية مشحونة بالصراعات الداخلية المتجذرة لدى الشخصية جراء الظروف القاسية التي مرت بها، الفقر الذي غرس مخالبه بلا رحمة، مما أدى إلى نشوب الصراعات الخارجية بين الزوجين القلقين على حياتهما، والقرارات المتخذة من قبل الزوج فاقمت من الأزمة، وأهوت به إلى منزلق مجهولٍ يصعب الخروج منه.
هذه الأحداث المغلفة بالمأساة والقائمة على تقنية استذكار الماضي، وما طرحته من أفكار تمثل جوهر المسرح، ومن صميم وظائفه، وينبغي أن تدرك أن المسرح القائم على الأفكار الذهنية يصعب تمثيلها إلا أن مسرحية كونتينر قدمت نموذجًا مثاليًّا في إمكانية تمثيل هذا النوع من الأعمال رغم السردية الطاغية، إلا أن النجاح يتمثل -كما ذكرنا- في قوة أداء الشحصية، والسينوغرافيا، وسلاسة التنقل بين المشاهد، هذه التجليات الفكرية والجمالية تجعلنا أمام مسرحٍ معاصرٍ متميز.
ختام المسرحية هو رسالة للمتلقي بأنه ينبغي على الإنسان تحمل تبعات أفكاره وقراراته، وهذا ما يؤكد على دور المسرح الكبير في مواجهة الأفكار المتطرفة التي تعرقل حياة الإنسان، وعليه فإن المسرح يمثل عن الإنسانية، وسمو الحياة الاجتماعية الكريمة.