كيف يستطيع الإنسان أن يدرك قيمة وجوده وسط محيط يسعى باستمرار لإهدار تلك القيمة وتعطيلها؟ وكيف يمكن له أن يحافظ على مقومات إنسانيته بعيدًا عن العوائق التي يفرضها الواقع، سواء كانت اجتماعية، سياسية، نفسية، أو حتى حضارية؟ هذه الأسئلة الكبرى تشكل جوهر النقاش الذي يتناوله العرض المسرحي (بيت أبو عبد الله) من تأليف وسينوغرافيا وإخراج أنس عبد الصمد، وتقديم فرقة المستحيل، ضمن إنتاج دائرة السينما والمسرح العراقية.
العرض، الذي قُدم على خشبة مسرح الريو بتونس بتاريخ 26 نوفمبر 2024، خلال فعاليات الدورة الخامسة والعشرون لمهرجان ايام قرطاج الدولية Jtc، يفتح أبوابه أمام جمهور متعطش للأسئلة الكبرى، التي تتشابك مع حياتهم اليومية وتعكس أزماتهم الوجودية، هذه الأسئلة ليست مجرد شعارات أو أفكار عابرة، بل تُجسد بعمق عبر شخصيات العرض وأحداثه، أبرزها عائلة أبو عبد الله التي تعاني من عزلة خانقة وصراعات داخلية، إلى جانب الطبيب المعالج وما يمثله من محاولة لإنقاذ ما يمكن انقاذه، فالمسرح هنا ليس مجرد فضاء للأداء، بل عالم ينبض بالتفاصيل، حيث تتحول العناصر المادية مثل الغسالة، آلة الجلو، الكراسي، الميكروفونات، والحبال إلى رموز دالة على قضايا الانقراض، العزلة، وتآكل العلاقات الإنسانية، هذه الرموز تتحرك ضمن فضاء مغلق أشبه بالسجن، مما يعكس واقع الأسرة الممزقة التي تكافح للحفاظ على تماسكها في وجه ضغوط داخلية وخارجية، من جهة أخرى، قدمت السينوغرافيا مشهديات صادمة عبر استخدام الجرذان كرمز للاختناق والتهديد، وهو ما تسبب بتوتر مباشر للجمهور. أما الإضاءة، بتصميم الفنان علي السوداني، فقد كانت أكثر من مجرد وسيلة توضيحية، فقد أصبحت عنصرا سرديا ساهم في بناء التوتر والإيحاء بمعاني الصدمة والاستفزاز، اما الأداء الجسدي فقد كان للشخصيات محورا أساسيا في نقل رسائل العرض، خاصة الزوجة (ثريا بوغانمي) التي جسدت الألم والخوف عبر لغة جسد مبتكرة، تتكامل مع الصمت السكوني للزوج (محمد عمر) الذي افتتح العرض بطريقة تحمل الكثير من التوقعات، اما دخول المخرج ذاته (أنس عبد الصمد) على خشبة المسرح أضاف بعدا جديدا للعرض، حيث عبر عن الازدواجية والانفصال الذي يعانيه الإنسان المعاصر، وكذلك الطبيب (ماجد درندش) أدى دورا محوريا كرمز للأمل وإعادة الحياة رغم سوداوية المشهد العام.
ولكن على الرغم من القتامة التي غلفت أحداث العرض، فإن لحظات الأمل والإصلاح لم تغب تماما، حيث جاءت مشاهد مثل إعادة الحياة لأفراد الأسرة بعد موتهم كإشارة إلى إمكانية تجاوز المحن وإعادة بناء الروابط الإنسانية لذلك يمكن القول بأن العرض لم يكتفِ بطرح أسئلة وجودية عميقة، بل قدم دعوة لإعادة النظر في واقع الإنسان الذي يعاني من تهميش مركب، داخلي وخارجي، على حد سواء.
إن تجربة (بيت أبو عبد الله) تقف على حدود المغامرة الفنية، إذ تبتعد عن النمط التقليدي للمسرح وتتحدى القوالب الجاهزة، معتمدة على تجريد الأفكار وتجسيدها عبر الرموز البصرية والجسدية، وفي هذا الإطار، يمكن اعتبار هذا العرض محاولة جريئة للبحث عن إجابات للأسئلة الكبرى التي تواجه الإنسان اليوم، في ظل واقع اجتماعي وسياسي معقد.
نعم لقد نجح المخرج أنس عبد الصمد وفريق العمل في تقديم تجربة مسرحية تستحق التأمل والتحليل، لأنها لا تقتصر على الترفيه بل تسعى إلى بناء حوار حي مع الجمهور حول قضايا تمس جوهر وجودهم، فكان عرض مسرحية (بيت أبو عبد الله) ليس مجرد عرض مسرحي بل رحلة فنية وفكرية تحث الإنسان على التمسك بآدميته رغم كل ما يحيط به من عوائق وتحديات.