“أح وبردات”، العرض المسرحي التاسع في اليوم السابع للمهرجان الوطني للمسرح المقام بتطوان في دورته 24، في الفترة الممتدة من 22 إلى 29 نونبر 2024، قدم العرض يوم الأربعاء 27 نونبر 2024، في الساعة الرابعة زوالا بسينما اسبنيول، المقترح الإبداعي من تأليف: أحمد السبياع، إخراج: محمود الشاهدي، سنوغرافيا: طارق الربح، التشخيص: جليلة التلمسي، زينب علجي، عادل أباتراب، سعيد عامل، غناء وألحان: دلال البرنوصي، عزف: نبيل الصنهاجي..استقبلنا الصوت الأول بخطاب يقود حتما التأويل، والانتباه لسينوغرافية الصوت: (إذا آلمكم الواقع …..فحلقوا بعيدا)، وحلق بنا العرض إلى عوالمه، بل وحتى في كلمات الأغاني؛ إذ ليس هناك شيء في العرض وضع أو يوضع إعتباطا واعتباطيا.
استقبلنا في البدء بل وقبل البدء الفضاء المسرحي وأهله، بفضاء إيحائي مفتوح مشرع على كل التأويلات، وضع أمامنا عدة أسئلة وإشارات ومداخل لنفك شفراتها ونحن نتلقى العرض بصريا بلغات السنوغرافيا المتعددة والمنتاغمة، من مقوماتها كرة زجاجية بأعلى الخشبة لها علاقة بتأثيث الفضاء وغرائبيته التي من الممكن أن تقرأ كبؤرة تمركز الحدث جماليا وإبداعيا وتقنيا، أعطتنا الإنارة المسلطة على تلك الكرة التي تكس صورا عدة تأويلات وقراءات لدوامة الحدث، كما استقبلنا هذا حدث ببعده الدرامي عبر جغرافية الخشبة ومحيطها وقاعة المسرح وجوانبها وكأن التقنية توجهنا أن الأمر يعنينا جميعا وفعلا هو يعنينا جميعا ونحن منخرطين فيه بالحضور، أثث محيط الخشبة بأشكال هندسية عبارة عن “سكانير”، أو هكذا أولته من مدخل الأداء الذي مر فوقه وكيف وظف في الرؤية السينوغرافية والإخراجية ومقوماتها؟ ضم فضاء الخشبة ثلاث خشبات، واحدة في جانب قصي اختير بعناية لعازف البيانو الذي كان رئيس الأوركسترا يقود الإيقاع ما بين الممثلين والمغنية الممثلة والصمت الذي يجمعنا معا، ويربطنا بالتلقي سمعا وحسا، وخشبة في عمق الخشبة للمغنية قائدة السرد صوتا وحسا ومعنى، وهناك خشبة لها مهمة مركزية السرد مكانا ووظيفة لها الحضور من البداية إلى النهاية بشكلها الدائري المتحرك المقصود في المبنى نحو ولادة المعنى وحتى اللامعنى الذي له معنى، تم الأداء بكل جوانب تلك الخشبة الثالثة ومحيطها بإيقاع وترتيب وتوازن يخدم التصاعد الدرامي، هي إذن خشبة ثلاثية الأبعاد من الأدائية إلى التأويلية وصولا إلى الوظيفية، وهذا ما يبرر لنا البعد القرائي الذي نطرحه والذي قبض على أن السر في هذا الطرح يستند على الفلسفة السينوغرافية وسيميائيتها، الأمر الذي مهد لنا تجسير سر هذا التحاور والتجاور والتكامل والجدل الذي تطرقت إليه الندوة الفكرية للمهرجان في دورته 24، صبيحتي يومي الثلاثاء 26 والأربعاء 27 نونبر 2024، والتي تناولت تيمة هامة: “مهنة السينوغراف وأسئلة الإبداع المسرحي بالمغرب”، إذ قسمت محاورها إلى أربع جلسات كان محور الجلسة الأولى علاقة السينوغراف بالمخرج، وتطرق المحور الثاني لعلاقة السينوغراف بالمتفرج، وتطرق المحور الثالث لعلاقة السينوغراف بالكاتب ليختم المحور الرابع حول علاقة السينوغراف بالممثل، وهي الندوة التي تحاور فيها صناع الفرجة عن نوعية العلاقة التي تجمعهم ويجتمعون بها ومن خلالها، هل هذه العلاقة تكاملية أم تقاطعية أم صراعية؟ ! وتباينت الأفكار لتصرح الندوة أن جوهر العلاقة تكاملية في الروح والجوهر رغم اختلاف التوجهات والمدارس والحساسيات، خدمة لمسرح مغربي نأمله أن يكون متطورا ومواكبا ومتحولا وفاعلا..
تواطئ سنوغرافيات صناع فرجة “أح وبردت”بمونولوكات وتنائيات أسندت فيها مهمة المونطاج إلى المتلقي، وبذلك قدمت الدراما نفسها عبر تقطيع سينوغرافي دلالي، بمونولوكات قدمت لنا مرجعية كل شخصية على حدة عبر رجع زمني يشبه التنويم المغناطسي والتداعي الحر، ما بين المرجعية التأثيرية التربوية المتطرف التوجه والتأثير والتأثر لشاب وجد نفسه في محيط وفضاء متطرف إلى أن وجد نفسه مع نفس لا يفهمها هو فبالأحرى أن يفهمها الطرف الثاني الذي يعيش معه وله هو الآخر تطرفه بمرجعية أخرى مدخلها الانتماء والهوية والمسار الأسري، بحضور متطرف آخر بسبب اجتماعي مرجعيته أسرية تركت أثرها النفسي والاجتماعي عبر الطلاق، لتبقي الشخصية الرابعة بدون مونولوك بل ترفض المونولوك، لأنها لا تود أن تحكي كونها مازالت في مرحلة “أح” الجزء الأول من العنوان والجزء الثاني “بردات” قد يكون يخص باقي الممثلين والمؤولين وعموم المتلقي، لعنصر الخيانة التي حضرت كآلية تساعد التأويل لممارسة تأويلياته بل وحتى استقاطاته.
هي قراءة سينوغرافية للعرض ولسينوغرافية العرض، وجهتني أن أوسم فكر السينوغرافيا في كل مقومات العرض من التأليف إلى التلقي والحاضر بتناغم وجدل وحوار سينوغرافيات، هذه السينوغرافيات التي تلقيتها وأولت وجودها في كل مكونات العرض، بدء من سينوغرافية التأليف وقد دعم هذه الفكرة ما راج في مناقشة العرض، في التاسعة والنصف ليلا من نفس يوم العرض الأربعاء 26 نونبر 2024، بفضاء إكليل..حيث صرح المؤلف، أن علاقته بالمخرج وأهل العرض كانت تكاملية وأن نصه بقي حاضرا بنسبة 90% وأكثر، خلاف علاقته مع بعض المخرجين. ثم سينوغرافية الإخراج مع المبدع محمود الشاهدي، وذلك عبر العلاقة السلسة مع مشروع فرقة انجي، التي قطعت من عمرها الفني قرابة عقدين من الزمن، هذا المشروع الذي تترجمه المغامرة الغامرة للمنجز المسرحي والمساهمين فيه، وسينوغرافية السينوغرافي طارق الربح الذي أصبح توقيعه مؤشرا تأويليا يساعد التلقي بتنوعه من الناقد والصحفي والدارس والمتتبع لبناء المعني، سيما والرهان الفكري والجمالي الذي يصرح به دائما طارق الربح يكمن عبر بصريات جديدة اسمها السينوغرافيا، والغاية أن يرفع من شأن المسرح المغربي وتطويره. سينوغرافية التشخيص، والمراد بها حينما يكون الممثل واعيا وسهلا ومرنا ومؤهلا أن يصبح آلية سينوغرافية حية أو آلية بروح وعقل وإرادة يكسب العمل المسرحي نسبة هامة من نجاحه وتحقيقه لغاياته، إلى جانب سينوغرافية المجال الفني والتقني والموسيقي كلمات ولحن وغناء، ثم سينوغرافية التلقي لكون كل الإبداع قبلا وحينا وبعدا يعد للمتلقي المحتمل والمنتظر بتعدده، لأننا حينما ننخرط في العالم أي عالم نصبح جزء منه، كأن تسمع أغنية عابرة فإذا بها تسكنك وترددها بدون شعور، ونفس الأمر يحصل لنا حينما نجد أنفسنا نسير في طريق لوجهة لم نكن نقصدها وهي قصدتنا، ومن أهم أدوار الفن تحقيق هذا السفر في الزمان والمكان والمعنى عبر الألوان والأشكال والسميائيات لتتحقق فعل وفرجة الميتافيرس، “أح وبردات”..