مقالات

في شقة ستريندبرغ/ د. فاضل الجاف

في شهر شباط من عام 2023، قادتني خطاي مرة أخرى إلى منزل الكاتب المسرحي الشهير أوغست ستريندبرغ (1849-1912) في قلب العاصمة السويدية ستوكهولم. لم تكن هذه زيارتي الأولى لشقة الكاتب المسرحي الكبير، لكنها حملت معها إحساسًا متجددًا باكتشاف عالمه عن قرب.
لبرهة، كنت أرنو من شرفة شقة ستريندبرغ إلى شارع الملكة (Drottninggatan)، فرجعت بخيالي إلى أوائل القرن العشرين، إلى زمنٍ كانت فيه الحركات الاشتراكية الديمقراطية السويدية تخوض مظاهراتها العارمة، وهتافاتها تتردد في الأرجاء، تصل إلى شرفة ستريندبرغ، بينما هو يراقبهم بصمت، معلنًا عن دعمه دون كلمات. فجأةً، خُيّل إليّ أنني أسمع صوته يرنّ في أذني، وكأنه اخترق قرنًا من الزمن، فرأيت أمامي مشاهد متلاحقة، كأنها سلسلة صور تتكشف تباعًا. شعرت أنها حقيقته ذاتها! لم يخطر ببالي للحظة أن الصوت المسجّل لم يكن إلا صوت ستريندبرغ نفسه، خلال حديثٍ مسجَّل مع أصدقائه.
المبنى الذي كان يقطنه ستريندبرغ يُعرف باسم “البرج الأزرق”، أما شارع دروتنينغاتان فهو من أهم شوارع العاصمة. ولإحياء ذكرى هذا الكاتب الفذ، نُقشت مقتطفات من نصوصه المسرحية وأعماله الأدبية على طول الشارع، بحيث تمتد على مساحة ثلاثة وثلاثين مترًا وسط الطريق، إلى درجة أن المارة لا يستطيعون تجنب قراءتها أثناء سيرهم. وخلف المبنى مباشرةً، ينتصب تمثال برونزي مهيب لستريندبرغ، منحوتٌ في هيئة محاربٍ قويّ البنية، بارز العضلات، وكأنما يواجه العالم بثقة وصلابة.


هنا، في هذه الشقة، وجد ستريندبرغ آخر ملجأ له خلال سنواته الأربع الأخيرة. كانت هذه المرة الأولى منذ زمن طويل التي لم يضطر فيها إلى التنقل من مكان إلى آخر، إذ سبق له أن انتقل بين أربعة وعشرين منزلًا في ستوكهولم وحدها. يشير ذلك إلى أنه عاش حياته في حالة من الفقر والاضطراب، ولم يتحسن وضعه المالي إلا في مراحله الأخيرة، عندما بدأت مسرحياته تلقى رواجًا خارج السويد، لا سيما في ألمانيا والدنمارك.
تتكون الشقة من ثلاث غرف، بلا أثاث، ولا أي أدوات للمطبخ بإستثناء جهاز لتحضير القهوة. ومع ذلك، كانت تُعد راقية في زمانها، إذ تقع في وسط ستوكهولم، داخل مبنى حديث تم تشييده عام 1907. كان هذا المبنى واحدًا من بين قلة من المباني في ستوكهولم التي احتوت على مصعد، إضافة إلى دورة مياه وحمام داخلي، وهو أمر نادر في ذلك الوقت، حيث كان سكان الشقق يضطرون لاستخدام دورات مياه مشتركة في الطابق السفلي من المبنى
في غرفة المعيشة، كان البيانو هو أبرز قطعة أثاث. في هذه الغرفة، كان يستقبل أصدقاءه، وأحيانًا ينظم أمسيات موسيقية أطلق عليها “أمسية بيتهوفن”، حيث يستمعون إلى السيمفونية التاسعة. حتى اليوم، عندما يقترب الزائر من البيانو، يُبثّ تلقائيًا عزف لهذه السيمفونية. ورغم أن المصادر التاريخية تؤكد إعجاب ستريندبرغ ببيتهوفن، إلا أنه لم يكن عازف بيانو.
أما أثاثه الشخصي، فقد اقتصر على سرير لشخص واحد، مما يعكس عزلته. لم تكن مكتبته ضمن الشقة، بل خُزنت في قبو الطابق السادس. معظم الكتب التي امتلكها كانت دراسات ومصادر بحثية أكثر منها أعمالًا أدبية، حيث ضمّت موضوعات متنوعة عن اللغات، خاصة اللغات الشرقية، بالإضافة إلى كتب عن اللغة الصينية، وتاريخ السويد، وخرائط البلدان، وتاريخ الفنون. كانت هذه الكتب أدوات ضرورية لكتاباته.
إلى جانب البيانو، كان لديه أدوات موسيقية أخرى مثل الغيتار والفلوت، ودفاتر لتدوين الموسيقى الكلاسيكية. كما احتوت شقته على أدوات للرسم والنحت، وهي من الأشياء التي كانت تلفت الانتباه أكثر من غيرها.
التزم ستريندبرغ بروتين يومي صارم؛ فقد كان يستيقظ في السابعة صباحًا، ويمشي لمسافات طويلة في شوارع ستوكهولم، ثم يبدأ الكتابة من التاسعة حتى منتصف النهار. يذكرنا هذا الروتين بعادات الفلاسفة مثل كانط وهيغل في جولاتهم الصباحية. بعد الكتابة، كان يقضي معظم وقته في الرسم والموسيقى. وعلى الرغم من أنه عاش حياته في فقر وتقلبات مالية، إلا أن لوحاته تباع اليوم بالملايين. على سبيل المثال، بيعت لوحته الجحيم (Inferno) بخمسة عشر مليون كرونة، أي ما يزيد عن مليوني دولار.


هذه لم تكن زيارتي الأولى لمنزل ستريندبرغ، فقد كان من أوائل الأماكن التي زرتها عندما وصلت إلى السويد لأول مرة عام 1982. لاحقًا، اصطحبت العديد من زملائي المسرحيين، سواء من العرب أو الأوروبيين، إلى هذا المكان.
في بداية السبعينيات، قرأت لأول مرة مسرحية الانسة جولي باللغة العربية، ومنذ ذلك الحين أصبحت مغرمًا بمسرحياته. قدمت عددًا من أعماله (لعبة حلم، سوناتا الشبح، اللعب بالنار، سموم) في السويد، بريطانيا، روسيا، والمغرب. كما ترجمت بعضًا منها إلى العربية (البجعة، اللعب بالنار، سموم) ضمن إصدارات الهيئة العربية للمسرح.
وقبل أن أودع شقة الكاتب، قدمت نسخة من الكتاب هدية لمكتبة المتحف. استقبل القائمون على المتحف هذه الهدية بترحاب، وأوضحوا لي أن جميع الترجمات العربية السابقة لمسرحيات ستريندبرغ تمت عن الإنجليزية، بينما كانت ترجمتي أول ترجمة مباشرة عن السويدية.

Related Articles

Back to top button