بات مسرح الشارع ظاهرة جمالية حية خلال السنوات العشر الماضية، وأقيمت عدة مهرجانات لمسرح الشارع في العراق. وتشكلت فرق مسرحية تختص بهذا النوع الدرامي تحديداً ، بعد أن كانت العروض مبادرات فردية للشباب الهواة وسرعان ما تنطفي.
ويرتبط الجميل والمثير والمشوق والجديد والمتنوع، أي المُسلي والممتع من ناحية والمفيد ايضاً ليكون مصدر جاذبية العمل الفني، وعليه تتشكل وحدة بين مبدأ الفائدة ومبدأ الجمال، وأن التوازن بين جانبي الفائدة والجمال مطلب مهم ، يجب أن لا يطغى جانباً على آخر.
مسرح الشارع هو المسرح المغاير اسلوبياً لكل أنواع المسرح فهو يسير برحلة بحث دائم عن ثيم مجتمعية بأسلوب ابداعي حيث التكثيف والاختزال والدهشة والاستجابة الجمالية، ويذهب الى المتلقي في مختلف الفضاءات ليقدم عروضه، وهو مسرح متحرك متنقل يذهب الى المتلقي بخلاف جميع انواع المسرح التقليدية التي يذهب المتلقي اليها وهي ساكنة ومستقرة كجزء من جغرافية المدينة، وفي الوقت نفسه يعمل مسرح الشارع على استقطاب وصناعة المتلقي، وذلك على وفق تبسيط واختصار جميع العناصر المكونة للعرض المسرحي بما يجعله منطلقاً من المجتمع وبذات الوقت يقدم الى المجتمع.
” ولد مسرح الشارع عندما انطلق من مجموعة عوامل اجتماعية ونفسية تجلت في نشأة الإنسان الأول للتعبير عن آلامه وصراعاته مع كل شيء من حوله من أجل البقاء، متوسلاً في ذلك بعناصر جمالية وحسية، ويعني ذلك أنه حول حياته عن طريق المسرح إلى فن، وهو ما يفسر جوهر المحاكاة وفقاً لارسطو بوصفها غريزة متأصلة في جميع البشر ، ويطلق عليها غريزة التمسرح التي تجلت من خلال ميل الإنسان البدائي للتظاهر في كافة تعاملاته مع الطبيعة من حوله ، ومع أخيه الإنسان ، وكل الكائنات والموجودات “(حسام الدين مُسعد، ص 28، 2023) .
عرضت مسرحيتان في شارع المتنبي / مركز بغداد للثقافة / يوم الجمعة 2024/9/6 الساعة العاشرة ، والعاشرة والنصف صباحاً .
قدم تجمع فنانو العراق/ مسرحية بعنوان ( دخول خاطىء) تأليف :عباس الغليمي / اخراج محمد منعم .
قدمت وزارة التربية / الكلية التربوية المفتوحة/ مركز الفلوجة / مسرحية بعنوان ( ذوات متشظية ) تأليف واخراج :بهاء زهير الشمري .
جاءت ثيمة العرضين متشابهة تتحدث عن موضوع واحد ، تسليط الضوء على ما خلفته الحروب من دمار ونكبات وانتكاسات ونكوص ، وتفتيت وتشظي للنفس البشرية ، وحالة القلق والخوف من المجهول ، وزج الشباب الى المحرقة ، الى الموت المحتم ، بحجة الدفاع عن الوطن كما تدعي الحكومات وما نجم عنها من جيل لا أمل له في الحياة .
مسرح الشارع يعتمد في موضوعاته على كل ما يُهم ، ويعني الناس . ويستقي الكاتب والمخرج الأفكار والرؤى الاخراجية والجمالية حيث قدم العرضين بأطار من المتعة والمفاجأة ، وما يحفز على التحريض .
شًخًصً العرضين المسرحيين ( دخول خاطىء ) و ( ذوات متشظية ) مجموعة من الشباب المؤدين اعتمدوا بساطة المفردة اللغوية للإنسان البسيط .
في المسرحية الأولى (الدخول خاطىء) وظفت موسيقى لأغنية تعبوية معروفة لدى الشارع العراقي ، عًلقًت في ذهن المواطن العراقي الذي اكتوى بنار الحروب التي كانت حاضرة على الدوام في العراق اكلت الاخضر واليابس عبر تاريخ مرير مليء بالدم والموت .
جاءت عبارة ( لا تستوحشوا طريق الحق لقلة سالكيه على لسان الشخصيات ) لكثرة انتشار الباطل والابتعاد عن طريق الحق ، وانتشار الرشوة ، واكل مال الحرام ، وكل ما له صلة في تدمير الإنسان وابتعاده عن الحق والخير والحب والجمال والسلام .
في مسرحية ( ذوات متشظية ) قدم الشباب المؤدين صور من حياة مريرة ملؤها الشجن والعوز والفقر والظلم فهم خريجو جامعات باختصاصات متنوعة ومهمة يفترض أن تكون لهم مكاناً يليق بشهاداتهم وتخصصاتهم ويسهموا في بناء البلد وتقدمه كالهندسة والعلوم واختصاصات اخرى ، وجدوا أنفسهم ضائعين في الشارع ، حيث لا عمل لهم ، ولا وظيفة مرموقة ليأخذوا دورهم في بناء الوطن .
بات الضياع واضحاً للنفس المتشظية ادى بهم الى ممارسة مهن بسيطة ، لا تليق بهم وبتعليمهم لكسب لقمة العيش ، فهذا بائع متجول لقناني الماء وآخر يبيع الملابس المستعملة ….
انهم انموذج من الشباب الذين دافعوا عن الوطن ورخصوا دمائهم التي روت الأرض وحمت العرض ، زُج بهم في الحروب ، في حين من تربع لكسب المغانم والامتيازات من هو وصولي متملق استنزف حقهم وجهدهم وحصل على كل شيء في الحياة ، الوظيفة المرموقة ، والعيش الرغيد والسكن الفاخر ، والأولاد الذين هم في المدارس الاهلية للحصول على تعليمهم المتميز ، مُدعياً هذا الوصولي انه يعرف كيف يتصرف في الحياة ، والتي هي عبارة عن غابة يأكل فيها القوي الضعيف و يسلبه حقه في العيش والحصول على عمل والتمتع بحقوقه كفرد في هذا المجتمع .
وهذه هي مخرجات الحروب القذرة التي تجتاح البلدان وتمزق كل شيء في الحياة .
في مسرحية ( دخول خاطيء ) وظف المؤدين ( سلسلة حديدية ) طويلة بشكل دلالي معبر وجميل ، اعطت ايحاءاً للمتلقي بدلالة السجون والقيود والظلم وتكميم الأفواه والاعتقال من كان يطالب بأبسط حقوقه ، في الحصول على جواز سفر، أو الحصول على بطاقة السكن ….استثمرت في بداية ونهاية العرض ، وبذا تكون مسألة تذوق ما يُعرض للجمهور يتطلب التشخيص والتحليل والاستنتاج لحصيلة ما يُقدًم من أفكار ، وما يميز الفن عبر تاريخه العريق الدور الاجتماعي الذي أثر من خلاله على حياة الناس على اختلاف انتماءاتهم الطبقية و مرجعياتهم الثقافية وبمختلف مراحل الحياة الإنسانية ، فهناك كبار السن ، والشباب والأطفال ، النساء والرجال.
جاءت لغة ( الحوار ) عبارة عن جمل قصيرة ( تلغرافية ) ، حوارات قريبة من الناس بلهجة محلية معروفة ومفهومة انسجاماً من نهج تبسيط اللغة .
تسيدت لغة الجسد في كلا العرضين ، وكانت حاضرة من خلال الحركة المعبرة ، والايماءة الموحية بوضوح .
اللوازم في كلا العرضين كانت قليلة مقتضبة فقيرة في امكاناتها في بناء فضاء العرض ، فضاء المتلقي الذي خلق حالة من توحد بين المؤدي والمتلقي ، والابتعاد عن الفواصل التقليدية ، واعتماد أسلوب المخاطبة المباشرة للوجدان الجمعي ، وهذا ساعد المتلقي في أن يكون مشاركاً فعالاً في العرض ، وخلق مجال رحب وواسع للتطور .
اعتمد العرضين على البساطة في ازياء شخصيات المؤدين الشباب ، ففي مسرحية (دخول خاطئ) توشحوا باللون الاسود معناه الدلالي وتأثيره السايكوفيزياوي يمثل الليل والظلام ، وثقل اللون والثبات ، وكثافته .
في حين في مسرحية ( ذوات متشظية ) ارتدت الشخصيات لباس بلون ابيض دلالة النقاء والطهر وبراءة الشخصيات والخلود ونظافة اللون والصحة ، فهو لون خفيف ، متحرك .
قدم العرضين مجموعة شباب بحماس وتفاني وإخلاص لموضوع ساخن ، يتناغم مع حديث الشارع ، شباب يمتلكون الهمة والشجاعة والروحية المتعاونة والاندفاع في خط سيرهم باتجاه الأداء وتجسيد ما طرحوه من أفكار وقضايا ومواضيع مرحلية تهم الشارع من خلال التعبير عن قضاياهم وايجاد حلول لمشاكلهم ، فهم عرضوا لنا الضغوط التي يتعرضون لها بسبب صعوبات الحياة ومشاكلها كل هذا بقصد الحصول على نتائج اجتماعية تؤثر في المجتمع من خلال المساهمة في إحداث التغيير المناسب لخدمة الفرد والمجتمع والمطالبة بالحقوق و التطرق للأمور الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والترويحية .
إحالــة:
* حسام الدين مُسعد: مسرح الشارع هنا والآن ، الدار الجامعية للطباعة والنشر والترجمة ، بغداد: 2023، ص 28.