شكّلت الحلقة خلال فترة الحماية وما تلاها من فترات وصولا إلى الاستقلال وما بعده، بوصفها فضاء عموميا، مجالا لتلقي المحكيات الشعبية، والعروض الفنية والإبداعية من غناء ورقص. ومجالا لإمتاع المتفرجين في جو تفاعلي ميزته المؤانسة، دون أن يخلو من رسائل مضمرة تُعبّر عن مواقف رافضة لأنماط التفكير الغربي الذي بات المجتمع المغربي عرضة لها. فظلّت موضوعاتها، إلى جانب سِمْتها الهزلي، منبعا للمعطيات التاريخية، والمعارف، والأخبار التي يحتاجها الباحث التاريخي والأنتروبولوجي، باعتبار مضامينها شواهد شفوية على ملامح من الثقافة المغربية بالنظر إلى الدور المهم للتراث الشفوي في نقل الأخبار بوصفه أساسا قام عليه التدوين في مراحل لاحقة، فالوثيقة المكتوبة لم تعد “الأداة الوحيدة لاستخراج المعلومات والبناء عليها، إذ اتسعت المصادر مع أعمال التأريخ الجديد، بدءا من ثلاثينيات القرن الماضي وأربعينياته، لتشمل الصورة والرسم وأي تعبير فني، بل أي تعبير إنساني آخر، وفي طليعته التعبير الشفوي”[i].
تعد الحلقة تاريخيا فضاء قديما، يعود وجوده إلى ما قبل الاستعمار بعقود طويلة، فقد ذكرليون الإفريقي (الحسن الوزان) في القرن العاشر الهجري السادس عشر للميلاد في معرض وصفه لمدينة فاس أن بها أناسا ينشدون في الساحات قصائد وأغنيات لاعبين بالدف، والرباب، والقيثار، وغيرها من الآلات. ويبيعون للأغمار أوراقا صغيرة كتبت عليها كلمات وعبارات ناجعة في زعمهم للشفاء من كل داء[ii]. ومن المعروف أن أنواع الحلقة الممارسة بالساحات العمومية بالمغرب متعددة، تتوزع بين حلقاتٍ للاستطباب الشعبي، وأخرى للغناء والرّقص والعزف، وأخرى للعرافة والمتاجرة بالتمائم، وجوالب السعد، وغيرها من الحلقات التي تم تطويرها تأقلما مع متطلبات الجمهور في كل منطقة وفي كل ظرف تاريخي. إلا أن اهتمامنا سينصب على النمط الفرجوي منها الذي يمتزج فيه الخطاب الترفيهي بالخطاب الجاد لصياغة خطاب سياسي مقاوم ومناهض لتوجهات الاستعمار.
استقت الحلقة دورها المحوري من الفضاءات المفتوحة التي مورست فيها، ممثّلة في الساحات العمومية التي شكلت القلب النابض للمدن القديمة المعروفة بهندسة خاصة ميّزها وجود ساحة رئيسية في قلب المدينة، تحتل مكانة المركز تحيط بها دور العبادة، والدكاكين التجارية، والمنازل، والدواوين، ومحلات الحرفيين، وغيرها كما هو الحال في جل المدن العربية والإسلامية. يحيط بكل ذلك سور له أبواب تستعمل لولوج المدينة أو لمغادرتها، وتوصد بعد الغروب فلا يلجها غريب. ومن هذه الساحات نذكر مثلا ساحة جامع الفنا بمراكش، وساحة الهديم بمكناس، وباب الفتوح بمدينة فاس وغيرهم كثير.
لكن هذه الساحات فقدت مركزيتها في التصاميم التي اختطها المستعمر للمدن التي أنشأها وفق تصوره الكولونيالي الغربي الذي راهن على طمس الهوية المميزة للمدينة الإسلامية وتعويضها بهندسة المدن الغربية خصوصا في المدن الجديدة التي أنشأها، فتم تحويل مركز المدن بالتدريج من فضاء تقليدي تشكل الفرجة مقوما من مقومات وجوده، إلى مركز تجاري واقتصادي تقوم فيه بنايات إسمنتية عالية، تضم مكاتب الشركات والإدارات وغيرها، وهكذا “أفرغت المدينة القديمة من عمقها الديني والدنيوي بفعل التحديث القسري، وأصبحت معظم الساحات مجرد أمكنة للذاكرة، أو على أبعد تقدير، متاحف حيّة لمغرب الأمس”[iii]، كما حدث مع ساحة جامع لفنا التي تحولت تحت محاولات التحديث غير العقلاني لمدينة مراكش إلى “بازار Bazar” يروم استعادة الماضي لكن بطريقة تجارية فجة أنتجت فضاء سياحيا مصطنعا، وقد أثّر هذا التحديث القسري على بنية المدينة، التي تميّزت إلى حدود ما قبل دخول المستعمر بالانسجام بين طبقاتها ومكوناتها، وتكاملها، لكن المخطط الاستعماري الفرنسي-الإسباني نجح “في إقامة مجتمع مغربي “فصامي”، من خلال استراتيجيات بناء مدن خارج أسوار المدن القديمة، وعزل ديناميات الشفاهية عن الحياة الشعبية للإنسان المغربي، بحيث أحدث انتصاب المدن الجديدة والبنايات المسرحية على شاكلة العلب الإيطالية بوصفها بدائل عن المدن العتيقة، تقهقر الممارسات الفرجوية (الحلقة خصوصا) التي وجدت نفسها مضطرة إلى التزام وضعية دفاعية[iv]، وفي ظل التحديث المحموم لبنية المدن، صار صمود الفنون الخارجية التي تُمارَسُ خارج فضاء العلبة الإيطالية رمزا للمقاومة وشكلا من أشكال استفزاز الهيمنة العصرية على قلب المدينة وفنونها، ومحاولة لإعادة تملّك دروبها من خلال خلق فضاءات هامشية ينشئها فنانون تعذر على القوالب الجديدة احتواءهم، فنانون فوضويون بطبعهم، مهمشون اختزلتهم شخصية الحلايقي (أو الفنان الذي ينشّط الحلقة) تلك الشخصية المشاكسة، المتمردة على السّائد والرّسمي، التي تتخذ من الهامشي، والطابو، والمسكوت عنه مادة لاشتغالها، منتجة عروضا تختزل تاريخا فرجويا يمتزج فيه التجديدي بالأصيل، والإيديولوجي باليومي البروميثي، والمقدس بالمدنس، كل ذلك بلغة الحياة اليومية دون تكلّف.
فغدا مشهد المتفرجين المتحلّقين حول فنّان يقدم فرجته في فضاء مفتوح بأساليب فقيرة وقديمة فرصة لانبعاث ذاكرة المدينة من بين كتل الإسمنت والاسفلت وضجيج الآلات، وفرصة أيضا لرأب الهوة التي تزداد اتساعا بين الفن في شكله العصري المعلّب، والحياة في الشارع بنمطها المادي الحديث والسريع، أو كأننا أمام وشوم ترفض الانمحاء من زمن عالق، فتراها تلمع مضيئة لحظات من تاريخ يكاد ظلام التناسي يلتهمه. يكاد هذا الوضع يكون استعادة لما حدث في الثقافة الأوربية نفسها حيث نصادف في مراحل معينة من تاريخها “شخصية الجوال le flâneurs -التي تعد- وسيلة لإعادة تملك المدينة وتحرير الحياة اليومية من سطوة الثقافة الاستهلاكية كما نظر إليها شارل بودلير في القرن التاسع عشر، ووالتر بنيامين في ثلاثينيات القرن الماضي. وفي السياق نفسه انبعث فن الهابنينغ من رحم المدينة في ستينيات القرن الماضي مُربكا التقاليد القائمة، ومحتفيا بخاصية الزوال Ephemerality، ورافضا تشيء الفن ومحاولات جعله خاضعا لإواليات اقتصاد السوق…”[v].
تحتفظ ذاكرة الفنون الشعبية بأسماء كثيرة في مختلف مناطق المغرب، نذكر منها “بن قربال”، بمنطقة دكالة، الذي قيل في وصفه: “هو شيخ عجوز ذو لحية بيضاء مشذبة بعناية، كان يقول الأمداح والمواعظ ويلحن المتون، توفي مع بداية الثمانينات من القرن الماضي بعد أن ترك أصداء طيبة، فقد عاش فترة الاستعمار وكان ينظم أزجاله التي تحمس الرجال وترفع هممهم لمقاتلة العدو الغاصب. وخلّف بعد رحيله تلميذه “السعيدي” الذي سار على دربه”[vi]. كما نذكر حلقة المسيح”التي تقوم في بنائها على الارتجال سواء في الأفعال أم الكلام، وتتمحور حول غرض النقد الاجتماعي مغلفا بإيهاب من السخرية والتهكم اللاذع، والتعريض بمظاهر السلطة والقيم المرتبطة بها كالأسرة والقبيلة والمخزن… إلخ”[vii]. وقد تعددت الحلقات من هذا النوع في عموم المغرب متخذة من فضاءاتها ساحات حرب لمقاومة السلطة الثقافية الاستعمارية، ومن السخرية من المستعمر وكشف حيله تيمة لفرجتها. فـ”لعب شيوخ الحلقة الكبار دورا بارزا، إذ كانوا يتقنون ويجيدون فن السخرية والزجل، أمثال الثنائي “الزميميري وولد بوالليل”، و”الصلعي” و”ولدمطيشة” و”بوجمعة” و”بنعيسى الكيحل” و”ولد الجابوري”…، وهؤلاء جميعا كانوا يصدرون أقوالهم بطريقة عفوية وارتجالية يشخصون ويتقمصون أدوارا متنوعة تُجَسّد ما كان يقوم به المستعمر وعملاؤه من تحرشات وممارسات لا إنسانية اتجاه المواطن المغرب”[viii].
كان أمرا طبيعيا أن يتعرض العديد من هؤلاء للاعتقال والتضييق وحتى السجن والتعذيب من طرف سلطات الحماية والاستعمار، لكنهم ظلوا مع ذلك لسانا يستغل الهامش للتحرش بخطاب السلطة الثقافية المركزية التي هيمن عليها المستعمر ووجها لتكون في خدمته، فشكّل “فن الحلقة” بذلك شكلا من أشكال حفظ الذاكرة عن طريق التّناقل الشّفهي للأخبار والنوادر والحكايات والأمثال السائرة، وظل روادها إلى عهد قريب سفراء يصلون الماضي بالحاضر، والمدينة بالبادية، ويستدعون من المنسي دور الساحات العمومية وما ازدهر بها من ممارسات فنية وفرجوية.
لائحة المصادر والمراجع
- إبراهيم الحجري، فن الحلقة الشعبية نموذج أفضية دكالة، ضمن أعمال ندوات ذاكرة الجديدة، ط1، سنة 2012، ص 43.
- حسن بحراوي، المسرح المغربي، بحث في الأصول السوسيوثقافية،المركز المغربي الثقافي، ط 1، سنة 1994، الدار البيضاء، ص 26.
- وجيه كوثراني، التاريخ الشفوي، المجلد الأول، مقاربات في المفاهيم والمنهج والخبرات، إعداد وتنسيق وجيه كوثراني ومارلين نصر، منشورات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط1، س2015، بيروت، ص20.
- الحسن بن محمد الوزان، وصف إفريقيا، الجزء 1، ترجمة محمد حجي ومحمد الأخضر، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، مطبعة دار الغرب الإسلامي، ط2، سنة 1983، ص 276.
- خالد أمين، المسرح والهويات الهاربة رقص على حد السيف، منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة، سلسلة رقم 63، الطبعة 1، 2019، ص 47.
- خالد أمين نفسه، ص 47.
- خالد أمين نفسه، ص 45.
- إبراهيم الحجري، فن الحلقة الشعبية نموذج أفضية دكالة، ضمن أعمال ندوات ذاكرة الجديدة، الطبعة الأولى سنة 2012، ص 43.
- بحراوي، نفسه ص 26.
- موسى فقير، هذه تجليات الفرجة الشعبية بمنطقة الغرب في عهد الحماية، موقع هيسبريس، تاريخ الاطلاع 15-08-2022.