
شذرات ، فوتورياليزم رافديني بين تأصيل النوستالجيا والمقاربات الفنية
يعد التصوير الفوتوغرافي أداة حيوية لاستعادة الماضي واستنطاق الحاضر برؤى مستقبلية، يجعل من الصورة الفوتوغرافية تتجاوز وظيفتها الأولى التوثيقية، لتتجه أكثر نحو الجمالي والفني والفكري، وتشكل بالتالي مسارات فنية مكتضة بالتطور والتنوع، وصولا إلى درجة وعي مكثفة، سمحت للعديد من الفنانين الفوتوغرافيين بتقديم قراءات أخرى للواقع والأفكار والمشاعر ومن هذا المنطلق، يأتي معرض “شذرات” للفنانة (الدكتوره غيداء علي هارف) ليقدم تجربة بصرية تنسج بين الحنين إلى الماضي والمقاربات الفنية الحديثة، ضمن إطار ما يمكن تسميته بـ”الفوتورياليزم الرافديني”، الذي يسعى الى المزج بين الواقعية التصويرية والتطلعات الحداثوية في سياق الحضارة الرافدينية..
في سعيها إلى مزج المثالية بالتجريد، ركزت الفنانة على التقاط البيئات والأشياء الواقعية التي تتميز بأسطح عاكسة وتفاصيل تتباين بين المعمارية والملامح ذات التفاصيل الحسية لتخلق مكنونات حياتية تطورت مع المواقف والواقع ودرجات التعبير المنتمي للمحيط بطريقة ذكية مكنتها من تطويعها مفهوميا وساهمت في اخراجها في محتوى فني جديد وفق تقنيات مختلفة وعميقة.
فعلى مستوى المضمون الفني والمعالجة البصرية فان المعرض يتخذ من الصور الفوتوغرافية وسيطًا لاستكشاف الهوية العراقية برؤية تستلهم من النوستالجيا، لكنها لا تقع في فخ التكرار أو إعادة إنتاج الصور التقليدية. وبدلاً من ذلك، تستخدم (غيداء علي هارف) تقنيات تقليدية تجاوزت في تفكيكها الرقمية باطار أساليب المعالجة الضوئية الطبيعية والتي تمنح أعمالها بعدًا حداثويًا اكثر من كونه بعدا نكوصيا، حيث ابدعت في قدرتها على ان تتلاعب بالضوء والظل والتداخلات البصرية لتقديم تكوينات تجمع بين الحلم والواقع.
ان من أبرز العناصر الجمالية في المعرض، استخدام الفنانة للشفافية والتراكب اللوني لإعادة تشكيل مشاهد قديمة من التراث العراقي، كما يظهر في بعض الأعمال التي تصور الأسواق الشعبية، الشناشيل، والمشاهد النهرية لكن برؤية تكاد تكون أقرب إلى التجريد الواقعي. هذا التوظيف يمنح الصور إحساسًا بالحركة والزمن المتداخل، وكأنها تسعى إلى ترميم الذكريات برؤية مستقبلية.
ولعل عملية تأصيل النوستالجيا التي تتأرجح بين الاستدعاء والتحديث تظهر من خلال استحضار العناصر الثقافية الأصيلة، كالمرموزات الحضارية التي تتخلل بعض الأعمال عبر أشكال هندسية متراكبة، تعكس فكرة التراث المستمر. في الوقت ذاته، تتبنى الفنانة نهجًا تجديديًا يتجاوز حدود التوثيق ليطرح تساؤلات حول كيفية فهم الماضي واستمراريته في الحاضر.
يبدو أن النوستالجيا في أعمال (غيداء) ليست مجرد استدعاء زمني، بل هي عملية تفكيك وإعادة بناء، حيث تتعامل مع الصور الأرشيفية كمادة خام تتحول عبر التدخل الفني إلى تعبير معاصر يحمل دلالات جديدة.
وبمعرض استكشاف المقاربات الفنية فاننا سنكتشف المزج الاصيل بين الواقعية والتجريبية والذي يجعل المعرض يتموضع في منطقة وسطى بين الواقعية الفوتوغرافية والتجريب البصري، إذ تسعى الفنانة إلى خلق “فضاء انتقالي” داخل أعمالها، بحيث تبدو الصورة في بعض الأحيان وكأنها امتداد لذاكرة غير مكتملة أو مشهد سريالي ينبثق من واقع ملموس.
ومن الناحية التقنية، تعتمد الفنانة على طبقات متعددة من الصورة، مستفيدة من الإمكانيات الرقمية لإعادة تشكيل البنية التقليدية للصورة الفوتوغرافية، مما يجعل المشاهد يعيش تجربة بصرية مزدوجة: بين التفاعل مع الألفة البصرية للصورة، والانبهار بالتحولات التي طرأت عليها.
كان التأثير الفني لعدسة الفنانة (الدكتوره غيداء علي هارف) موغلا في تجليس عتمة التوضيح والتلاعب الضوئي مع الفكرة من خلال الظلال والأضواء الطبيعية في محاولة جادة لنقل الصورة من عالمها وتاريخها وتوظيفها في واقعها بمعالجة مفاهيمية تشكيلية تدمج الحواس لخلق جدليات تحاكي الزمن وتثيره، في فضاءاته المتشعبة فهي في العديد من المقتنيات الفوتوغرافية تتجنب الألوان خدمة للفكرة نفسها وتارة تعمل على الايغال في النوستالجيا البصرية لتثير مشاعر المتلقي وتفعيل ذهنيته للبحث في عمق خياله عن منافذ مقروءة المضامين وبالتالي فهي لا تكتفي بالنتيجة الأولى التي تنجزها الكاميرا بل تترك المتلقي يعالجها في عمق أفكاره ويتسلمها على محمل التوظيف التشكيلي ليكوّن منها مقاربات تعبيرية، جامعا بين الواقع والخيال وفق رؤية حداثوية تحوّل الصور الفوتوغرافية (الفوتورياليزم) باختلاف مواضيعها، إلى معنى له دلالة فكرية وفنيات جمالية تتلاعب بالأبعاد والمقاييس الأصلية لتحولها إلى عناصر مكمّلة للفكرة حيث تمنحها حركيّة وتفاعلا وكأنها هي من يحاكي الزمن ويتحدث عن تفاصيله الباذخة والمتحولة والمتداخلة في نوستالجيا تجمّل الواقع الحاضر
ختاما، فان في معرض “شذرات”، تقدم (غيداء علي هارف ) تجربة فوتوغرافية تتجاوز مجرد توثيق اللحظة نحو إعادة إنتاجها برؤية تأملية، حيث يتجلى الفوتورياليزم الرافديني كمساحة فنية تنبثق من الهوية التراثية، لكنها لا تتقيد بها، بل تعيد تشكيلها وفق رؤية معاصرة. بهذا، يمكن اعتبار أعمالها بمثابة حوار بين الأزمنة، حيث يتمدد الماضي عبر عدسة الحاضر ليشكل مستقبلاً بصريًا مفتوحًا على الاحتمالات.