مقالات

الآني والتراكمي في عرض “أنا والمهرج” / د. فاتن حسين ناجي

في عملية البحث عن الذات والهوية، ينبغي التوقف عند حقيقة أن للطفل شخصيته الخاصة، التي تمتلك خصائص وسمات فردية، ترتبط بخاصية النمو السريع، ما يتيح له فرصة معايشة نماذج مختلفة من الشخصيات. فالإنسان في مرحلة الطفولة يمر بأهم عمليات بناء ملامح شخصيته وسماته، إلى جانب البناء الجسدي. وكل ذلك مرهون بثيمة الانفتاح على الآخر والمحيط، إذ إن الانغلاق أو “التكور حول الذات” لا يخلق هوية مستقلة للطفل. وهذا ما تناوله عرض مسرحية “أنا والمهرج”، في تأكيده على المؤثرات التي تتركها الألعاب الإلكترونية على الطفل، والتي تنقسم إلى:

• التأثير الآني: يتمثل في عزل آدم عن أفراد أسرته؛ إذ يظهر في بداية العرض وكأنه شخصية متوحدة. لكن المتلقي يكتشف لاحقًا أنه طفل طبيعي، غير أن الألعاب الإلكترونية هي من وضعته في هذه العزلة، وهي عزلة تختلف عن التوحد. كما أن هذا التأثير الآني أربك إدراك المتلقي لعمر آدم الفعلي.

• التأثير التراكمي: كثرة التعامل مع ثيمات الألعاب القتالية والعنيفة رسّخ في وعي آدم تراكمات لاواعية حول أساليب التعامل مع الآخر، ما خلق لديه تضاربًا بين ما هو “صائب” في الفعل، وما يناقض الصواب ذاته.

وانطلاقًا من مبدأ التأثير والتأثر، عمدت المؤلفة-المخرجة إلى خلق نموذجين تربويين: أحدهما إيجابي والآخر سلبي (مدعوس وفدعوس)، بغرض إتاحة الفرصة للطفل لمقارنة نفسه بهذه النماذج، واكتشاف أيّها الأقرب إليه، مع تحفيز رغبته في تبنّي القيم والسلوكيات التي يجسدها النموذج الإيجابي.

وفي إطار دراستها لنفسية الطفل ومدى تأثره بالمؤثرات الخارجية، ارتكزت الكاتبة/المخرجة على عدة محاور: محور النموذج بوصفه صفة أولية، ومحور السرد، ومحور التنوع والتعدد، وأخيرًا قصدية التكرار.

ففي محور السرد، خرجت لنا شخصية الجنية لتقدم، بصورة تفصيلية، ما ينتظر آدم، وما تحويه العلبة من مفاجآت. غير أن حرص الشخصية على الشرح المطوّل أدّى إلى تشتت السرد، خاصة تحت وطأة التكرار .

إلا أن محور التنوع والتعدد تدخّل ليخلق جمالية صورية مميزة من خلال ما في “الصندوق” من مشاهد مستوحاة من “المسرح الأسود”، حيث نُقل الطفل إلى عالم بصري آخر، زاخر بالألوان والصور وتناسق الموسيقى والحركة، مما كوّن صورة مائزة عمّا هو سائد في مسرح الطفل.

كما أن المخرجة لم تكتفِ برسم صورة الرقص داخل الصندوق، بل نوّعت الرقصات والأغاني بصورة مقصودة، ليكون التكرار أداة جمالية مشوّقة، لا مبتذلة. فقد انطلقت من مقولة مارك توين:

“إن مسرح الطفل هو أقوى معلم للأخلاق وخير دافع للسلوك الطيب اهتدت إليه عبقرية الإنسان، لأن دروسه لا تُلقى بالكتب بطريقة مرهفة، أو في البيت بطريقة مملة، بل بالحركة المنظورة التي تبعث الحماس وتصل إلى قلوب الأطفال التي تُعدّ أنسب وعاء لهذه الدروس.”

هذه الحركات المنظورة بلغت ذروتها بدخول “المحارب”، وهي شخصية كارتونية استلهمتها المخرجة من شخصية “غريندايزر”، الأيقونة الأشهر في أفلام الرسوم المتحركة. غير أن تكرار المشاهد والحركات، وإطالتها، أحدث نوعًا من التشويش لدى الطفل، الذي ازداد مع الانتقال السريع إلى منزل آدم، وتكرار حديث الأم، ما تسبب بفجوة مقارنة بالتشويق الذي خلقه مشهد المسرح الأسود.

من خلال العرض ككل، والنص بخصوصيته اللافتة، عملت زينب عبد الأمير على تقديم تجربة مسرحية بعيدة عن التعقيد والتنظير، قريبة من البيئة الراهنة التي يعيشها الطفل في عالم الإكس بوكس والحاسوب وألعاب البوبجي. لتصل إلى نقطة ارتكاز مفادها أن ما يُقدَّم للطفل يجب أن ينطلق من واقعه، بتطوراته، وسلوكياته، وبيئته الاجتماعية، ليحقق تأثيرًا حقيقيًا وفاعلاً في بناء شخصيته وهويته.

وعن قصدية المخرجة في التاكيد على الجوانب الفلسفية للزمن اذ اكدت على ان الحدث ليس بمعزل عن أثر الزمن، بل يتداخل فيه “الآني” بوصفه لحظة درامية مكثّفة، مع “التراكمي” كأثر زمني ممتد يصنع المعنى ويعمّق الدلالة. ذلك التراكم الشعوري والفكري والسلوكي الذي يخلقه النص والأداء والفضاء الجمالي عبر الزمن.

وما سيُبنى لاحقًا على هذا التفاعل. بين الاثنين ومن هذا المنطلق، يصبح “الآني والتراكمي” في عرض مسرحية انا والمهرج ليسا فقط سِمتين زمنيتين، بل أداتين جماليتين وتربويتين تُسهمان في تشكيل المعنى، خاصة حين يتعلق الأمر بجمهور الأطفال، حيث يكون الأثر الآني مدخلاً، والتراكمي بناءً داخليًا طويل الأمد، يلامس الوعي واللاوعي في آن واحد .

Related Articles

Back to top button