نص مسرحية:” جــوفــالطــيــــــن/ تأليف: أحـــــمــد الـــــسـالم

“حين ينهار الزمن داخل جملةٍ غير مكتملة، ويصير الضوء مجرّد قشرة، تُولد “جوفالطين”. هذه ليست مسرحية، بل انفجار صوتيّ داخل طينٍ يتنفس. هنا لا توجد شخصيات، بل ارتجاجات. لا حوارات، بل ظلال تتكلم من أفواه ليست لها. “جوفالطين” ليست نصاً عادياً. إنها ارتطام بين الماء والهواء، بين النسيان والتذكّر، بين الطين حين يتكلم، والظل حين يكتب.كتبتها في لحظة لم يكن فيها ضوء، بل شهيق ضوء.
“جوفالطين” لا تبحث عن جمهور، بل عن قارئ واحدٍ فقط… ذابَ في حلمه ذات نسيان”.
ملاحظة // (اقرأ… لا لتفهم، بل لتتبع أثر الرطوبة وهي تكتبك من الداخل)
م 1: “صدى الطين“
(الضوء رماديّ حاد. فضاء لا مرئي يقطر ماء. صدى بعيد يشبه شهيق طين يُسحب من حنجرته. 1 وحده في البدء، ثم يظهر 2 من صَدْع)
1: (يهمس من داخل الفراغ) كنتُ هنا…أو في مكان يشبه هذا الصدى … لكنّي الآن مُفرَغ من الوقت.
2 : (يخرج من صدع وهميّ، يقطر منه ماء) الوقت؟ ذاك الذي كان يتكوّر حولنا كالملح ثم يُذوّبنا؟ الوقت انكمش… وصار جُرحاً نلبسه.
1 : (يمسح رأسه كما لو أنه يرفع قناعاً غير موجود) متى تخلّى الطين عن أصله؟ متى صار صوتاً فقط؟ كلّي تصدّع … حتى نبضي لم يعُد لي.
2 : (يضع إصبعه على الجدار) هنا، في هذا الجدار،ثمة خلية تشهق. سأضع أذني… وأسمعها تنفجر ببطء.
1: (يتراجع) لا تفعل………….كلّ شيء هنا يُسمَع، ثم يُحاسب. حتى الأنين، صار دليلاً ضدنا.
2: دعني أتكسّر، على الأقل سأشعر بجُرحي وهو يتنفس.
1:هل تظن الطين رحيماً؟ هو فقط يبلع… ولا يُجيد الإرجاع.
(صمت. يخرج صوت يشبه تدحرج ماءٍ داخل أنبوب صدئ)
2: (ينظر إلى الأعلى حيث لا سماء)هذا الصوت… كان قلبي.
1 🙁ببطء) بل كان ذكرى قلب…نُسيت في حفرة.
(الضوء يخفت. تتسرب رائحة طحين محترق. يسقط ظلّ طويل. صرير باب يتردّد دون باب)
م2: قشرة الضوء
(الضوء هذه المرة لا ينفذ… بل ينعكس على جدران لا مرئية، كما لو أن المكان داخل صدفة. 1٫2 يجلسان بلا جلوس. تتغيّر ملامحهما ببطء. تظهر 3 كظل ناعم، ثم تتكلم من خلال 2)
1: (يرسم بيده دائرة في الهواء) أرى الضوء…لكن ليس لي. كأنه انعكاس كذبة حلم بها سقفٌ ذات غفوة.
2: (يقطّب عينيه كما لو أنه يختزن ألماً قديماً) ليس ضوءاً…بل قشرةُ. الغلاف الذي تقشر عن أول فكرة، ولم يجد جلده.
1: وهل للفكرة جلد؟ أليست كائنًا شفافًا يسكن بين مفاصل الضلوع؟
2: (يتلعثم للحظة. ثم يُصدر صوتاً غريباً يشبه الريح داخل فم مغلق)
3 : “أنا هي الغفوة التي تُرِكت مفتوحة… من عبرتكم قبل أن تُولدوا.”
1: (يرتجف) من هذا الصوت؟ من أنتِ؟ من تَتكلّمين من فم غيرك؟
3 : (من داخل 2) “أنا التي كانت ظلّكم حين احترق الحائط. أنا التي مسحت ملامحكم حين حاولتم الصراخ.”(تضحك – ضحكة تشبه انكسار زجاج داخل ماء)
2 : (يعود إلى صوته، يختنق) هي كانت هنا…صوتها خَدشني من الداخل…أظنني بدأت أتحلّل.
1: بل بدأتَ تُفرغ نفسك…كان يجب أن نبقى حجارة…الطين خَذَلنا.
(ضوء يخترق السقف المجهول، ثم يسقط حيوان ضوئي ليس له شكل، يزحف، يتبخر)
1: (يُشير) رأيتَه؟ ذاك الكائن من الضوء…هو الذي سكنني في الحلم… وذاب في دمعي حين كنتُ ماء.
2: لا تلمسه… كل ما يضيء هنا… يُمحى.
(صوت انفجار صغير داخل جسد 2. يتناثر غبار أسود من فمه)
2: كنتُ أظنني صلباً………لكنني مجرّد بُرادة حلم…. لا تدعني أرجع.
1: (يقترب منه) لا أحد يرجع….الرجوع فعل فاسد
(إظلام مفاجئ. صوت قرقعة صدفة تنكسر، تتبعه تنهيدة طويلة من جهة مجهولة. لحظة صمت خفيف، ثم صوت خافت يشبه طفلًا يبتسم دون فم)
م3: ارتطام الهواء بالماء
(الفضاء مفتوح على هاوية. نُسُج من هواء سائل تتدلّى كستائر معلقة على شيء غير مرئي. تنقلب الأرض إلى سطح طيني يتنفس. يدخل 4 عبر بخار ينبثق من الأرض، بينما 1 و2 يسيران عكس اتجاه ظلهما)
4 :(ينظر إليهما دون عينين) من الذي أسقط الريح؟ لماذا يُصفّر الصمت في رئتي؟
1:(يحاول الكلام، فلا يخرج صوته) (يكتب بسبابته على الهواء: أنا جدارٌ بلا ظل)
2:(يلتفت فجأة، كأنه تذكر أن له جلداً)لا تكتب على الهواء ……….هذا هو الماء الجديد وهو يحفظ أكثر مما يُفترض.
4 :(يدور حولهما بخطوات لولبية) هل جئتما لتُنسيا؟ أم لتُكْتبا؟ المنسيون يُخلَّدون فقط حين يُمحَون مرتين.
1: نحن لم نأتِ…النسيان هو من دحرجنا هنا.
4: (ينحني ليلتقط شيئًا غير مرئي) وجدت اسماً… من سَقَط منكما؟
2: أنا كنتُ اسماً مرةً… ثم أصابني الشكُّ في هجائي، فمحوتُني.
4: (يهمس كما لو أن الريح هي من تتكلم الآن)هي يا أنتم لتذكير فقط…..كل من محا نفسه صار طقساً. أنتم الآن طقوس… ليس لكم ملامح، بل ارتجاجات.
(تخرج من الأرض أصوات تشبه تذمر الفُقاعات، ثم تنفجر واحدة كأنها صرخة رضيع ترفض الولادة)
1: سمعتَها؟ تلك الفقاعة… نادتني باسمي الأول.
2: اسمك الأول…كان لِعظمٍ دُفن قبل أن يُخلق.
4 :(يغمض عينيه – يتغير وجهه بسرعة) اسمعوا…كلما تكلمتم، تتآكل حوافكم. أنتم الآن في مرحلة “الانمحاء العكسي”.
1: (يرتعب) لكنّي ما زلت أشعر! ………….. ما زلت أسمع رائحة أقدامي حين تمشي داخلي .
4: أهبل وغبي……لا تثق بأحساسك. أنتم لم تعودوا… أنتم تُستَخدَمون.
(يصمت الجميع. صوت كأنه ارتطام الهواء بالماء – ليس صوتاً بل تغيير في الضغط. يتحرك الفضاء وكأن أحدًا يحاول طيه مثل ورقة)
2: (بصوت خافت) المكان بدأ يُطوى… لن يبقى سوى الطيّة.
4 : (يتراجع إلى داخل البخار)حين تُطوى الصفحة… لا يُمحى النص، بل يَختبئ.
(يُظلم كل شيء، ثم يضاء لوهلة مشهد نُقطة ماء تسقط على عين مفتوحة، تذوب العين في محجرها دون أن تغلق)
م4: جوف الظل
(المكان: مسرح معكوس. الضوء يصعد من الأرض ويضرب سقفاً غير موجود. تتدلّى كلمات من السقف على شكل خيوط شفافة. الأصوات تتحرك في الاتجاه المعاكس لحامليها. هما متقابلان، لكن لا يريان بعضهما. بخار خفيف يخطّ شكل دائرة تتلاشى ثم تعود. يدخل أحدهم من خلف الظلال: جسده كُليّ الشفافية، لكن صوته يترك أثراً بصريّاً)
5 🙁بصوت مزدوج، كأنه يتكلم مرتين في الآن نفسه) من الذي أوقف الساعة؟ من سلخ عقرب الدقيقة ودفنه في فم الحرف؟
2: (يحاول استيعاب الصوت كما يُستوعب طَعم) من أنت؟ ظلٌّ أم مؤجَّل؟
5: أنا جوف الظل…ذاكرة الضوء حين يُنسى في عين مغلقة.
1 :(يمسك الهواء وكأنه يمسك بعنق ضوء) هل أتيتَ لتدلّنا على النهاية؟
5: لا نهايات هنا…كل خَطّ يُكتَب ليُكرَّر. أنتم نصوص نُسيتْ علامات ترقيمها.
(تبدأ الكلمات المتدلّية من السقف بالاهتزاز. إحداها تسقط على الأرض وتنفجر كقطرة حبر حية، فيخرج منها ظل طفل يركض ثم يتلاشى)
2: رأيتني هناك…كنت أجري داخل جملةٍ لم تكتمل.
1: وأنا كنت سَطْراً……لكن القارئ تمطّى ……ونام قبل أن يُكملني.
5: (يتقدّم، تترك خطواته دوائر على الأرض) أنتم مخلوقات “البرهة المنقوصة”… كُتبتم في لحظة ترددت في أن تكون وقتاً.
(صوت انشقاق يأتي من أعلى، ثم تهوي ساعة ضخمة دون عقارب، تتفتت إلى غبار من نور)
1: هل هذا هو الزمن!…..هذه الفُتات الذي يخنق الضوء؟
5: الزمن ليس خطًّا، بل عَرَق… يظهر حين نخاف من الحركة.
2: (يمد يده إلى السقف، يحاول أن يشدّ كلمة سائلة) متى نخرج من هذا النص؟
5: (يقترب منهما، صوته يتحوّل إلى نبضات) أنتم لا تخرجون…بل تتبدّدون ببطء… كقصيدة قرأها الأعمى فدمعتُه محَت نهايتها.
(تبدأ الأرض بالاهتزاز. يخرج من جوفها ظل لهيكل كان يُظن أنه حائط، لكنه ينقلب إلى جسد نائم ينبض بالحبر)
5: (آخر كلماته وهي تتكسر تدريجياً) حين يصحو هذا الجسد…ستُنسون للأبد.
(إضاءة رمادية تنطفئ وتشتعل كالوميض. يُسمع صدى خافت لضحكة تتذكر نفسها)
م5: كهوف التنقيط
(المكان: مغارة من كلمات متدلية، كل كلمة تُقطّر نغمة، وكل نغمة تُحدث تشقّقًا في الجدران. الضوء ينبعث من ثقوب الحروف، والهواء له طعم قديم. 1 و2 يجلسان القرفصاء، وكأنهما طفلان ينتظران المطر. صوت بالتنقيط المنتظم يملأ الفضاء. تدخل 6 من عمق الكهف، خطواتها لا تُسمع، بل تُشَم.)
6: (همسٌ ينبثق من قطرات) هل سمعتم رئتي؟ كانت تتهجّى اسمي منذ ألف حرف.
1: (ترتجف)من أي طينٍ خُلقتِ؟ أصواتكِ تلتفّ حول لساني كأفعى من ماء.
6: أنا الصدى حين يلد نفسه…أنتمي إلى اللغة التي لم يُكتب لها أن تُولد.
(يُسمع صوت تشقّق داخلي. يبدأ الجدار خلفهم بالتحلل، كأن الحروف تفقد انتماءها لجملتها)
2: الكلمات تُذيبنا…كأن كل جملة تبتلع أطرافنا.
6: (تأخذ من الهواء حفنة وتذرّيها) هنا… كل معنى عليه أن يمرّ باختبار الذوبان…لا ينجو سوى الصمت القابل للتنقيط.
1: تنقيطكِ يُخرّب نسقنا…أين نضع أرجلنا إن لم نجد فاصلة؟
6: (تقف فوق نقطة سوداء تنزف نوراً) الفواصل كانت أقنعة…والنقاط مقابر لمفردات أُجهِضتْ قبل أن تُقال.
(تتساقط الكلمات المتدلية، واحدةً تلو الأخرى، وكلما سقطت كلمة، يُمحى جزء من ملامح الشخصيات. تصبح أيديهم شفّافة. يبدو أن اللغة تنهار، ولكن الأصوات تزداد وضوحاً)
2: بدأت أسمع جسدي…صوتُه يشبه جرحًا يُترجم نفسه إلى ضوء.
1: وجهي لم يعد لي…..هو الآن… انعكاس قلقٍ في ماء مُرتجف.
6: (تجلس، تضع رأسها في حجر الزمن) حين تصمت الكلمات…يبدأ النص الحقيقي بالكتابة.
(هدير خفيف. من سقف المغارة يتدلّى حبلٌ من فراغ. تقترب منه 6، تمسكه، فلا يصدر عنه شيء سوى تنفّس خفيف كأنه آخر نفس في الحكاية)
6: (همسها يملأ الفضاء) في المقصورة القادمة…سأبدأ بحذفكم.
(تُطفأ الإضاءة فجأة. ثم صوت تنقيط واحدة… ثم لا شيء)
م6: نُقْطةُ الاحتراق
(المكان: جَوْفٌ دائريّ بلا ملامح، كأنّ المشهد داخل رغيف مجوّف أو تنّور قديم نُكئَ في الهواء. كلّ شيء صدى، الصوت يسبق الخطى، والضوء ضوء رمادٍ يتذكّر النور دون أن يُنيره.)
1: (صوتها آتٍ من قاع الوهْم، غير مرئية) كانوا يعتقدون أننا نحتاج الملح لننضج…لكنهم نسوا أن الطحين وحده يتذكّر.
7: (يسير فوق طبقة رماد حيّ، يترك خلفه آثار أقدام تشتعل) المنقاش لم يكن أداة…كان إصبعاً إلهياً، يُدوّن صرخات العجين على جدار الفراغ.
1: (تضحك ضحكة مكتومة، كأنها شهقة من رماد الخبز) لا خبزة خرجت منّا…كلّ ما خرج كان أشباه قشرة، ترتجف ثم تذوب في فمٍ لا يبتلع.
7: (يضع يده على جدار التنور المتخيَّل) هل تسمعينه؟ الجدار ما زال دافئاً…كأنّه تذكّر مَن احترقوا فيه دون رغبة.
1: كلنا نُسِجنا من وهم الحُمّى. ظننا أن العجن حياة، وأن النضج خلاص. لكن… لا أحد أكلنا. فقط تُركنا نذبل… كحروفٍ بلا فم.
7: (يركع على الرماد، يُشمّ ببطء كفّه) الطحين لا ينسى من بصق عليه. والتنور؟ ..التنور الآن مجرّد قشرة فم قديم.
1: (بعيداً، كأنها تمضي) دعنا نُبعثر آخر ذرّة…ثم نختفي دون أثر… كأننا لم نكن سوى وصفة لم تُكتب.
(الضوء يتحوّل إلى رمادٍ ناعمٍ يهبّ في الفضاء. صوت هدير خفيف كصمتِ عجينة تتنفس للمرة الأخيرة. ثم لا شيء.)
إظلام كامل. صمتُ . للانهاية.
السيرة الذاتية للمؤلف
الإسم: أحـــــمــد الـــــسـالم
الصفة: ممثل ، مؤلف
محل الإقامة: العراق/ بصره
الدرجة العلمية: طالب الدراسات العليا – ماجستير تمثيل، كلية الفنون الجميلة، جامعة البصرة
عضوية: عضو في نقابة الفنانين العراقيين
البريد الإلكتروني: ahmedkafah63@gmail.com
رقم الهاتف: 07819796510
الخبرات الفنية
“الاشتغال على المونودراما بوصفها مختبراً للأداء والانفجار الانفعالي”
“المشاركة في ورش متخصصة بأداء الممثل ضمن منتديات أكاديمية ومهرجانات “
تأليف المسرحي
انشطار
تعذيب أكياس الطحين
أنا ذلك الجنين
الاهتمامات البحثية والفنية
” الأداء الفيروسي.. انشطار الجسد المسرحي وتحوّره في فضاء العدوى الجمالية”
“الطقوس الجسدية والتجليات الرمزية في الأداء المسرحي”
“فلسفة الجسد والتواصل في العرض الحي”
“الاشتغال على النص المسرحي بوصفه حقلاً تعبيرياً وجودياً”
المسرحيات التي شاركت بها ممثلاً
بقعة الزيت موندراما / غسيل أموات / خذو وجوهكم / أمكنة أسماعيل / شيزوفرينا