رقصة التمرد… قراءة كوريغرافية في عرض (اليوم الآخر) للمخرج مرتضى علي/ د.عماد هادي الخفاجي

مقدمة:
تمثل العروض المسرحية الكوريغرافية، التي تجمع بين الأداء الحركي والتعبير الجسدي، أحد أشكال الفنون الأدائية التي تعتمد على لغة الجسد أكثر من الحوار المنطوق، مما يجعلها تجربة بصرية وشعورية غنية ومكثفة. ومع ذلك، فإن استقبال هذا النوع من العروض يواجه تحديات عديدة تتعلق بفهم الرموز الحركية والتعبير غير اللفظي، خاصة لدى جمهور اعتاد على المسرح التقليدي القائم على الحوار والسرد المباشر، ويرجع الالتباس في تلقي العروض الكوريغرافية إلى عدة عوامل مترابطة، منها قلة معرفة بعض المخرجين بالمعايير الجمالية والتقنية التي تحدد طبيعة هذا النوع المسرحي، مما يؤدي إلى تقديم أعمال تفتقر إلى التماسك البنائي أو التشويش في توظيف الحركة والتعبير الجسدي، فعندما يكون الأداء الحركي غير مدروس أو غير مبرر دراميا، يجد المتلقي صعوبة في فك شفرات العرض، مما قد يجعله منفصلا عنه عاطفيا وفكريا، وعلى الجانب الآخر، يعاني بعض المتلقين من افتقارهم للخلفية الثقافية والفنية التي تساعدهم على تأويل واستيعاب الرموز الحركية، إذ إن عدم التعوّد على قراءة الجسد بوصفه نصا بصريا مستقلا قد يجعلهم غير قادرين على التفاعل مع العمل أو إدراك معانيه العميقة. وتزداد المشكلة عندما يتحول الالتباس إلى مجاملة العرض بدلا من تقديم رأي نقدي حقيقي، حيث يخشى المتلقي من الاعتراف بعدم الفهم أو تجنب إحراج صُنّاع العمل. في المقابل، فإن هذه المجاملة قد تعيق تطور العروض الكوريغرافية، حيث تُسهم في بقاء المشكلات الجمالية والدرامية دون معالجة.
ولتجاوز هذه التحديات، من الضروري العمل على تعزيز تكوين المخرجين والمؤدين من خلال تدريب متخصص يمكنهم من استخدام لغة الجسد كوسيلة تعبير درامية واضحة، مع دراسة أساليب المسرح الحركي والتعبير الجسدي لضمان بناء أداء متماسك يحمل دلالة واضحة للمشاهد، كما يمكن للمؤسسات المسرحية تقديم وسائط تكميلية مثل كتيبات أو أي وسائل اخرى تشرح خلفية العمل والرموز المستخدمة والأساليب الكوريغرافية المعتمدة، مما يسهل على الجمهور التفاعل مع الأداء الحركي وفهمه. ويمكن أيضا تقديم عروض تمزج بين الحوار والكوريغرافيا كمرحلة انتقالية، بحيث يعتاد الجمهور تدريجيا على قراءة الرموز الحركية وفهم دلالاتها قبل الانتقال إلى عروض تعتمد بالكامل على التعبير الجسدي. بالإضافة إلى ذلك، فإن تنظيم ورش عمل للمشاهدين بعد العروض يمكن أن يخلق بيئة حوارية تتيح لهم فرصة التعبير عن استفساراتهم ومخاوفهم حول فهم العرض، مما يسهم في تطوير ذائقة المتلقي وتعزيز تفاعله مع هذا النوع المسرحي. إن حل إشكالية التلقي في المسرح الكوريغرافي لا يتم فقط من خلال تحسين جودة الإنتاجات المسرحية، بل أيضا من خلال رفع مستوى الوعي الثقافي لدى الجمهور، مما يخلق علاقة تفاعلية أكثر نضجا بين العرض والمتلقي. بذلك، يصبح المسرح الكوريغرافي فضاء جماليا وفكريا أوسع، قادرا على إحداث أثر أعمق في الوعي المسرحي للمجتمعات المختلفة.
المقال:
ليست الكوريغرافيا مجرد هندسة لحركات الأجساد في الفراغ المسرحي، بل هي منظومة دلالية تعبيرية تعيد صياغة العلاقة بين الجسد والمكان والزمان، متجاوزةً حدود اللغة والكلمة لصالح طاقة تعبيرية خالصة تستند إلى الانفعال الداخلي والصراع الدرامي، إنها لغة غير منطوقة، لكنها قادرة على توليد دلالات عميقة ترتبط بالموروث الثقافي والاجتماعي والنفسي للإنسان، حيث يصبح الجسد نصا متحركا تتشابك فيه الحركة مع التشكيل البصري والموسيقي، ليمنح المتلقي تجربة حسية تتجاوز الإدراك السردي التقليدي نحو فضاء من التأويل والانفعال، وضمن هذا الإطار، جاء عرض (اليوم الآخر) للمخرج والكوريغراف العراقي (مرتضى علي)، الذي قُدّم على خشبة مسرح الرشيد في بغداد يومي 22 و23 كانون الثاني 2025، ليقدم مقاربة مسرحية تستند إلى الجسد بوصفه وسيلة للمقاومة والتمرد، وتتناول عبر الأداء الحركي سردية القهر والتحرر، مع التركيز على رمزية الجسد الأنثوي في سياقات اجتماعية وثقافية ودينية ضاغطة. العرض، الذي جاء ضمن إنتاج منتدى المسرح التجريبي – دائرة السينما والمسرح العراقية، حاول أن يعيد قراءة التاريخ الجسدي للمرأة بوصفه ساحة صراع، مستخدما الكوريغرافيا كأداة تفكيك وإعادة تشكيل لهذا الجسد، في رحلة بحثٍ عن الحرية والوجود المستقل، فجاء الاخراج برؤية جريئة لصراع الحرية أو بمثابة تحدٍّ للمفاهيم التقليدية في المسرح الحركي، حيث اعتمد مقاربة جريئة تعيد تعريف العلاقة بين الجسد والسرد المسرحي، فلم يكن الجسد مجرد أداة أداء، بل أصبح هو النص ذاته، وكانت الرقصة هي الفكرة، بينما استند العرض إلى التجريد كجوهر تعبيري يكشف عن طبقات المعنى الكامنة في الحركة، لذلك فقد تميزت الرؤية الإخراجية للمخرج الشاب (مرتضى علي) بقدرتها على خلق تباينات حركية شديدة التعبيرية، حيث تراوحت المشاهد بين حركات مقيدة ومكبلة تعكس القمع الاجتماعي والقيود الدينية، وبين انفجارات جسدية عنيفة توحي بالتمرد والرغبة في التحرر، هذا التناغم بين الإيقاعين المتناقضين صنع بنية درامية مشحونة بالتوتر والانفعال، جعلت الجسد يتحول إلى ساحة صراع، لا بين الشخصيات فحسب، بل بين الأفكار التي تحملها تلك الأجساد.
إحدى المفارقات اللافتة في العرض كانت اختيار راقصين رجال لأداء الأدوار النسائية، وهو قرار إخراجي يثير التساؤلات حول تأثير هذا الاختيار على تجربة المتلقي. هل كان الهدف هو خلق مسافة تأويلية تمنح الأداء بعدا تجريديا يتجاوز التصنيف الجندري للجسد؟ أم أن ذلك جاء لاعتبارات تتعلق بالجرأة الاجتماعية والرقابة الثقافية؟ يبقى السؤال مطروحًا: ماذا لو تم تجسيد هذه الأدوار بأجساد نسائية حقيقية؟ ربما كان ذلك ليمنح التجربة المسرحية طاقة مختلفة، حيث ستتحول معاناة الجسد الأنثوي من تمثيل رمزي إلى تجسيد حقيقي، محمل بتجربة معاشة، تجعل الأداء أكثر التصاقًا بالواقع، وأكثر قدرة على إحداث صدمة وجدانية لدى الجمهور، ومع ذلك، فإن اختيار المخرج لهذا النهج قد يكون مدفوعا برؤية جمالية تحاول تفكيك ثنائية الذكر/الأنثى، وإعادة تعريف الجسد المسرحي ككيان متحول، قادر على أن يكون وعاء لأي تجربة إنسانية، بغض النظر عن جنسه البيولوجي. وهذا ما جعل العرض تجربة بصرية وفكرية تفتح الباب أمام تأويلات متعددة، تجعل من المسرح ليس فقط فضاءً للأداء، بل أيضا مختبرا للأسئلة الكبرى حول الجسد والهوية والحرية.
الأداء الحركي:
جاء الأداء الحركي في عرض (اليوم الآخر) بمثابة لغة بصرية متقنة، حيث حملت الأجساد معاني أعمق من أي حوار منطوق، تألق في هذا الأداء كل من (علي دعيم، علي جابر، مهتدى باسم، فكرت حسين ومرتضى علي،) الذين قدموا أدوارهم بإحساس عال وقدرة مذهلة على تحويل الجسد إلى وسيط تعبيري يعكس الألم والمعاناة والتمرد، في مشاهد عدة، تحركت الأجساد في فضاء المسرح مثل كائنات تبحث عن خلاصٍ مستحيل، تصارع قيودا غير مرئية لكنها محسوسة بعمق، فكانت الحركات مقيدة تارة، وكأن الأجساد مكبّلة بسلاسل ثقيلة تمنعها من التحرر، ثم تنفجر فجأة بحركات عنيفة تعبر عن الانتفاض والتمرد، مما يخلق إيقاعا دراميا يعكس الصراع الداخلي بين الرغبة في الانعتاق والخوف من العواقب، هذه الازدواجية في الأداء، بين التوتر والانفجار، جعلت المَشاهد تتفاعل مع الجسد بوصفه نصا دراميا متحركا، قادرا على نقل المشاعر والأفكار دون الحاجة إلى كلمات.
إلا أن أحد الجوانب المثيرة للجدل في العرض كان غياب الجسد الأنثوي الحقيقي عن خشبة المسرح، حيث أُسندت الأدوار النسائية إلى راقصين رجال، وعلى الرغم من براعة الأداء والتعبير العاطفي العالي، إلا أن ذلك يطرح تساؤلا مهما: هل كان يمكن لحضور راقصات إناث أن يضفي على العرض بُعدا أكثر واقعية؟ هل كان يمكن للجمهور التماهي بشكل أعمق مع الجسد الأنثوي وهو ينتفض، بدلا من أن يُستعاض عنه بجسد الرجل؟
هذا التساؤل لا ينتقص من جودة الأداء بقدر ما يفتح باب التأويل حول دوافع هذا الاختيار الإخراجي. فهل كان الهدف خلق مسافة تجريدية تجعل المعاناة رمزية، تنأى عن الواقعية المباشرة؟ أم أن هناك عوامل أخرى تتعلق بالجرأة الثقافية والتحديات الاجتماعية التي قد تفرض قيودا على حضور الجسد الأنثوي في هذا النوع من المسرح الحركي؟
في كل الأحوال، يبقى الأداء الحركي في (اليوم الآخر) تجربة حسية غامرة، حيث تمكن الممثلون من منح الجسد قدرة على الاحتجاج والصراخ والتمرد، ليصبح المسرح ساحةً للصراع بين القمع والرغبة في الحرية، بين الخضوع والمقاومة، بين العزلة والانطلاق، وهو ما جعل العرض تجربة فريدة من نوعها، تمزج بين الجمالي والفكري في آنٍ واحد.
السينوغرافيا:
لم تكن السينوغرافيا في عرض (اليوم الآخر)، التي صممها علي محمود السوداني، مجرد خلفية صامتة أو عنصرا زخرفيا يكمل الأداء، بل شكلت جزءا من اللغة البصرية لحركة العرض المسرحية، حيث أسهمت في تعميق المعنى الدرامي وإبراز الصراع القائم بين القمع والرغبة في التحرر، فجاءت الأزياء والألوان متناغمة مع الثيمة العامة للعرض، إذ غلبت الألوان المحايدة عليها مثل الرمادي، الأسود، والبني، لتعكس حالة الكبت والقيود الاجتماعية التي تفرض نفسها على الشخصيات، فيما كانت هناك لحظات استخدام مدروس لبعض الألوان الأكثر وضوحا، ربما كرموز للحظات التمرد والانعتاق، مثل ظهور اللون المحايد الابيض واللون الازرق الفاتح وهو دعوة إلى الأمل أو الاستسلام في لحظات التأمل والانكسار، هذا التلاعب بالألوان لم يكن عشوائيا، بل حمل دلالات نفسية وبصرية عززت من إحساس الجمهور بالصراع الداخلي والخارجي للشخصيات، أما على مستوى العناصر المسرحية، فقد استخدمت الكتل الديكورية ببساطة مدروسة، حيث حضرت المنصات المتفاوتة الارتفاع، والجدران القابلة للتحريك، وبعض الحبال والسلاسل التي كانت تتفاعل مع الجسد الحركي لتجسد الحدود التي تسجن الشخصيات. لكن، في بعض اللحظات، بدا وكأن السينوغرافيا لم تستغل إمكاناتها الكاملة في التفاعل مع الحركة، إذ بقيت بعض عناصر الديكور ثابتة وغير متفاعلة مع التدفق الديناميكي للحركة المسرحية، كان يمكن للسينوغرافيا أن تتبنى نهجا أكثر تكاملاً مع الأداء الجسدي، عبر إدخال عناصر متحركة تتبدل تبعا لحالة الشخصية، بحيث تتحول الفضاءات أمام عين المشاهد كما تتحول الشخصيات في صراعها النفسي والجسدي، فلو كان هناك تغيير أكثر وضوحا في شكل الفضاء المسرحي، كتغيير مواقع الجدران أو تعديل مستويات الإضاءة بشكل أكثر تزامنا مع تطور الصراع الدرامي، لأضاف ذلك عمقا بصريا أكثر ثراءً للحكاية المسرحية.
لكن، رغم هذه الملاحظات، استطاعت السينوغرافيا أن تحقق حالة من التوتر البصري المتناغم مع جوهر العرض، حيث جعلت الخشبة تبدو وكأنها ساحة معركة بين الجسد والفراغ، بين القيد والانعتاق، هذه الرؤية البصرية عززت من إحساس الجمهور بالعزلة والقهر، لكنها في ذات الوقت أبقت باب الأمل مفتوحا عبر لحظات انكسار الضوء وتحرر الجسد، مما جعل السينوغرافيا جزءا فاعلا في سرد الحكاية المسرحية لا مجرد إطار لها.
الإضاءة المسرحية:
إذا كان الجسد هو النص الأساسي في عرض (اليوم الآخر)، فإن الإضاءة المسرحية التي صممها علي محمود السوداني كانت بمثابة الصوت الداخلي لهذا النص، حيث تحولت من مجرد عنصر تقني إلى جزء جوهري من البناء الدرامي للعرض، لم تكن الإضاءة مجرد وسيلة لإضاءة المشاهد، بل لعبت دورا تفسيريا وموجها، ساهم في إبراز المعاني العميقة للصراع الداخلي والخارجي للشخصيات.
تميزت الإضاءة باستخدام التباين بين الظل والنور، إذ أحكمت سيطرتها على الفضاء المسرحي، فجعلت بعض الشخصيات تبدو وكأنها محاصرة داخل بقع ضوئية ضيقة، في إشارة إلى القمع والمراقبة المستمرة، بينما تركت شخصيات أخرى تغرق في العتمة، وكأنها تناضل للظهور والبوح بما في داخلها. كانت هناك لحظات أصبح فيها الضوء أداة قمعية، إذ سلط بقوة على الأجساد المقيدة والمنهكة، ما جعلها تبدو هشة وعارية أمام سطوة السلطة المجتمعية والدينية، وكأن الضوء نفسه هو السجان الذي يحاصر الشخصيات داخل قفصه الوهمي.
في المقابل، لم يكن الضوء دائما أداة للقهر، بل تحول في بعض المشاهد إلى شعاع أمل، حيث استخدمت إضاءات ناعمة أو متدرجة، تعطي إيحاءً بإمكانية التحرر والانعتاق، في أحد المشاهد الحاسمة، ظهر الضوء وكأنه يفتح نافذة للخلاص، حيث سمح للحركة المسرحية أن تتناغم معه في لحظة انسلاخ عن القيد وكسر للحدود المفروضة.
رغم هذا الاستخدام البارع للإضاءة، كان يمكن في بعض اللحظات تخفيف الاعتماد عليها كمصدر رئيسي للسرد البصري، خاصة عندما كانت تصبح هي العنصر الأكثر بروزا، مما جعلها أحيانا تسرق الانتباه من الأداء الحركي بدلا من أن تكمله. ربما لو تم توزيع الإضاءة بشكل أقل درامية في بعض المواضع، لكان ذلك قد سمح للحركة أن تؤدي دورها دون الحاجة إلى دعم بصري زائد. ومع ذلك، لا شك أن الإضاءة في (اليوم الآخر) كانت أحد الأبطال الخفيين للعرض، حيث حولت الخشبة إلى لوحة نابضة بالحياة، تتغير مع كل إيقاع جسدي، وتكشف عن أعمق مشاعر القهر والتمرد.
وفي النهاية يمكننا القول بان عرض (اليوم الآخر) هو تجربة حسية بصرية مكثفة، تطرح تساؤلات وجودية حول الحرية، القيود، والهوية الجسدية، إنه عرض يجسد الصراع بين القمع والرغبة في التحرر، بين الانغلاق والانطلاق، وبين ما يُفرض على الجسد وما يسعى الجسد لتحقيقه.
وكما قلنا سلفا فعلى الرغم من براعة الأداء الحركي والتوظيف الذكي للسينوغرافيا بشكل عام والإضاءة بشكل خاص، إلا أن العرض كان يمكن أن يصبح أكثر قوة وتأثيرا لو تم تجسيد الأدوار النسائية بواسطة راقصات حقيقيات، حيث كان يمكن للجمهور أن يتماهى أكثر مع تجربة الأنثى وهي تكافح داخل القيود المفروضة عليها، بدلا من أن يُستعاض عنها بجسد الرجل. لكن، حتى مع هذا التحدي، نجح العرض في إيصال رسالته من خلال الأداء الجسدي المكثف، والإخراج الجريء الذي كسر القوالب التقليدية للمسرح الحركي.
في النهاية، التحرر ليس مجرد فكرة، بل هو فعلٌ مستمر، تمارسه الأجساد وتترجمه الحركات. وداخل هذا العرض، الرقص لم يكن مجرد أداء، بل كان لغة احتجاج، ونبض مقاومة، ورقصة لا تنتهي..