قبل البدء بالكلام عن علاقة الفلسفة بالمسرح او المسرح بالفلسفة، وطرح بعض التساؤلات لابد من تعريف المصطلح والتطرق الى اهم المرتكزات ومن ثم محاولة ايجاد الخصائص المشتركة بينهما للخروج بمصطلح او مفهوم موحد جديد ان صح التعبير. فالفلسفة تعرف على انها((لفظ مشتق من اليونانية واصله (فيلا – صوفيا)، ومعناه محبة الحكمة. ويطلق على العلم بحقائق الاشياء، والعمل بما هو اصلح))(1)والفلسفة هي ((شكل من اشكال الوعي الاجتماعي، يمثل نسقا من المفاهيم العامة عن العالم ومكانة الانسان فيه، والاساس النظري لرؤية العالم))(2) كما ورد تعريف الفلسفة في كتاب دروس في الفلسفة على انها (( الحكمة الانسانية، أي: ارقى معرفة مقدورة لنا بوسائلنا الخاصة التي هي العقل ومناهجه))(3) اما المسرح فقد مر المصطلح عبر العصور بالكثير من المسميات قبل استقراره، اذ اطلق بالبداية على المسرحية اسم الرواية ولتفريق بين المصطلحين اضيفت كلمة التشخيصية اي ان المسرحية تسمى الرواية التشخيصية وبعدها الى الرواية التمثيلية واستمر الحال الى الخمسينيات استقر الاسم على المسرحية، والحال نفسه على مكان العرض اذ اخذ عدة مسميات مثل (المرسح) اي الساحة الواسعة وبعدها اطلق عليه مصطلح ايطالي (تياترو) ليستقر اخيرا على كلمة (مسرح)(4).
وقد تم تعريفه من قبل الموسوعة البريطانية على انه (( فن من التمثيل الاحتفالي وهو واحد من الفنون الواسعة الانتشار في الثقافات المختلفة (…) والمسرح بالدرجة الاولى فن ادبي يؤدي بدرجات متفاوتة من الافعال لنشاطات مختلفة مثل الرقص والغناء والاستعراض))(5) والمسرح ايضا هو ((هو فن تشخيصي يقوم على محاكاة الأفعال البشرية بالصوت و الحركة باستخدام الجسد كمادة أولية و محورية للتعبير, و ما يرتبط به من إشارات دالة على الزمان و المكان أمام جمهور حاضر))(6).
فمن خلال الاطلاع على التعاريف الاصطلاحية لكل من الفلسفة والمسرح يمكن الاستدلال على ان الفلسفة هي نافذة للتفكير والاستنتاج والتحليل والتأويل والنقد والتشخيص الدقيق لكثير من الخفايا والمعوقات والاشكاليات باختلافها، اما المسرح هو المكان او الحلبة التي تتصارع عليه كل المفاهيم الفلسفية من اجل الوصول لنتائج او البحث عن اجوبة وحلول مخفية عن الانظار وذلك بوصف ان المسرح هو أفضل من يعبر عن المشهد الفلسفي.
كما ان اكثر تعاريف الفلسفة تركز على انها الحكمة او محبة الحكمة التي بدورها تجد المسرح الباب الاوسع لتمرير نظرياتها للعامة لكون المسرح هو اكثر مجال يمكن من خلاله تمرير الحكمة والموعظة بصورة واسعة الانتشار فضلا عن امكانية فهمها وادراكها لكافة طبقات الشعب سوآءا كانت المثقفة او بسيطة التعليم لان (( فن المسرحية هو اكثر فنون الادب حاجة الى نضج الكلمة، وسعة التجربة والقدرة على التركيز والاحاطة بمشاكل الحياة والانسان لا لأنه يتعمق الى جذور الحقائق الانسانية ويكشف الغطاء عنها فحسب، بل لأنه الفن الذي لا يمكن ان يسلم قياده الا لفنان يستطيع ان يتقمص مشاعر الاخرين وان يتجاوز حدود نفسه الى سواه، فنان قار على التأثير بالجماعة الانسانية التي يعيش معها والتأثير فيها))(7). فكل هذه الصفات التي يتحلا بها المسرح من الجهة الفنية او من جهات اخرى مثل القيادة والقدرة على التركيز والتشخيص الدقيق تجعله وبقوى اليد اليمنى للفلسفة، التي من خلالها تمرر انساقها وافكارها ومبادئها الفلسفية، منذ القدم كما فعل (ارسطو وافلاطون) عندما تكلمها عن نظرياتهما في المحاكاة التي عكست كل نظرية اهم مرتكزاته الفكرية والفلسفية التي يمكن ان تتضح من خلال المقارنة بين هاتين النظريتين المختلفتين تماما. وذلك لان المحاكاة لدى (افلاطون) تتسم بالمثالية العليا، اي بمعنى انها اقتربت من القيم المثالية الالهية مثل قيم ( الخير والحق والجمال) بينما المحاكاة لدى (ارسطو) هبطت للواقع لتجعل من الانسان بكافة تجلياته مصدرا لها اي انها اقتربت من المادية والواقعية، كما ان المحاكاة الأفلاطونية كانت عبارة عن تقليد ونسخ النسخ لأنه اعتقد ان الفنان عندما يحاكي الطبيعة فهو بذلك ينسخ النسخ لان الطبيعة هي نسخ من الصور العليا، هذا ما رفضه (ارسطو) الذي اعتبر المحاكاة هي تجديد وابداع وليست صورة مستنسخة تماما للواقع(8). اذ ان المحاكاة وارتباطها بالفنون بصورة عامة وبالفن المسرحي بصورة خاصة عكست الآراء والمبادئ الفلسفية لكل من افلاطون وارسطو من خلال المسرح وهذا دليل ان على ان الفيلسوف يجد المسرح بوابة لتمرير نظرياته الفلسفية وتجدد العلاقة ما بين الفلسفة والمسرح بصورة أعمق. وبعد ما قدم (ارسطو) نظرياته عن المحاكاة والتراجيديا ووضع اسسها وقواعدها المعروفة جاء بعد الفيلسوف (هيغل) ليقدم نظرية جديدا عن التراجيديا التي عارض بعض ما جاء في نظرية (ارسطو) الذي أكد ان التراجيديا هي قصة التعاسة والمأساة والعذاب ومنها تثار مشاعر الخوف والشفقة، لأنه قال :”ان العذاب ليس مفجعا بذاته بل المفجع هو العذاب الناجم عن نوع معين من العمل. والشفقة مثل الخوف من الكارثة ليست بالذات شفقة تراجيدية، بل انهما ينجمان من مشهد الصراع ثم ما يرافقه من عذاب وهذا الامر لا يمس مشاعرنا فقط او غريزة حب البقاء فينا بل يمس اعماق عقولنا وارواحنا”(9). وهنا قرب (هيغل) هذا الصراع من الروح المطلق اي انه صراع روحي وذاتي وكذلك صراع بين القوى المتحكمة بالإرادة الانسانية، وهو بذلك ابتعد فلسفيا عن طروحات (ارسطو) بما يخلص فلسفة التراجيدية وتطبيقاتها المسرحية.
اما الفلسفة (الماركسية) فقد وظفت المسرح من اجل تمرر افكارها المادية والثورية التحررية فقد وصفت العلاقة بين الماركسية والمسرح علاقة تحرر وتأسيس كيان مستقل للإنسان المستعبد والمستضعف معتمدين بذلك على الطبيعة وامكانية استغلالها بشريطة ان يكون هذا الاستغلال خاضع لشروط علمية عملية ولا يبنى على طروحات متخيلة نابعة من تفكير خرافي ميتافيزيقي، بل عبر دقة ونظام وعمل متواصل لتحقيق الاهداف المرجوة من خلال السيطرة على القوانين ولاسيما قوانين الطبيعة الخارجية والقوانين التي تدير الوجود الديني والروحي للإنسان ووعي الضرورة في السيطرة على النفس (10). ومن المعوقات التي صادفت الفلسفة الماركسية في مجال المسرح هي ان الماركسية هي فلسفة مادية واقعية والمسرح نشاط فني خيالي وهذا ما جعل الكثير من النقاد يفصل ما بين الماركسية والمسرح ويعتقد انهما متضادان، لكن بعض الكتاب نفوا مثل هكذا تصريحات من خلال تبينيهم موقف يقتضي ان ليس بغريب على الاطلاق ومن الطبيعي جدا ان يتبنى كاتب المسرح موضوعا خياليا ذو نظرة مادية الى الحياة (11). وبالأخير ان الابداع والخيال الفني هو بالأساس انعكاسا للحياة الواقعية، وهذا ما تأسست عليه نظرية الانعكاس المشتقة من الفلسفة الماركسية. وسارت معظم الفلسفات على نفس النهج من خلال الاستعانة بالمسرح لعض بضاعتها الفلسفية بطعم الفن والادب، فلفلسفة (الوجودية صاحبة المقولة المشهورة (الوجود يسبق الماهية) سعت جاهدة من خلال المسرح تطبيق سياساتها التحررية والثورية والتمردية من خلال تفعيل مبدئ المقاومة. وبما أن الإنسان هو المرتكز الرئيس لمبدأ المقاومة، لذا كان تحرره هو المعيار الاساسي الذي ترتكز عليه اغلب مبادئ الفلسفة الوجودية للمسرح، فكان السعي بجهد كبير لتعظيم شانه ومنحه كل الحرية في التفكير والتصرف، لأن الوجودية في اصلها هي (( تيار فلسفي يعلي من قيمة الانسان، ويؤكد على تفرده، وانه صاحب تفكير وحرية وارادة اختيار ولا يحتاج الى موجه))(12)، ولا حتى إلى باعث خارجي يكون ذو تأثير على قراراته او سلوكه وتصرفاته التي يجب أن تنطلق من ذاته بحرية تامة.
وعند القول أن الوجودية ((اذا تنادي بهذه الفكرة انها تريد ان تدع للإنسان فرصة التفكير في نفسه والرجوع الى ذاته، والاحتكام الى رأيه الخاص في كل مشكلة تعرض له، وفي كل موقف يتخذه بمناسبة من المناسبات))(13). وخير مثال عن الشراكة بين الفلسفة والمسرح هي ان اغلب الفلاسفة الوجوديين امثال (سارتر وكامي وهيدجر) عمدوا كتابة نصوص مسرحية تدعم اهم آرائهم الفلسفية المتمثلة بالوجود والحرية، مستخدمين الكثير من المصطلحات مثل القلق والتمرد والانتحار وسعوا جاهدين الى تمثيلها في تلك المسرحيات مثل مسرحية (اسطورة سيزيف) ومسرحية (المتمرد) لكامي او مسرحية (الذباب) لسارتر وغيرها من الاعمال التي اسست او نقلت الفلسفة الوجودية من عالمها النظري الى التطبيقي.
اذ ان كل النظريات الفلسفية كانت لها تطبيقات مسرحية، وفي بعض الاحيان هنالك مذاهب او تيارات مسرحية اسست نظريات فلسفية اخرى، وذلك لان خشبة المسرح كانت ارضاً خصبة لمثل هذه الممارسات، اذ شكلت علاقة الفلسفة مع المسرح علاقة تفاعلية ساهم كل منهما في تعزيز الاخر وتثبيت دعائمه، لان المسرح هو منبر الفلسفة.وهذا الاهتمام المتزايد بالمسرح الذي جعل منه في كثير من الاحيان الناطق الرسمي باسم الفلسفة ولم يأتِ اعتباطا بل انبثق من فكر ((يتجاوز المسرح كونه مسرحاً، لأنه اكثر الفنون ارتباطاً بالتجربة الجمعية الحية، وتعبيرا عن الاحساس بتمزق الحياة الاجتماعية ))(14)، التي لا يمكن السكوت عنها كونها تعد من المشكلات الحيوية التي عمدت الفلسفة بكافة تجلياتها على ايجاد الحلول المناسبة لهذه المشكلات الفلسفية من خلال خشبة المسرح وفارسها الفنان.
الخاتمــــة:
1- الفلسفة مجال للتفكير والتحليل والبحث والتشخيص والنقد، وكل هذه المرتكزات تحتاج ارض خصبة للتطبيق وهو المسرح.
2- تعتمد الفلسفة بصورة عامة على الحقائق والثوابت بينما يعتمد المسرح على الابداع والخيال لأثبات هذه الحقائق.
3- أكثر الفلاسفة خاضوا تجارب مختلفة في التأليف المسرحي من اجل تدعيم نظرياتهم الفلسفية ولاكتسابها انتشارا واسع،
4- تعتمد الفلسفة في اغلب الاحيان على جانب الديالكتيك الذي يعد اساس الصراع في النص المسرحي.
5- بعض المذاهب والتيارات الادبية والمسرحية اصبحت منبع لكثير من النظريات الفلسفية.
قائمة المصادر:
([1]) د. جميل صليبا، المعجم الفلسفي ، ج2، ( بيروت : دار الكتاب اللبناني ، 1982)، ص160
([2]) مجموعة ، المعجم الفلسفي المختصر: رؤية ماركسية ، ( موسكو : دار التقدم ، 1986 ) ، ص 338 .
([3]) يوسف كرم و ابراهيم مدكور ، دروس في الفلسفة ، ( بيروت : عالم الادب للبرمجيات والنشر والتوزيع ، 2016) ، ص 13.
([4]) ينظر : محمد كمال الخطيب، نظرية المسرح، القسم الاول،( دمشق: منشورات وزارة الثقافة، 1994)،ص 7.
([5]) لينا نبيل ابو مغلي، الدراما والمسرح في التعليم، (عمان: دار الراية، 2008)، ص38 .
([6]) هيثم يحيى الخواجه، محاور في المسرح العربي، ( دمشق: منشورات المعهد العالي للفنون المسرحية، 20029)، ص 181.
([7]) محمد زكي العشماوي، المسرح: اصوله واتجاهاته المعاصرة مع دراسات تحليلية مقارنة،(الكويت: مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للأبداع الشعري، 2009، ص 11.
([8]) ينظر: راوية عبد المنعم عباس، القيم الجمالية ،( الاسكندرية: دار المعرفة الجامعية، 1987)، ص 58-60.
([9]) تبويب: مارك شورد واخرون، النقد: اسس النقد الادي الحديث، ترجمة: هيفاء هاشم، (دمشق: منشورات وزارة الثقافة، 2006)، ص 130.
([10]) ينظر: فريال حسن خليفة ، تصورات الحرية في تاريخ الفلسفة ، ( القاهرة : دار الفكر العربي ، 2016 ) ، ص 124.
([11]) ينظر: مارك شورد واخرون، مصدر سابق ، ص 253.
([12]) مجدي كامل، الوجودية، (دمشق: دار الكتاب العربي، 2016) ، ص 9.
([13]) مجدي كامل، المصدرنفسه ، ص 39.
([14]) عبد الواحد بن ياسر، المأساة والرؤية المأساوية في المسرح العربي الحديث، ( بغداد: دار ومكتبة هدنان، 2013)، ص 53.