أضواء على الحركة المسرحية في العراق
تجوال في دهاليز الزمن والأماكن المعتمة
مسرحية: “كوجيتو”
الكاتب: منير راضي
إخراج: علي حبيب
مكان العرض: منتدى المسرح التجريبي/ بغداد
موسم: 2024
**************************
فصل آخر من المسرح المغاير مابين فلسفة النص ورؤية العرض
رست سفينتي في مرفأ كوجيتو فوجدت في استقبالي مجموعة من الأفكار تحمل ابداعاً فلسفياً ومفعمة بالرمزية، وهناك مضامين تلوح لي مثل الهوية وقضايا الوجود والشرور التي صنعها الإنسان ورأيت من المستقبلين هتلر، المغني، كاليغولا، والنمرود…الغرابة قدموا لي الدعوة لحضور محاكمتهم…وخطفتنا الريح وهبطنا في منتدى المسرح في بغداد وسرقنا من الزمن …وقفات لنرى كيف حاول كادر المسرحية ترجمة ما اراده الكاتب (منير راضي) في مسرحيته أو جزء من رؤيته وما حاول فيها من انعكاسات من فلسفته والتي كانت الغطاء المهيمن على اجزائها فلم تكن مجرد استنطاق التاريخ أو السرد السطحي…
ومن مجريات العرض وما رأيناه من الشخصيات وفلسفة وجودها فكان هتلر وما جسده لموضوعة الشر المطلق الذي يتأتى من الدكتاتورية والهيمنة والهوس بحب الذات ووجوده يثير فينا استفهامات عديدة حول ماهية الشر الذي يحمل، وتتوارد لنا الكثير من الاسئلة عن من المسؤول عن ذلك، هل السياسة وظروفها ام المجتمع وتناقضاته وتركت هذه التساؤلات امام المتلقي ليجيب عنها بوعيه وكذلك نجد شخصية كاليغولا وهو الإمبراطور الروماني الذي يجسد الجنون والعبث واللافكر والتشظي، وهو مدعاة لنقاش لطبيعة سلوكه ووجوده والتناقضات في تصرفاته وافكاره.
أما المغني وهو يمثل رمزياً الفن كونه يعبر أو انه كوسيلة للانزواء من الواقع المرير ومواجهة ما يحدث في المجتمع وقد يكون طريقة لكسر القيود وبالتالي يعطي أملاً بالتحرر أو التهرب من المسؤولية في مواجهة ما يحدث وبالتالي قد يجده المتلقي هو آتون الصراع بين كل القضايا وكذلك قد يمثل الهوية التي هي محور القضايا وبغية الأحرار.
لقد كان البناء الدرامي رصين ووحدة الموضوع قد تتراءى للمتلقي انها مفككة، ولكن من خلال السياق العام وتتبع النص والعرض نجدها محكمة.
تناولت المسرحية والتي سطرها كاتبنا ومخرجنا المبدع بحرفية ودربة وفيها وكما يوحي عنوانها المستوحى من ‘رينيه ديكارت’ وجملته الشهيرولكن باسلوب وفكر مغاير وبتأويلات عديدة ‘Cogito, ergo sum’ وترجمتها “انا أفكر،اذن أنا موجود” والمتبحر في المسرحية يجدها تطبيقاً واضحاً لتلك العبارة الشهيرة
ان مزج تلك الشخصيات يؤشر الى نظرة فلسفية عن الصراع داخل الانسان رغم ان الفكرة المركزية تدور عن رحلة الإنسان في البحث عن ذاته و وجوده في عالم اختل فيه كل شيء فتشابكت الرؤى وتمشكلت العلاقات وأصبح الصراع في كل شيء.
ان العمل فيه دعوة للتفكير، وهو بمسارين، تفكير ايجابي لايجاد حلحلة للامور ووضعها في مسارها الصحيح، ومسار اخر يقود الى التوغل بالعبثية والشر، والتفكير هو صفة للانسان تميزه عن بقية المخلوقات والذي قد يصبح ثقلاً على الانسان الواعي، فأما ان يكون ضعيفاً ويستسلم للشر او يكون له لساناً يصدح به فيؤدي به الى المهلكة، والمسرحية تلتقي مع افكار، او بالاحرى الفلسفات الوجودية وبالخصوص التي تأثرت بديكارت والفلسفات الاخرى.
لقد وضع المؤلف السينوغرافيا المفترضة للعمل، وبالطبع ذلك متأتي من المؤلف المخرج…فأسبغ في تقديم نصاً…اقرب الى نص العرض ويحتاج الى مخرج بارع يتعامل مع النص بحذر وجمال…
ان قوة الحوار تحتاج الى مؤدي بارع ليستوفي متطلباته وقد اجاد الكادر فكان الفنان طه المشهداني…ممثلاً اجاد تأدية التناقضات وبأدائه البارع وحركته وتقلبات ادوراه او الشخصيات التي جسدها فكان بطلاً ادى ما طلب منه وبحر فيه وبخبرة فنان…وكذلك كان اداء بقية الكادر موازي…لثورة طه المشهداني اللاذاتية والتناغم في تأدية شخصياتهم ..
للسينوغرافيا دوراً كبيراً رغم امكانية مكان العرض المتواضعة وكانت بطلاً اخر استطاعت تقريب الافكار الى المتلقي واعطت رمزية عالية…وتفسير لبعض الافكار .
ونلاحظ ان النص حاول الاقتراب من العقلانية واللاعقلانية من خلال مع كاليغولا.
“الدكتورة : اذن هدفك هو التألة والفراسة والطاعة التامة وهو متأتي للعقلانية”(1)
وهنا اشار المؤلف الى الصراع بين ما هو عقلاني وما هو عكسه والمتجسد بالهيمنة والسيطرة المطلقة…فرض طروحاته بثقه.
سيصبح من لم يطيع متمرداً…وهذا ديدن الطغاة…الذين غرقوا بعسل السلطة وأصبحوا يتنفسون القسوة.
يتخيل لهم انهم…فقط من الاحرار ومن يعطهم العبيد او الاسرى لديهم وهو تأسيس لمبدأ العبودية والطغيان لدرجة وصل القول لكاليغولا
(باسم الشعب سأحبس الشمس وامتطي القمر وسأسير الهواء واحبس المطر (صارخاً) من يقول ان كاليغولا سيموت وسأرديه في نار سقر)(2)
يعتقد انه سيخلد ولم يصله الموت الى درجة انه يخيف الموت
(لقد غادرني الموت ولا رجعة فيه انه يخجل حين يسمع اسمي…)(3)
سار (منير) بنصه ليدخل الى فكر الطغاة وعنجهيتهم وعرض لنا الصراع الداخلي لديهم والصراع الخارجي مع من حولهم…
وعراهم محاولاً كشف خبايا الوجود وجود الفرد ودور المجتمع ومسؤوليته وكبت تصنع الطغاة
ناقش المؤلف الخيانة وبعض مخلفات المجتمعات المتخلفة كالغش والحقد والقسوة والنفاق وداء العظمة وطرح فكراً يحتاج الى دراسة مهمة لمعالجة تلك المخلفات.
هناك عبارة تثير الانتباه (هناك لافته كتب عليها امة واحدة وقلباً متعدد الجنسيات…ازياء الحضور تتميز بالتاريخية…(زمن السبعينيات))…ولها مدلولاً يترك للمتلقي استقاء الرمزية منه…لم ينسَ الكاتب المبدع (الكلمة) ودورها.
(المتنبي:كلهم عبيد الكلمة فهما فرقان مابين دعي وبغي)(4)
فيها يمكن الخداع والمراوغة وبها نكسب رضا السماء…
هناك شفرات في الطروحات نلاحظه التناقضات في كلامه
(المتنبي:اسمعني انا عشت في ملكوت الكلمة والسيف،ابحثي عني في دواوين الحرية والهجاء ،ابحثي عني في ميادين العزة والكبرياء،انا قاموس الثوار وفلسفة الحكمة والحياة)(5)
(اسألي عن تمردي ومفاخر نسبي،فأنا اعجوبة العصر ونادر زمانه بل كل الازمان)(6)
ولكن لا ينفع ذلك…رغم الاحكام الجائرة عليه والالفاظ التي تقلل من قدره قال وبشجاعه
(المتنبي :انتم لستم اسيادي،ان الشعر حياة لا منصه لنحر الكلمات)(7)
وقد خاطب الطغاة
(المتنبي…انتم حتى المقابر تقتسمونها….باسم المحاصصة)(8)
لقد وضع “منير”وبدربته المعروفة صورة اخرى لطاغية اخرى (هتلر) ووضع العالم تحت سلطته…لقد جعل الجحيم متداول والقسوة معتادة وما حدث من حوار مع المغني…بل من محاكمة جائرة له واصبح في حالة توهان…وتشظي
((المغني يا سيدي لقد ابحرت رمي الدنيا الى ارض رماد فضاعت اقدامي هناك دون جواز للعودة وضاعت خارطة احلامي…انا مجنون فهل يستهدي العميان بالمجانين))(9)
لقد حاكى المؤلف ما يجري في عالمنا مثل الهروب من الاوطان،والغربة داخلها،مكبلين بالقيود التي صنعها الطغاة
(احدهم4 : نفيتمونا في صحارى الحرمان والبؤس مقيدين بسلاسل العبودية والخنوع الشاخص عملاق يتبين انه تمر من ورق)(10)
ارتفع منير بالكلمات واشتدت سنابكها
(احدهم2 :تواريخ عهركم نحن من سيكتبها وينهي الفصول)(11)
فهرع منتفضاً لما فعل الحكام بالحقب الآزفة كالنهر الهائج
(احدهم4 : خراب وطوفان لا يجده جوف ولا ضفاف)(12)
هنا حدثت الانتفاضة
(احدهم3 :افتحوا الباب لنا،ان نحيب السماء اندلق عند الفجر فأيقضنا صوت الجلاء
الجميع :افتحوا الابواب فحلمنا اكتمل…)(13)
الكل غادر بعد ان اخذ ما اخذ من الشعوب، وتركوا الوطن يحاول النهوض
يقول الدكتور عقيل مهدي :”غالبا ما تراهن الشعوب الحضارية المتقدمة على اعتبار المسرح جامعة مفتوحة للشعب،لكي يرتقي المسرح لثقافة الجمهور الوطنية والانسانية” (14)
لقد ترك (منير) النهاية مفتوحة للمتلقي كيف ينهيها حسب تأويله للأحداث.
لقد كان عملاً ادبياً فيه من الرموز تترا…ملغم بالافكار ومفعم بالابداع والسؤال هنا…هل ارتقى العرض بمستوى النص؟…
سؤال يترك للمتلقي ليجيبه
وهل “انا افكر …اذن انا موجود” صحيحة ام خاطئة…سؤال معلق…
في خبايا النص إن الفكر والتفكير هو جدال مع الذات والعالم…وهنا تضيء لنا إشارة فلسفية تحاول فهم الإنسان في عالم مختل…وغير متوازن…
لقد حاول (منير) التلويح إلى المثلث
لم يصل العرض الى مستوى النص وترجمة افكار الكاتب (منير راضي) وان انتزع ثلمة منه وبنى عليها المخرج رؤيته وتأويله للنص وحسب ما استنطق منه افكار.
حيث ختم العرض بالمتنفض والذي قدم، أما نتيجة تراكمات الطغيان أو في غفلة من الزمن…وفي النص حكايات ونقاشات لما يحمله من الموضوعات والتي تكون موجودة في كل زمن وكل مكان ويمكن أن نقول إنما هي دعوة للتفكير بشخصياته واخذ الدروس والعبر لنتائج تصرفاته واصبحوا مثلاً للجانب المظلم من الحياة.
ومن هذا المنطلق عالج النص إحدى القضايا المتعلقة بالوعي والتي تربك المجتمع كالتسلط والحد من حرية الإنسان وبطريقة فلسفية “يجسد المسرح منذ بداياته وحتى يومنا هذا، مجموعة من الموضوعات والاشكاليات المصرية التي تربك المجتمع، وتنشأ في ظروف زمنية متشابكة، تعمل على أضعاف الجانب النفسي، والهدف، بالتالي هو إيجاد عملية خلق التوازن واعادة بناء الوعي الإنساني، فضلاً عن الوعي الجمالي، وايضاً مجموعة من الأفعال التي تعمل من أجل تحقيق حرية الإنسان كنتيجة لعلاقة المسرح بالحياة” (15)
صنع (راضي) نصاً مفتوحاً وبالإمكان إعادة إنتاج عرضه ويروى بتأويلات أخرى بشرط أن تكون بمستوى ماكتبه رينيه ديكارت “أنا أفكر اذن أنا موجود” رغم انه نص مغاير ونص جديد.
“هي فانتازيا ساخرة يجمعها الرغبة في إنجاز حلم يبدو تحقيقه مستحيلاً في زمن متلبس اختلط فيه شخوص تعيش عالم الجنون وتحمل في ذات الوقت وجه الحقيقة.”(16)
غادرت سفينتي والطغاة رموا بمعاولهم لأبحر بها… عائداً وجهتي
لكن سنابك كلمات النص أبت ذلك فكانت مجاذفي وجمال العبارات بوصلتي ورمزيته عدتي
وعميق الأفكار انسي…فكان النص المنتصر مودعا لي…ملوحاً راجياً ان لا تختزل
وتذوب وتفرق أوصالي
فإني كتبني المبدع لأرسل رسالاتي لا اركن في زنزانة الأدراج والملفات فالفكر قامة… لا… يتحمل التشويه…فبالأمس حاكمت القدر…واليوم… أحاكم الطغاة
يقول الدكتور عقيل مهدي:
“في التجربة المسرحية نجد ان قاعات العروض تبقى ثاتبة وخارجية، اما الفضاء الداخلي لبخشبة المسرحية فانها تتسامى الى امكنة وازمنة وشخصيات واحداث بشكل هندسي جديد، مقترناً ببعد تداولي مختلف حسب رؤى المخرجين، اذ لكل منهم طريقته في (كسر افق التوقع) بتخيلات مغايرة للحياة اليومية المعاشة (المألوفة) لابتكار رحاب تصبح فيه اللغة شاخصة وممسرحة لكينونات بشرية تلعب ادوار خلاقة ومؤثرة لتعيش حياتها المتخيلة ببعد مرئي ومسموع امام الجمهور المتفاعل معها” (17)
المصادر:
(1): “كوجيتو” :منير راضي: نص غير منشور، عرض في منتدى المسرح26، 27 و28/ 2024/12
(2): المصدر السابق
(3): المصدر السابق
(4): المصدر السابق
(5)(6)(7)(8): المصدر السابق
(9)(10)(11)(12): المصدر السابق
(13): المصدر السابق
(14): جماليات المسرح ومرويات الفن والادب والسياسة..أ.د.عقيل مهدي،منشورات الاتحاد العام للادباء والكتاب في العراق،طبعة 2022 ص222
(15): تمظهرات الرؤى الاخراجية في تجسيد الصورة المعاصرة،من المؤتمر الفكري لمهرجان بغداد الدولي للمسرح بدورته الرابعة،د.علاء كريم،ص176.
(16): منير راضي في مقدمة مسرحية كوجيتو.
(17): جماليات المسرح ومرويات الفن والادب والسياسة..أ.د.عقيل مهدي،منشورات الاتحاد العام للادباء والكتاب في العراق،طبعة 2022 ص303.