بالمغرب: مسرحية “ريحة الليل” مسرحية تنتصر للهامش والمهمشين/ عبد الرحيم محلاوي

في اطار فعاليات الملتقى الثقافي والفني الثالث، دورة المرحوم “محمد رحلان” الذي نظمته جمعية قدماء وفاق أطلس، قدم مؤخرا محترف ديونيزوس لفنون الأداء مسرحية “ريحة الليل” بالمركب الثقافي الحي الحسني بمراكش .
“بوغطاط” كان نقطة بداية العرض لوضع المتلقي أمام الوضع الماساوي الذي ستعيشه الشخصيات المهمشة التي تكسرت أحلامها على قارعة الصراع الطبقي.. والتي تعيش مواقف مأساوية إنسانية في ظل القهر الاجتماعي، وتمثلت الحبكة الدرامية في ايجاد حل للتخلص من “الأعور” الذي ظل حاضرا بالفضاء المسرحي، كما أن ظلاله تعشعش في نفوس الشخوص، فهم يكرهونه ويمقتونه إلى حد أنهم يخططون لقتله والتنكيل بجثته رغم فارق القوة بينهم، فعيونه في كل قطعة داخل الفضاء المسرحي الذي يكبل حريتهم، والذي تم الاشتغال عليه باقتصاد مختزلا للمفردات الشيء الذي يوحي ويولد لدى المتلقي مساحات فارغة لتشغيل مخيلته، فجل الأدوات (Objet) حاضرة في بساطتها بقوة تؤدي وظائف بصرية دلالية وجمالية، فعمود الكهرباء الشامخ يشكل مجالا للتركيز البصري مثل برواز، باعتباره محور رؤية المتلقي في عرض مسرحي ينتصر للهامش مما يضع الجمهور أمام صراع مباشر ومحتدم .
كما نشير إلى أن الحضور التراجيدي القوي النابع من الصراعات النفسية الداخلية تجعل من العمل الدرامي أكثر قوة وتأثير من الصراع المادي أو المعنوي، كونها تتكئ على مبدأ الإقناع وإن تطلبت فكرة الرتابة غيابهما في أدوار الشخصيات. فالشيخ (عبد اللطيف نجيب) الذي يحاول أن يتدفء بإحراق الأوراق التي عكف عباس (مهدي حلباس) على كتابتها على شكل سيرة ذاتية للشهيد، والذي مات فداء للقضية، تعتبر كنوع من إحراق الذاكرة النضالية في حين لا يتورع هذا الشيخ في تذكيرنا بفخر واعتزاز بحرب لاندوشين (حرب الهند الصينية)، أما الشاب (لحجاب ابوجمال) الذي يعيش طوال زمن العرض المسرحي مخمورا ليتسنى له نسيان الحالة المزرية الذي يعيشها، فانه يحاول أن يستفيق من حالة السكر بشرب الخمر، ولأن الإنسان عندما يعيش في دائرة مفرغة مكبلة بأوجاع الماضي، وأعباء الحاضر، فعباس الذي همه الوحيد هو حفظ ذاكرة النضال النقابي، فإن الشيخ بالمقابل يسعى إلى اقناعنا أن بطولاته في حرب شرق اسيا (لاندوشين) يجب أن تروى لكل الأجيال رغم أنها لا تعنينا في شيء، أما الشاب فكل همه أن يكره عشيقته/زوجته على حبه رغما عنها .
وبناء على ذلك فإن المسرحية لیست مجرد مشاهد عبثية مكررة بل هي عمل فني درامي مثقل بالإبداع والدهشة، يحمل في طياته رؤية عميقة تلح على التفكير، والتأمل في الهامش والفوضى.
ولا شك أن الرتابة المقصودة هنا هي تكرار الأشياء دون وعي صاحبها، أما التكرار الواعي المتمثل في المحاولة للوصول إلى ايجاد موضوع للنقاش أو نقاط للتلاقي بين الشخوص فهو من صميم ما يرمي إليه العرض المسرحي الذي يرمز إلى إحداث التغيير .
إذ إن التكرار جاء لوصف حالة الملل، فيما حملت المشاهد الأخيرة طابع الحجاج، والإقناع، والتفلسف، وربما كان للإيقاع الموسيقى دور في إحداث الشعور بالملل، أما الإضاءة أسهمت في إبراز لوحة فنية جاذبة من خلال الاضاءة الموضعية التي ترمز إلى محاصرة الشخصيات.
والتمثيل كان موفقاً، فالذين حملوا اللعبة المسرحية هم ثلاثة فنانين متقلين بالتجارب، أدوا بنفس جماعي حتى لتعجز أن تقول من كان أفضل. لقد كان عزفا جماعيا متناغما ومتناسقا. أما أسلوب التمثيل المعتمد، فقد اختار المؤلف/المخرج أداة المسرح الملحمي والتي نظر لها الألماني بروتولد بريخت ( التغريب). وهي أن تجعل من المألوف غير مألوف، لتعاد قراءته برؤية جديدة، ما يجعلنا نتأمل هذا الواقع ولا نقبله كما هو. ويعني ذلك بأن ما نراه على المسرح ما هو إلا لعب، ومن خلال هذه الأداة يقرر متى يقرب الجمهور إليه، ومتى يبعده عنه، حتى يبقى العقل يعمل أثناء العرض المسرحي. لقد نجحوا جميعا المؤلف/المخرج وممثليه في تجسيد التمثيل الملحمي القائم على التقطيع وعدم الانغماس في الحدث، وأجادوا وأثاروا الدهشة في المتلقي .
مسرحية “ريحة الليل” من تأليف وإخراج : مهدي حلباس، تشخيص : عبد اللطف نجيب، لحجاب ابوجمال، ومهدي حلباس. سينوغرافيا : عبد القادر منير ونور الدين بن خديجة. الاضاءة : يوسف قشباوة، الملابس : محمد خلداوي، التمويج الموسيقي: عبد العاطي الخازن وعبد اللطيف نجيب، التصوير والملصق: ياسين خولفي، الصوت الخارجي : فاطمة اكلاز، انجاز: محترف ديونيزوس لفنون الأداءبمراكش.