المسرح الإحتجاجي : الوظيفة والشكل/ د . ياسر عبد الصاحب البرّاك

برزت بعد الإحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 العديد من الظواهر المسرحية التي ينبغي لخطاب النقد المسرحي العراقي أن يتوقف عندها طويلاً محاولاً تحديد الأسباب التاريخية والإجتماعية والثقافية لتلك الظواهر ومدى تأثيرها على بنية الخطاب المسرحي عموماً ، ولعلَّ شيوع عروض ( المسرح الإحتجاجي ) في مسارح العاصمة بغداد وبعض المحافظات واحدة من تلك الظواهر التي تحتاج الى الفحص والتأطير النقدي سواءً في منطلقاتها النظرية أو عبر تمثيلاتها العملية في العديد من العروض المسرحية، وسنحاول عبر سلسلة من المقالات النقدية أن ندرس تلك الظاهرة بوصفها إحدى مسارات المسرح العراقي التي برزت للسطح بعد الإحتلال ووفرت تنوعاً في خطابات المسرح عندنا بوصفها تعتمد شروطاً جمالية تختلف كلياً عن بقية التوجهات المسرحية السائدة .
وعندما نتحدث عن المسرح الإحتجاجي ( Protest theatre ) بوصفه ظاهرة حالية في المسرح العراقي لابد أن تبرز أمامنا مجموعة من الأسئلة الرئيسة لعلَّ أهمها : ما وظيفة هذا المسرح؟ وما شكله؟ وما مدى إختلافه عن بقية المسارح من هاتين الناحيتين؟
وفي البدء لابد أيضاً من تحديد العلاقة بين (المسرح theatre ) و ( الإحتجاج Protest ) لأن المسرح بوصفه وسيلة من وسائل التعبير الفني يعتمد بشكل أساس على مجموعة من القواعد التي تراكمت مع عمر التجربة المسرحية العالمية منذ عصر الإغريق حتى عصرنا الحالي، وهذه القواعد منها ما هو ثابت ومنها ما هو متحرك، وقد إنعكست هذه العلاقة الجدلية بين الثابت والمتحرك في القواعد المسرحية على ديمومة المسرح وجعلته حياً منذ أكثر من 2500 سنة تقريباً ، الأمر الذي ولَّد أشكالاً مسرحية متعددة بحسب تغير وظيفته في الزمان والمكان. وإذا ما حاولنا تحديد مفهوم المسرح بتعريف بسيط نقول هو: ” أحد أنواع فنون الأداء يتعاون فيه فنانون حقيقيون (عادة ممثلين أو ممثلات) لتصوير حدث حقيقي أو خيالي أمام جمهور حي في مكان معين غالباً ما يكون مسرحاً . ينقل فنانو الأداء هذه التجربة إلى الجمهور من خلال مجموعات من الإيماءات والكلام والأغاني والموسيقى والرقص .”، فالقاعدة الرئيسة في هذا التعريف أن الممثلين يقومون بــــ ” تصوير حدث حقيقي أو خيالي أمام جمهور حي ” وتنحصر وظائف هذا التصوير بعدة أهداف هي : الترفيه والتسلية، التعبير عن الذات والجماعة، التواصل والتأثير، ترسيخ الهوية الثقافية، العمل على التغيير الإجتماعي.
أما إذا حاولنا فحص مصطلح ( الإحتجاج ) فسنجد أنه أيضاً وسيلة من وسائل التعبير عن رأي شخص واحد أو مجموعة من الأشخاص أو جماعة إثنية محددة أو حزب سياسي ضد السلطة القائمة وفي مكان محدد قد يكون فضاءً عاماً مثل الشوارع والساحات العامة أو فضاءً خاصاً مثل الأبنية المغلقة كالجامعات والمحاكم والمؤسسات الحكومية كمبنى البرلمان من أجل إيصال صوت المُحتجّين لأصحاب القرار السياسي، وليس بالضرورة أن يكون الإحتجاج سياسياً بل يمكن أن يتعداه الى إحتجاج إجتماعي أو ثقافي أو ديني أو إقتصادي وغيرها، وعلى هذا الأساس – ظاهرياً – ليس ثمَّة علاقة بين (المسرح) و (الإحتجاج)، ولكن مع التبدّل المستمر في وظيفة المسرح نجد أن هناك من يستخدمه في الفعل الإحتجاجي خاصة في الميدان السياسي، وبالتالي تتغير وظيفة المسرح عن ما أوردناه سابقاً من وظائف إلى وظيفة جديدة رئيسة هي: الإحتجاج.
إن تبدّل الوظيفة يفرض تركيزاً على طبيعة خطابها الجديد لذلك تتوارى بقية الوظائف المسرحية لتصبح ثانوية بالقياس الى وظيفة الإحتجاج التي تتصدر العرض المسرحي بكل حيثياته الأدائية بحيث تصبح عناصر العرض مثل النص والممثل والمكملات الفنية كلها في خدمة الوظيفة الإحتجاجية، فضلاً عن العلاقة مع الجمهور، ما يعني أن العلاقة بين ( المسرح ) و ( الإحتجاج ) تصبح أوثق بعد ذلك التبدّل والتصدر في الوظيفة على أساس أن صناعة العرض تبثق من تحقيق هذا الهدف الذي سيؤدي بالنتيجة إلى إعتماد صانعي العرض على مجموعة من الوسائل والغايات التي تفرض شكلاً محدداً سواءً في بناء نص العرض أو في تأسيساته المشهدية، فالنص في المسرح الإحتجاجي سيختلف عنه في المسرح التقليدي الدرامي لأنه سيركز على الفكرة أكثر من تركيزه على الشخصية، وسيركز على الحركة والإيماءة أكثر من تركيزه على الحوار، ويعتمد الأداء الفرجوي أكثر من إعتماده على التمثيل، فضلاً عن إشراكه للجمهور في الفعل المسرحي بعيداً عن سلبيته في المسرح الدرامي التقليدي، وبالتالي فإن جميع الوسائل التي تكوّن الشكل المسرحي العام تختلف وتتغير مع إختلاف وتغيّر الوظيفة المسرحية.
إن ممارسة الإحتجاج في المسرح تعني – على الأغلب – مغادرة القاعات المسرحية المغلقة التي هي فضاء من فضاءات السلطة أو مؤسساتها المسرحية، وإختيار الفضاء العمومي بوصفه الفضاء الأنسب لأكبر مجموعة ممكنة من الناس، لذلك نجد أن أغلب تجارب المسرح الإحتجاجي العالمية تعتمد الفضاءات المفتوحة للإشتباك مع الجمهور العام في الشوارع والساحات العامة والحدائق والكراجات ومحطات المترو وغيرها .
يصبح المسرح الإحتجاجي ضرورة تعبيرية وسياسية حينما يشعر المسرحيون (بوصفهم مواطنين) بالمشكلات العامة للمجتمع خاصة القضايا العامة مثل : زيف الديمقراطية، الفساد المالي والإداري، إنتشار المخدرات، فوضى السلاح خارج الدولة، التجهيل الديني، غياب القانون والإفلات من العقاب، ضعف الخدمات العامة وشحَّتها، وغيرها من القضايا التي تصبح القاسم المشترك بين الفعل الإحتجاجي لصانعي العرض المسرحي وجمهوره الذي يحتاج الى ( نخبة واعية ) تُفسّر له ما يسود في حياته من أزمات وإتخاذ موقف إحتجاجي منها بقصد البحث عن حلول واقعية لهذا الهم المشترك لأن فعل الإحتجاج يُمارس نوعاً من العدوى في السلوك العام يُخرج الجمهور من حالة السكون إلى حالة الحركة التي تنتج عن التحريض السياسي الذي يمارسه الفعل الإحتجاجي في المسرح عبر إقتراح أشكال جديدة وعلاقة جديدة مع الجمهور العام خاصة ذلك الجمهور الذي لا يذهب الى الصالات المسرحية المغلقة .